صدر حديثاً (2016م) ضمن منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث كتاب "الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية - مقاربة جندرية -" للباحثة التونسيّة وفاء الدريسي.
ويناقش الكتاب إشكالية مساهمة الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية استناداً إلى مصطلح "الجندرية"، والجندر (Gender) مقولة ثقافية تاريخية تقوم على التمييز بين الجنس، باعتباره معطى بيولوجيا، وبين الجندر وهو "البناء الثقافي والاجتماعي للجنس"؛ أي أنّ الجندر هو "الجسد الذي صنعته الثقافة"([1])، و"أوامر الثقافة واللاوعي هي التّي تملي لغة الجنس وتعريفه للجسد الأنثوي واختلافه عن الجسد الذكوري"([2]). وكانت للدراسات الجندرية صلة بـ "تاريخ النساء" الذي نشأ، باعتباره ردّة فعل على التاريخ العام الذي كاد يكون مقصوراً على الرجال، لا يروي إلاّ الأحداث البارزة التي قام بها هؤلاء، فهمّشت نتيجة ذلك أدوار النساء ومساهماتهنّ البارزة أو الخفيّة؛ إلاّ أنّه وبتطوّر الزمن وتقدّم الدراسات أدركت الباحثات المنتميات إلى المدرسة الأنجلوسكسونية أساساً ضرورة الاستعانة بمقاربة تشمل الذكورة والأنوثة بالدرس وتحلّل العلاقات القائمة بينهما. وتبيّن الباحثون - وجلّهم باحثات - أن "لا دراسة نسائية وتنموية تبدأ من وجهة نظر ترى المشكل في المرأة أو في الرجل، بل في كلّ في المرأة والرجل وفي العلاقة بينهما"([3]). وقسّمت الباحثة دراستها بحسب مجالات حضور الجواري والغلمان إلى أربعة أبواب، فكان الباب الأول تحت عنوان: "تنشئة الجارية والغلام"([4]) بحثت فيه تنشئة الجواري والغلمان من السوق إلى السيّد، فدرست إعداد الجواري والغلمان للقيام بمهامّهم منذ لحظة أسرهم إلى حين انتقالهم إلى بيت سيّدهم، ثمّ مساهمة الثقافة والمجتمع في صنع الاختلافات بين المماليك بدءاً من التسمية فالدين واللغة وصولاً إلى الهيئة فالتنشئة. ولا تقتصر التنشئة هنا على الأطفال، بل تشمل كلّ الجواري والغلمان الواردين على أرض الإسلام مهما كان سِنّهم، ذلك أنّ "التنشئة الاجتماعية" هي "العملية التي يتعلّم بها الأطفال أو الأعضاء المستجدّون في المجتمع أساليب الحياة في مجتمعهم، وتعدّ التنشئة الاجتماعية الوسط الأوّل أو القناة الأساسيّة التي يجري فيها نقل الثقافة وانتقالها على مدى الأجيال؛ فالعبيد مجلوبون إلى أرض العرب من بلدان مختلفة، أعمارهم متفاوتة، وألسنتهم متباينة، وأديانهم متعددة، وعاداتهم وتقاليدهم متنوعة. وكل هذه العوامل جعلت أمر "اندماجهم" في المجتمع الجدير عسيراً. وقد تم اقتناء هؤلاء لتلبية رغبات أسياد منتمين إلى طبقات مختلفة وللقيام بمهام متفرقة، ولهذا استوجب تكوينهم برامج خاصة تعدهم للقيام بوظائفهم وفقاً لما ينتظر منهم".([5]) "وتبدأ هذه التنشئة من لحظة دخول الجواري والغلمان أرض الإسلام، وتنقسم إلى مرحلتين أساسيتين: تبدأ الأولى داخل السوق قبل عمليّة البيع، وتتمّ الثانية عند شراء السيّد لعبيده. وحتّى نتعمّق في خصوصيّات تنشئة الجارية أو الغلام، ارتأينا تقسيم عملنا إلى فصلين رئيسيين؛ اهتممنا في أوّلهما بالتنشئة العامة للعبيد وقصدنا بها إعداد النخّاسين للعبيد قبل بيعهم، وتطرّقنا في ثانيهما إلى التنشئة الخاصّة؛ أي تنشئة السيّد لجواريه وغلمانه بعد شرائهم وتكوينهم للقيام بالوظائف التي اقتنوا من أجلها. ولم نستطع أن نوازن بين الفصلين لضغوط فرضها تفاوت المادة وقصر المدة التي يقضيها العبد في السوق مقارنة بتلك التي يقضيها عند سيده"([6]). وبما أن التنشئة مشروع كامل يهدف إلى "صناعة" جواري وغلمان يؤدّون الوظائف التي ينتظرها منهم المجتمع ويقدّمون لأسيادهم خدمات متنوّعة فقد اهتمت الباحثة في الفصل الأول بالإعداد الجسدي والمعنوي الذي يخضع له العبيد قبل بيعهم وما تعلق به من مميزات المعدين الأخلاقية والأثمان التي بيع بها الجواري والغلمان بعد إعدادهم. وكان الثمن نقطة الوصل بين التنشئة العامة التي يقوم بها النخاس في السوق من جهة، وبين التنشئة الخاصة التي يقوم بها السيد، والتي تقوم أساساً على التسمية وتغيير الدين وتعليم اللغة والتكوين والإكساء والتدريب على السلوك من جهة أخرى. وختمت الباحثة هذا الباب بتحليل سلوك كل من الجواري والغلمان بمختلف أصنافهم.
ويمكن اعتبار هذا الباب في حد ذاته تمهيداً لبقية الأبواب، فعادة ما يكون إعداد للاضطلاع بوظائفهم هو المحدد للدور الذي سيؤدونه في المجتمع، ولهذا اختارت الباحثة أن يكون الباب الثاني بحثاً في "مكانة ومساهمة الجارية والغلام في الحياة الاجتماعية"([7]) ورصدت فيه الباحثة عالمي الجواري والغلمان، ودور الجندر والعرق والطبقة في تقسيم المهام بين العبيد وقارنت بين العالمين استناداً إلى ما وفرته الكتب من ناحية، وما كان ممارساً في الحياة اليومية من ناحية ثانية، فوجدت الباحثة أنّ أصحاب القلم سعوا في كلّ مرّة إلى تقنين استعمالات كل صنف من المماليك والمملوكات، وهو ما لم يتحقّق دائماً في أرض الواقع. وقد استعانت الباحثة بـ "سوسيولوجيا الجندر" لدراسة الاختلاف في مستوى بناء العلاقات التي تربط الجواري والغلمان من جهة وتلك التي عقدوها في محيطهم من جهة ثانية. والجدير بالذكر أن وجود الجواري في بيوت الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة كانت له آثار لا تنسى؛ فمنهن أصبحن زوجات الخلفاء، وأمهات لأولادهم، والقسم الآخر أمهات للخلفاء، وأخريات أصبحن محظيات وسراري، فيما استخدمت البقية الباقية كخدم في هذه الدور بشتى أنواع الخدمة. ونتيجة لذلك أصبح للجواري في العصر العباسي شأن عظيم ومنزلة عليا لم تشغلها الحرائر في العصر العباسي، لاسيما ما يخص تدخلهن في الأمور السياسية والإدارية، فضلاً عن وظيفتها المالية.
كما اندمج الجواري والغلمان في الحياة الاجتماعية بعد التنشئة التي تلقّوها استعدادا للاضطلاع بأدوارهم، "إلاّ أنّ وضعيتهم "القانونية" "العبودية" وجّهت حياتهم الخاصّة وعلاقاتهم بالمحيط الخارجي. فقد قضي على العبيد أن يكونوا في حالة فصل/ وصل مع محيطهم، فانفصلوا عن مجتمعهم أو مجموعتهم الأصلية، ليدمجوا بعد فترة من التنقّل في مجموعة جديدة تقبلهم خدّاماً لكنها ترفض اعتبارهم جزءاً منها. ولهذا جمعت بينهم عوامل مشتركة جعلتهم يكوّنون "طبقة"، يعيشون ضمنها حياة خاصة ويبنون عالماً شبه مستقلّ، مهما كان جنسهم أو لونهم أو عرقهم، ومهما كانت الطبقة التي ينتمون إليها"([8]). وكثيرات من الجواري كن موزعات في دور مختلفة من فئات المجتمع على اختلاف درجاتهم الاقتصادي أو العلمية والثقافية أو الفنية، وحقيقة الأمر الواقع أن الجواري لم يبلغن هذه المكانة وتلك المنزلة في دور الخلفاء العباسيين إلا بعد الجد والجهد والتربية والتعليم والتلقين والصقل والتهذيب لكي يتفقهن في العربية، ومن هنا سعت الباحثة إلى إظهار تفاصيل حياة هذه الطبقة، لنرى ما إذا كانت حياة الجارية البيضاء المخصّصة للمتعة مختلفة عن حالة الجارية البيضاء المكلّفة بالخدمة، وحياة العبد الأسود خادم الخاصّة مغايرة لما يحياه العبد الأسود الذي يخدم العامّة، وإذا ما كانت طريقة عيش الجارية السوداء المخصّصة للخدمة عند العامّة هي ذاتها التي يعيشها العبد الأسود القائم بالمهامّ نفسها. وما تصنيفنا للعبيد بهذه الطريقة سوى محاولة لتحديد العوامل المكوّنة لذواتهم ولمواقعهم في المجتمع وللعلاقات التي عقدوها مع غيرهم.
وقد اعتمدت الباحثة في هذا الباب على مقاربة "الجندر في علاقته بالعرق والطبقة"، لأنّ هذا الثالوث - من وجهة نظرها - يمثل الدعامة الرئيسية للدور الاجتماعي الذي اضطلع به كل من الجارية والغلام وجسّداه. وقد قسّمت باب "مكانة الجواري والغلمان في الحياة الاجتماعية" إلى قسمين رئيسين؛ درست في الأوّل "عالم الجواري" و"عالم الغلمان"، وفي الثاني مختلف العلاقات التي عقدوها مع محيطهم.
ويرمي البحث في عالم الجواري والغلمان إلى تفكيك مختلف خصائص هذا العالم وإعادة تأليفه لرسم صورة تقريبية له تعكس تمثّلاً عنه. فهذا العالم مختلف، رغم ما فيه من متشابهات تتجلّى أساساً في تشيء الجارية والغلام وتبعيّتهما المطلقة للسيد. وهذا الاختلاف هو الذي يسيّر دورهم في المجتمع وكيفية قيامهم به، كما أنّه يبرز أوجه حضورهم فيه.
ووظّفت الباحثة في الباب الثالث "مساهمة الجارية والغلام في الحياة الثقافية"([9])، فأبرزت اختلاف الثقافات التي يتلقّاها الجواري والغلمان المنتمين إلى طبقات اجتماعية متباينة باختلاف الزمان، وكان هدفها من وراء ذلك رصيد تطوّر ظاهرة "تثقيف الجواري والغلمان"، كما قامت بتتبّع الآثار التي خلّفتها هذه الفئة من شعر ونثر وعلم وعادات باختلاف المكان والزمان أساساً. وعلى مدار التاريخ الإسلامي، نجد أن أكثرية الجواري يمتلكن صنعة مثل الشعر والأدب والقصة والمساجلة الشعرية والغناء والعزف والرقص والطرب، وبعض منهن أبدعن في الشعر والغناء، حتى ألفت عنهن كتب كثيرة منها: رسائل القيان للجاحظ (ت 255 هـ / 869 م)، وكتاب القينات، لإسحاق بن إبراهيم الموصلي (235هـ / 849م)، وكتاب القينات للمدائني (ت 225هـ / 839م).
ولئن اضطلعت الجواري والغلمان بأدوار اجتماعية متعدّدة، فإنّ فئة منهم خصصت لإمتاع السيد والترفيه عنه في عصور تنوّعت فيها المجالس واحتاجت لعدد كبير من الجواري والغلمان لتأثيثها. فبرز منهم المغنّون والمغنّيات، والشعراء والشاعرات، والأدباء والأديبات وغيرهم ممّن خلّد التاريخ أسماءهم، فلم يكن هناك بدّ من تثقيفهم وتعليمهم وتكوينهم تكويناً خاصاً يجعلهم يتحوّلون من متعلّمين إلى منتجين أو إلى مواضيع قصائد عديدة.
وناقشت الباحثة في هذا الباب مسألتين أساسيتين هما: "ثقافة الجواري والغلمان" و"أثر الجواري والغلمان في الحياة الثقافية"([10]). وتعرضّت لدراسة مختلف "العلوم" التي يتلقّاها هذا الصنف من الجواري والغلمان، وأبرزت مدى اختلاف الثقافة التي يتلقّاها الجواري والغلمان باختلاف الطبقة التي ينتمون إليها والحقبة التاريخية التي عاشوا فيها والمكان الذي تعلّموا فيه مركّزة، في كلّ مرة، على الفرق بين ثقافة الجارية وثقافة الغلام. وبما أنّ العبيد "المثقّفين" كانوا الأكثر تأثيراً في عالم السياسة، خصّصت الباحثة الباب الرابع والأخير لدراسة مساهمة الجواري والغلمان في الحياة السياسية. وفيه درست دور التمييز بين الجنسين في تشكيل أوجه حضور الجواري والغلمان في القصور الإسلامية، وتحديد الأدوار التي اضطلعوا بها داخلها، وتطوّر هذه الوظائف بتطوّر الزمن. ثمّ جمعت بين المقاربة الجندرية وعلمي النفس والاجتماع لتبرز مدى اختلاف مشاركة كلّ من الجارية والغلام في "انحطاط" الحضارة الإسلامية وكيفية استغلالهما لمنصبهما. وختمت الباب بإبراز الفروق بين "دول الجواري" و"دول المماليك"([11]) من حيث كيفيّة وصول المماليك ذكوراً وإناثاً إلى الحكم، وتوليهم السلطة، وكيفية تسييرهم لشؤون الدولة، فمواقف "سلطة الضبط" من هذه الدول باختلاف جنس حاكمها. لقد ارتبط عالم الجواري والغلمان بالحياة السياسية في الحضارة العربية الإسلامية بمختلف حقبها ارتباطاً وثيقاً نتيجة لعلاقة مجموعة هامة من هذه الفئة بأهل السياسة الذين حرص التاريخ على تسليط مجهره عليهم. وفي محاولة من الباحثة للإلمام بجلّ أوجه حضور هذه الفئة في عالم السياسة، فرّعت الباحثة فصول هذا الباب الأخير إلى: فصل أول تطرقت فيه إلى حياة الجواري والغلمان في القصور([12])، وفصل ثان تناولت فيه دورهم في انحطاط الحياة السياسية بالتحليل([13])، وفصل ثالث درست فيه الفرق بين "دولة المماليك" و"دولة الجواري"([14]). واعتمدت الباحثة على المقاربة الجندرية دليلاً إلى مواطن تدخل الثقافة في تشكيل مساهمة كلّ من الجارية والغلام في الحياة السياسية وأوجه حضورهما فيها. ووظّفت المقاربة التاريخية أيضاً، لتبيّن مدى اختلاف مشاركة الجواري في عالم السياسة عن مشاركة الغلمان باختلاف الزمان. وقدّمت الباحثة عرضاً لـ "حياة الجواري والغلمان في القصور" من حيث وظائف كلّ منهما وموقعهما في حياة الساسة، ومن حيث تأثير كلّ من الجارية والغلام في الحياة السياسية.
وقد أظهرت الدراسة أنّ الحضور الفعلي لهذه الفئة كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالزمان والمكان، إذ كانت جواري العصر العباسي في المشرق والعصر الأموي في الأندلس أكثر تأثيراً في السادة من بقية العصور، حيث برزت في أواسط العصر العباسي أعداد كبيرة من الجواري داخل البلاط العباسي يقمن بخدمة زوجة الخليفة أو الخليفة شخصياً أو لأم الخليفة، وفي بعض الحالات كن يتواجدن جميعهن في قصر الخليفة معاً، بينما عرفت دول المماليك مشرقاً ومغرباً أكبر حضور للغلمان الذين سيّروا شؤون الدول التي حكموها.
ووضّحت الدراسة أنّ تنظيم مهامّ المماليك بجنسيهما كان هو الآخر مرتبطاً بالزمان، فصار من الممكن منذ الدولة الفاطمية الحديث عن "مؤسّسة للغلمان"، لأنّ العناية بهذه الفئة مثّلت علامة مميّزة من علامات الدويلات التي انشقّت عن الدولة العبّاسية انطلاقاً من تلك الحقبة التاريخية. وأكسب تعدّدُ الغلمان داخل القصر وتنوّع مهامّهم السيد هيبةً شبيهة بتلك التي اكتسبها قيصر وكسرى وغيرهما ممن اقتدى بهم سلاطين العرب وأمراؤهم. وانتظرنا في المقابل العصر العثماني، ليتّضح لنا تنظيم "مؤسّسة الحريم" ويرجع ذلك، بحسب رأي الباحثة، إلى أنّ التغيير الذي حدث فيما أطلقت عليه الباحثة بمؤسسة الغلمان كان أبرز وأوطد علاقة بسيرورة الحياة السياسية ولهذا سلّط عليه المؤرّخون مجهرهم، كما أنّ أيّ تغيير في عالم الحريم يكون عادة خفيّاً يعسر رصده، ولولا المراجع التي استمدت مادّتها من مصادر باللغة التركية لما تيسّر لنا اكتشاف كيفيّة تنظيم أدوار الجواري داخل القصر في العصر العثماني.
وتميزت الدراسة بأنها بحثت في أدوار الجواري والغلمان داخل القصور بحثاً عن مظاهر الميز بين الجنسين، فتبيّن أنّ الإناث اضطلعن، عادة، بكلّ ما يتعلّق بأعمال التنظيف والغذاء والكسوة فضلاً عن الإمتاع، فيما قام الغلمان بأعمال التنظيم والإدارة والعرض وبالأشغال التي تستوجب مشقّة؛ أي أنّ تقسيم الأدوار بين العبيد خضع لما ضبطته الثقافة حين قصرت أعمال المرأة على الاعتناء بالشؤون المنزلية، وكلّفت الرجل بالأعمال التي تستوجب قوّة وبروزا. ورغم تعدّد وظائف الجواري والغلمان في القصور، فإنّ التأثير في الحياة السياسية كان شبه مقصور على المحظيات وأمّهات الأولاد والقهرمانات من النساء، وعلى غلمان الخدمة وغلمان الحروب.
لقد تعدّدت أدوار الجواري في القصور وتنوّعت بتنوّع الحقب التاريخية، ولكنّ المحظية، التي جمعت كلّ ما أرادته الثقافة في الأنثى، وحدها هي التي استطاعت أن تخلّد اسمها في كتب التاريخ إذ أرادت الثقافة من المرأة أن تكون جميلة، ومطواعة، وولودة، وضعيفة أمام الرجل لا حياة لها دونه، وشاءت الثقافة السائدة أن تجعل الرجل مستسلماً أمام هذا الصنف من الجواري، ضعيفاً أمام دموعهنّ، ومسلّماً لهنّ مقاليد حياته، فكان هذا مفتاح تدخّل النساء محظيات كنّ أو أمّهات في عالم السياسة. أمّا اللواتي لم يطابقن جندرهنّ في هيأتهنّ أو سلوكهنّ وخالفن ما أملته عليهنّ قوانين المجتمع طوعاً أو كرهاً، فلم يجنين من احتكاكهنّ بدنيا السياسة إلاّ بعض المال.
كما كان الغلام الذكيّ القويّ الشجاع الذي يجيد تعويض السيد عند انشغاله عن مهامّه الأقدر على تسجيل اسمه في التاريخ الإسلامي. أمّا غلام المتعة، فقد اقتصر حضوره على مجالس اللهو، بل أثبت هذا الصنف من الغلمان عجزه عن المشاركة في الحروب أو أداء المهامّ الصعبة التي تستوجب صلابة وقوّة، فلم يجن أمثال هؤلاء من حياتهم في القصور إلاّ مالاً واجهوا به مشاقّ الحياة بعد انتهاء صلاحيّاتهم. وهذا ما يبرز اشتغال الثقافة على الطبيعة، فإن احتاج المجتمع لغلمان متعة صنع غلماناً لا يجيدون إلاّ الغنج، والتأنّث، والدلال، وكيفية فتنة الرجل وإمتاعه، ومنع عنهم ما ينشأ عليه الذكر عادة من حزم، وقوّة، وصلابة، لأنّ هذه الصفات تمنعه من الاضطلاع بوظائفه على أكمل وجه.
وكان تأثير هؤلاء المماليك في الحياة السياسية انطلاقاً من هذه الوظائف التي اضطلعوا بها سلبياً في جلّ الأحوال، ذلك أنّهم غرباء عن البلد الذي عاشوا فيه ولم يستطيعوا الاندماج فيه تمام الاندماج، ولا استطاع الأحرار تقبّلهم إلاّ باعتبارهم عبيداً. وترتّبت عن هذا الأمر علاقة متوتّرة بين الطرفين أنتجت حقداً دفيناً لدى العبيد بجنسيهما، فاستغلّوا مناصبهم مادّياً ومعنوياً وتسبّبوا في فتن ومكائد عديدة ساهمت في فترات عديدة في زوال دول وقيام أخرى بحسب ما تقتضيه مصالحهم غير مبالين بالأضرار التي ألحقوها بالبلاد والعباد. وكانت هذه الدسائس خاضعة لاختلاف السلوك وتقسيم المكان والزمان على حدّ السواء.
وارتبطت الدسائس أيضاً بتقسيم الزمان، فكانت المرأة تدبّر مكائدها في الليل أساساً عندما يعود إليها السيّد، فتوسوس له بما تريد فعله، أو عندما ينشغل عنها بجارية أو حرّة أخرى فتختلي بغلامها أو بقهرمانتها من أجل تنفيذ ما تصبو إليه. والليل لصيق الستر والكتمان، وهما صفتان نسبتهما الثقافة إلى الأنوثة. ويدبّر الغلمان، من ناحية أخرى، دسائسهم وينفّذونها ليلاً ونهاراً على حدّ السواء دون قيود ولا خوف، وقد ورد هذا الأمر نتيجة حتمية للتنشئة التي تلقّوها، والتي جعلتهم لا يخشون عوائق الزمان والمكان لقدرتهم على الفعل وردّ الفعل.
ولعل أبرز أثر تركه الجواري والغلمان في التاريخ الإسلامي تأسيسهم لدول خاصّة بهم. ولئن كانت الحالات التي حكمت فيها الجواري ممالك قليلة، إلاّ أنّ القاسم المشترك بينهنّ تمثّل في كيفية استيلائهن على الحكم، وهي وراثة السلطة عن الأب أو الزوج. وبدأت الخطوة الأولى لوراثة السلطة عن الزوج من الفراش، أي من الفضاء الحميمي، فمن هذا الفضاء استطاعت كل من "علم" و"شجرة الدرّ" أن تتعلّم أسرار الحكم وأن تثبت للزوج الذكاء والفطنة حتّى يثق بها ويوكل إليها أمور الدولة، فلم يعسر على أيّ منهما فيما بعد تسيير البلاد. وهذا يؤكد أنّ المرأة ليست عاجزة عن الحكم بسبب أنوثتها أو تكوينها البيولوجي، بل هي قادرة متى تلقّت تكويناً وتنشئة مناسبين على سياسة الرعية أحسن سياسة مثلما فعلت شجرة الدرّ. فالفوارق بين الذكور والإناث ليست إلاّ فوارق ثقافيّة.
وقد اختتمت الباحثة الدراسة بقائمة لأهم مصادر ومراجع الدراسة التي استعانت بها في إنجاز هذا الكتاب المتميز([15]). لقد تميّزت الدراسة بإلقائها الضوء على مظاهر الاختلاف بين الجنسين في الفترة المدروسة، وتفكيك الأنماط الاجتماعية الثابتة التي صنعتها الثقافة، وجعلتها بمثابة اعتقادات يحملها الناس عن الرجال والنساء ويخضعون لها.
كما أنها اعتمدت المقاربة الجندرية بالاعتماد على الثالوث "الجندر / الطبقة / العرق" منهجاً، وقامت بتطبيقه على عدد من كتب التراث وهو منهج وأسلوب دقيق يحسب للباحثة.
ونجحت المؤلّفة أيضا في الكشف عن أثر تنشئة وإعداد العبيد للاضطلاع بأدوارهم في تحديد الوظائف التي قاموا بها، واستطاعت إماطة اللثام عن المحرّكات التي وجهت السلوك الذي انتهجوه والعلاقات التي ربطوها مع من يحيط بهم، وعملت على الكشف عن أسباب اضطلاعهم بأدوار حساسة في مختلف مجالات الحياة، مركزة في كل هذا على الفرق بين حضور كل من الجارية والغلام في الثقافة، لتحصل على صورة تقريبية لعالم الجواري والغلمان، وهو ما حقّقته بالفعل وبصورة إيجابية.
إلاّ أن الباحثة لم تنجح، نسبيّا، في توظيف المادة المتناثرة بين بطون كتب التراث - الأدبية والتاريخية والفقهية والجغرافية - على كثرتها للحديث عن مساهمة الجواري والغلمان في الحياة الاقتصادية، وكأنّ المؤلّفة بهذا الإغفال قد أسقطت فصلاً كان سيصبح من أهم فصول الدراسة.
كما جاءت خاتمة الدراسة مختزلة بعض الشيء لا تتناسق مع قيمة وأهمية الموضوع المدروس، وربّما كان من الأفضل أن تشتمل الخاتمة على نتائج الدراسة بكافّة أبوابها وفصولها مع وجود توصيات تعمل على استشراف المستقبل، لتعطي الدراسة قيمة مضافة خاصّة وأنّ للباحثة القدرات المعرفيّة المطلوبة التي تؤهّلها للقيام بذلك.