من الناحيتين المنطقية والتاريخية، يبدو «طبيعيّاً» هيمنة التوتر على العلاقة بين الفلسفة والدين. فمن الناحية المنطقية، يبدو أنَّ الطرفين يشغلان الحقل المعرفي- الروحي ذاته، حيث إنهما يتناولان، في كثيرٍ من الأحيان، الأسئلة ذاتها، لكنهما يتعاملان معها تعاملاً مختلفاً. ففي حين أنَّ الفلسفة تحوِّل هذه الأسئلة إلى تساؤلات مفتوحة تغني الفكر، وتثير التفكير، وتصبح نقطة انطلاقٍ لأسئلةٍ جديدةٍ وإجاباتٍ مختلفةٍ، يميل الدين إلى القضاء على هذه الأسئلة وإغلاق آفاقها الممكنة، من خلال تقديم إجاباتٍ يقينيةٍ ونهائيةٍ عنها. ومن الناحية التاريخية، اتسمت العلاقة بين الفلسفة والدين بالسمة الصدامية غالباً؛ وبدا ذلك واضحاً، وضوحاً خاصّاً وكبيراً، في العصور الوسطى، «الإسلامية» و«المسيحية»، على حدٍّ سواءٍ، حيث كان حضور الدين طاغياً ومهيمناً. وفي مناظرته مع رينان، جمع الأفغاني بين الرؤيتين المنطقية والتاريخية، حين أشار إلى أن «الصراع بين الدين والفلسفة سيستمر استمرار التاريخ الإنساني» نفسه.
وعلى الرغم من اشتراك العالمين «الإسلامي» و«المسيحي»، في العصور الوسطى، بتلك الهيمنة الدينية، إلا أن ذلك لا ينفي وجود اختلافاتٍ مهمةٍ، فيهما وبينهما، في خصوص العلاقة بين الفلسفة والدين. وأحد الاختلافات الأساسية، في هذا المجال، تكمن في أن توما الأكويني، بوصفه (أحد) أبرز الفلاسفة المسيحيين، حاول آنذاك شرعنة الدين، أو إظهار معقوليته، من خلال اللجوء إلى الفلسفة؛ أي من خلال البرهنة العقلية على أحقية وجود الدين ومعقولية أطروحاته الأساسية. في المقابل، حاول ابن رشد، وهو (أحد) أبرز الفلاسفة المسلمين، أن يبيِّن أن الدين يسمح بالتفلسف ويحضُّ عليه؛ وعلى هذا أساس هذا التسويغ الديني، حاول ابن رشد إظهار مشروعية الفلسفة. وباختصارٍ، أعطى توما الأكويني للفلسفة سلطة تحديد أو إثبات مشروعية الدين ومعقوليته نظريّاً، في حين أن ابن رشد قد رأى أنَّ الفلسفة هي من تحتاج إلى التسويغ الديني، لا العكس، وأنَّ الدين هو الذي يمنح الفلسفة مشروعية الوجود، ويبين مدى فائدة هذا الوجود وضرورته، لا العكس.
وعلى الرغم من أنَّ العلاقة بين الفلسفة والدين، تختلف جذريّاً، في العالم المعاصر، عما كانت عليه في العصور الوسطى، إلا أنه من الممكن أن نجد، في هذا العالم، صيغاً جديدةً ومماثلةً أو مشابهةً للاختلاف السابق بين ابن رشد وتوما الأكويني. ولتوضيح الصيغة المعاصرة من هذا الاختلافــــ، سأحاول في هذا النص أن أجيب عن السؤال التالي: ما الذي يمكن و/ أو ينبغي للفلسفة أن تفعله، عند تناولها للدين أو الظاهرة الدينية؟ الإجابة باختصار هي أن مهمة الفلسفة تتجسد، خصوصاً أو تحديداً، في التحليل المفاهيمي والنقد على الطريقة الكانطية. وسأشرح في ما يلي هذه المهمة المزدوجة.
إضافةً إلى المواجهة المباشرة المستمرة بين الفلسفة والدين، ثمة صيغٌ معاصرةٌ، غير مباشرةٍ، للمواجهة بينهما، وتكمن، خصوصاً أو تحديداً، في المواجهة بين العلم والدين، على الصعيد المعرفي، وبين الديمقراطية (العلمانية) والدين أو الإسلام (السياسي أو الجهادي)، على الصعيد السياسي والثقافي عموماً. وهذه المواجهة بين الدين، من جهةٍ، والعلم والديمقراطية، من جهةٍ أخرى، هي مواجهةٌ غير مباشرةٍ مع الفلسفة؛ لأن العلم هو ابن الفلسفة تاريخيّاً، ولأن مواجهة الدين مع العلم هي، في الواقع، مواجهةٌ مع فلسفة العلم تحديداً. في المقابل، ترتبط الديمقراطية (العلمانية) بالفلسفة، من خلال الارتباط الوثيق بين القيم الديمقراطية، من جهةٍ، وقيم الفلسفات العقلانية التنويرية والليبرالية ونضال الفئات المضادة للسلطة الدينية من أجل العلمانية، والتخلص من هيمنة هذه السلطات، والمساواة الأخلاقية والقانونية بين الأفراد/ المواطنين، من جهةٍ أخرى.
في المواجهة بين العلم والدين، يمكن للتحليل المفاهيمي وممارسة النقد الفلسفي، على الطريقة الكانطية، أن يسمحا لنا بتجاوز، ليس الإمبرياليتين العلمية والدينية، على الصعيد المعرفي، فحسب، بل والإمبريالية الفلسفية أيضاً. وأقصد بالإمبريالية، في هذا السياق، نزعة الهيمنة الشاملة التي ترفض الاختلاف الأفقي، ولا ترى إلا تراتبيةً عموديةً، يحتل فيها صاحب هذه النزعة أعلى المراتب، فيما تأتي الأطراف الأخرى في الأسفل، بالمعنى المعياري للكلمة. فالإمبريالية العلمية تتمثل في علمويةٍ ترى أن العلم هو وحده القادر على الوصول إلى الحقيقة (و)الموضوعية في ميدان المعرفة؛ وكل ما عداه من المعارف، بما فيها المعارف الدينية والفلسفية، لا قيمةً (كبيرةً) له موضوعيّاً. وتتبنى الإمبريالية الدينية منطقاً مشابهاً، لكنها تضع الدين في المرتبة الأعلى بالتأكيد، وترى أنَّ قيمة المعارف الأخرى تعتمد على مدى تطابقها مع المعرفة الدينية وخدمتها لها؛ وكل معرفةٍ تتناقض مع المعرفة الدينية معرفةٌ زائفةٌ بالتأكيد. وإضافة إلى التحليل الفلسفي للمفاهيم الأساسية المؤسسة لكل طرفٍ عموماً، ولعلاقتهما بالميدان المعرفي خصوصاً، يمكن للفلسفة أن تقوم بتحديد المشروعية، الجزئية والنسبية التي يتمتع بها كل طرف في المجال المعرفي، وحدود هذه المشروعية، في الوقت نفسه. وفي هذا التحديد للمشروعية وحدودها، يمكن للنقد أن يتخذ نمطاً كانطيّاً.
وإضافةً إلى نقد الإمبرياليتين السابقتين، يمكن وينبغي للفلسفة أن تمارس نقداً ذاتيّاً تجاه إمبرياليتها الخاصة التي تتمثَّل في «نزعةً فلسفويةً» ترى أن الفلسفة ليست رأس الحكمة وقمة المعارف، من حيث المكانة، فحسب، بل هي أيضاً منبع الخير (وأساس الجمال)، في استعادةٍ، جزئيةٍ أو كاملةٍ، ضمنيةٍ أو صريحةٍ، للمماهاة السقراطية/ الأفلاطونية بين الحقيقة والخير. ووفقاً لهذه النزعة، لا يكون الخير و/ أو الحقيقة إلا من حيث كونهما مرتبطين بالفلسفة، ولا تكون الفلسفة إلا من حيث كونها حقيقيةً وحقةً و/ أو خيرةً وأخلاقيةً. من الواضح سلبية هذه النزعات الإمبريالية، وضرورة الحد من حضورها وتأثيرها، من خلال موقفٍ مزدوجٍ، يقرُّ بمشروعية كل ميدانٍ أو مجالٍ، من جهةٍ، ويعترف بوجود حدودٍ لهذه المشروعية، من جهةٍ أخرى.
في خصوص العلاقة بين الديمقراطية (العلمانية) أو العلمانية (الديمقراطية) والإسلام، نرى أنَّ التحليل المفاهيمي النقدي هو أهم ما يمكن أن تقوم به الفلسفة. وسأقوم، في ما يلي، بالإشارة المكثفة إلى بعض الإشكالات الأساسية التي ينبغي لمثل هذا التحليل أن يثيرها ويتعامل معها. وبقيامي بذلك، أود أن أعطي أنموذجاً عمليّاً للعلاقة، المباشرة وغير المباشرة، بين الفلسفة والدين (الإسلام).
قبل الإجابة عن السؤال المتعلق بالعلاقة بين الديمقراطية (العلمانية) أو العلمانية (الديمقراطية) والإسلام، ينبغي أن نعلم ما المقصود تحديداً بالمفاهيم التي يتضمنها هذا السؤال. ففي خصوص مفهوم الإسلام، هل نقصد، بهذا المفهوم، الإسلام بوصفه ديناً، أم الإسلام بوصفه تديناً. وبكلماتٍ أخرى، عند الحديث عن الإسلام، هل نقصد الإسلام النصي (إسلام القرآن والأحاديث) أو الإسلام الأول (إسلام الرسول) أم الإسلام التاريخي (الإسلام كما تجلَّى في ممارسات المسلمين عبر التاريخ). قد يُظنُّ أنَّ مثل هذه التمييزات لا تضيف إلا تعقيداتٍ، لا فائدةً (كبيرةً) تُرجى منها. للرد على مثل هذا الظن المحتمل، نطرح السؤال التالي «هل يُبيح الإسلام العبودية؟». لقد كان المسلمون يبيحون العبودية، نظريّاً وعمليّاً، حتى النصف الثاني من القرن العشرين؛ لكن، في الوقت الحالي، معظمهم، على الأقل، لا يبيحها. ومن هنا نقول، في ردنا على السؤال السابق: من جهةٍ أولى، إنَّ الإسلام النصي أو الإسلام الأول (كان) يبيح العبودية، ومن جهةٍ ثانيةٍ، إن الإسلام التاريخي، بوصفه إسلام المسلمين المعاصر، لا يبيح العبودية حاليّاً، على الرغم من إباحته لها سابقاً، وإلى فترةٍ قريبةٍ، نسبيّاً.
من دون إقامة مثل هذا التمييز المفاهيمي، لا يمكن الإجابة (بدقةٍ) عن السؤال المذكور، وستفتقر محاولات الإجابة إلى أداةٍ مفاهيميةٍ لا غنىً عنها. وانطلاقاً من مفهوم «الإسلام التاريخي»، يمكننا تأكيد المحايثة الدائمة للهيرمينوطيقية أو التأويلية لكامل الحقل الديني (الإسلامي). فالإسلام إسلاماتٌ دائماً. ومحاولة اختزاله إلى إسلامٍ واحدٍ، أو منظورٍ أحاديٍّ، يعبِّر عن جهلٍ معرفيٍّ، و/ أو سوء نيةٍ أخلاقيةٍ، و/ أو انحيازٍ أيديولوجيٍّ غير موضوعيٍّ، أو عن كل ذلك، في الوقت نفسه. ويفيد مفهوم «الإسلام التاريخي» في تجنب الوقوع في أي نزعةٍ ماهويةٍ أو ثقافويةٍ ترى أن للإسلام، بوصفه ديناً أو ثقافةً، ماهيةً واحدةً ثابتةً أو جامدةً تجعله يقبل أو لا يقبل، بالضرورة، الديمقراطية. فتاريخية الظاهرة تنفي سكون ماهيتها، وأحادية هذه الماهية، ولا-جدليتها، في الوقت نفسه.
اليوم في 8:03 am من طرف سميح القاسم