وحدة الخطاب الرشدي بين الفقه والفلسفة: قراءةٌ في كتاب الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي
[size=40]23يونيو 2021بقلم نبيل فازيو قسم: الدراسات الدينيةحجم الخط
-18
+للنشر:
13[/size]
على الرغم من أن عنوان الكتاب يوحي، بأن مدار حديثه على العلاقة القلقة التي ما انفكت تجمع القول الفقهي بالقول الفلسفي في الخطاب الرشدي، ورغم ما توحي به مقدمته من رغبة في الخوض في سجال، بات كلاسيكيًا بين الرشديين، حول طبيعة العلاقة التي تربط الفقه بالفلسفة في الخطاب الرشدي، فإن الناظر في تضاعيف هذا المصنف يُدرك أن الهم الرئيس الحاكم له تجلى في وضع اليد على الوحدة الحاكمة لخطاب أبي الوليد، إن على المستوى اللا إشكالي أو التكويني أو الدلالي. ولعله ليس تزيدًا في القول، إن الذي حمل المؤلف على خوض مجازفة قراءته التركيبية للمتن الرشدي، رغبة ٌتتجاوز الحدود الضيقة للعمل الأكاديمي المحض إلى رهانات أبعد، تتمثل، على حد تعبيره، في "الرغبة في امتلاك ابن رشد العربي المسلم، وفي إعادته إنسانيا إلى جسم الثقافة العربية الإسلامية، التي نشأ فيها فقيهًا، وترعرع فيها فيلسوفًا". من هنا وجب القول إن هذا الكتاب، بقدر ما يقدم لقارئه فهمًا رصينا للخطاب الرشدي، فإنه يرسم معالم قراءة جديدة ومغايرة لتراث أبي الوليد، تنكب الأحكام المسبقة التي تناسلت على هامش التفكير فيه، عند الباحثين عربًا ومستشرقين، منذ أعمال رينان ومونك. أما جوازه إلى ذلك، فتمثل في بيان الوحدة التي يتسم بها فكر ابن رشد، ولعله من الغني عن البيان القول،إن بورشاشن يصطف بموقفه هذا إلى جانب المدافعين عن وحدة المتن الرشدي، كإرنالديز والمرحوم جمال الدين العلوي، بل إننا نجد في عمله نوعًا من الاستمرارية لكتاب المتن الرشدي، مع وعيه بضرورة البحث عن وحدة أشسع، تشمل المؤلفات التي اعتبرها المرحوم جمال الدين أدخل في باب مرحلة الضروري في الكمال الإنساني، حتى يصبح المتن الرشدي قادرًا على الاندراج في وحدةٍ شاملة ممكنةٍ.
هكذا، صار من الصعب أن نتحدث، بعد عقد هذا المصنف، عن فلسفة أبي الوليد بمعزلٍ عن رؤيته الفقهية والأصولية. كما أنه لم يعد من المقبول، أن يقرأ المرء كتبه الفقهية من دون استحضار المقدمات الفلسفية التي صدر عنها الموقف الرشدي برمته، بل إن المؤلف يذهب في بيان مظاهر وحدة الخطاب الرشدي إلى حدودٍ بعيدةٍ، يقر فيها بإمكانية تفهم المنطلقات الصوفية لفكر أبي الوليد، وما كان لها من عظيم الأثر في ترسيم قواعد ممارسته، لفعل التأمل في مختلف مستوياته؛ الأمر الذي يجعلنا أمام قراءةٍ، بقدر ما تريد لنفسها أن تكون قولًا مُفصلًا في العقلين الفقهي والفلسفي، بقدر ما إنها لا تقيم فصلًا قاطعًا بينهما وبين الرؤية الصوفية، التي نهل منها أبو الوليد قواعد ممارسته العلمية. هكذا، يضعنا الكتاب أمام أفقٍ منفتحٍ لفهم منابع الفكر الرشدي وتفاعل مكوناته، تتكامل فيه صورة ابن رشد القاضي مع صورته كفقيه وكفيلسوف وكشارحٍ لمتن المعلم الأول، وكناقد لمناهج المتكلمين ومساجلٍ لأطروحاتهم. كان على المؤلف أن يسوق أمثلةً، من مجالات معرفية متعددة، امتد فكر ابن رشد للتفكير في قضاياها، يقيم بها الدليل على وجود تلك الوحدة الناظمة للخطاب الرشدي. ولعل الذي حمله على ذلك، ما يمكن أن نلاحظه من حضورٍ فريد للدعوة إلى التأمل العقلي في فكر هذا الفيلسوف، إذ نجدها دعوةً تحضر في متنه الفقهي كبداية المجتهد، كما في كتبه الفلسفية والنقدية. لم يدع الباحث إمكانية رد هذه الدعوة إلى التكوين الفقهي لابن رشد فقط، رغم أنه بذل جهدًا كبيرًا في بيان الجو الثقافي والعلمي الذي تفتق عليه وعي أبي الوليد، مركزًا على رصد نزوعٍ إلى الاجتهاد، ونبذ التقليد كسمةٍ جوهريةٍ اتسم بها ذلك الجو؛ فمنطق وحدة الخطاب الرشدي استلزم التنقيب عن تجليات النَفَس الاجتهادي في مختلف مكونات المتن. لذلك يشعر القارئ في كتاب بورشاشن، أن صاحبه يتحرك في جبهات فكرية متعددة؛ بين الفقه والفلسفة والكلام والسياسة، يتنقل بينها جيئة ًوذُهوبًا، دون أن يشعرك بوجود اختلافٍ بينها، من حيث هي مجالاتٌ للتأمل والتدبر؛ فكان من نتائج ذلك، أن المؤلف انصرف إلى تصحيح الكثير من الأحكام المتداعية عن ابن رشد ومتنه، وقد أسعفته فكرة الوحدة بما يكفيه من العدة المنهجية والمفاهيمية التي أعاد بواسطتها ترتيب أوضاع الخطاب الرشدي.