الرأسمالية بوصفها ديناً هي فكرة تستحق النظر العميق؛ فهي لا تتعلق فقط بنظام اقتصادي بل تتشابك مع مفاهيم وأيديولوجيات تتجاوز الجانب المادي لتتغلغل في بنية القيم والمعتقدات والثقافات. حينما نعتبر الرأسمالية ديناً، نعيد التفكير فيها كمنظومة تحمل ملامح الطقوس، العقائد، الولاءات، و"الآلهة" الخاصة بها. هذا المنظور يسبر الأغوار الخفية للرأسمالية ويكشف عن علاقتها بتشكيل أنماط الحياة والتفكير وحتى هويات الأفراد.
1. الرأسمالية كدين للربح والربحية
- في الأديان التقليدية، نجد قوى روحية عليا أو آلهة تعبّر عن الخير أو الشر وتمنح البركة للأتباع. وبالمثل، نجد في الرأسمالية أن الربح هو المبدأ الأعلى، حيث يصبح السعي وراء الربحية "غاية" بحد ذاتها، يتطلب التفاني، التضحية، والالتزام. المال والربحية، إذن، يشغلان نفس المكانة التي قد يشغلها مفهوم الخلاص أو "النعيم الأبدي" في الأديان الأخرى.
- الشركات الكبرى والبنوك والمؤسسات المالية تُعتبر بمثابة "المعابد" للرأسمالية، وهي الأماكن التي يُمارس فيها هذا "الطقس المقدس" للسعي وراء الثروة. هذه المؤسسات تحتكر المعرفة والسلطة كما تحتكر الكنائس المعارف الدينية في الأديان التقليدية.
2. الأسواق بوصفها "محافل مقدسة"
- الأسواق الرأسمالية تُعتبر ساحات مقدسة، وتُعامل على أنها قوى غير مرئية تُعرف بـ "يد السوق" التي تنظّم الأمور ذاتياً، وتُعطى نفس القداسة التي قد تمنح لقوانين الكون في الأديان.
- مثلما يعتمد الدين على طقوس واحتفالات خاصة، كذلك يعتمد النظام الرأسمالي على مواسم استهلاكية، مثل "الجمعة السوداء" وعيد الميلاد وعيد الفصح. في هذه المناسبات، يتجمع الناس وينخرطون في طقوس الشراء والاستهلاك في مشاهد تقترب من شعائر الحجّ.
3. الإيمان بالتقدم والنمو
- تعتبر الرأسمالية أن النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي هما هدفا الحياة العليا، تماماً كما تعتبر بعض الأديان أن السعي إلى الكمال الروحي هو غاية الإنسان.
- هذه الفلسفة تستند إلى "عقيدة" النمو المستمر والتوسع اللانهائي، وتفترض أن كل شيء يجب أن يُقاس بقدرته على المساهمة في الناتج المحلي أو زيادة رأس المال، مما يجعل القيم الإنسانية والأخلاقية تتراجع أمام هذه العقيدة.
4. الطقوس الاستهلاكية
- تشبه طقوس الشراء والاقتناء طقوس العبادة، حيث يجد الفرد في استهلاك البضائع نوعًا من "التطهير" أو "الخلاص" الذاتي. الشعور بالراحة بعد عملية الشراء أو التباهي بامتلاك منتجات معينة قد يكون موازياً للشعور بالراحة الروحية التي تأتي بعد أداء الشعائر الدينية.
- على المستوى الثقافي، يتم تكريس الطقوس الاستهلاكية هذه من خلال الإعلانات الضخمة وبرامج التسويق، حيث يتم تصوير الاستهلاك وكأنه السبيل للوصول إلى السعادة.
5. الرموز والشخصيات المقدسة
- للرأسمالية رموزها وشخصياتها المقدسة، كالمستثمرين الكبار مثل وارين بافيت وجيف بيزوس وإيلون ماسك، الذين يتم التعامل معهم وكأنهم أنبياء أو قديسين جدد. قصص نجاحهم تُروى كما تروى قصص المعجزات، ويُنظر إليهم كأيقونات تُلهم الأتباع.
- العلامات التجارية الكبرى مثل أبل، كوكاكولا، ونايكي تحمل مكانة مشابهة لرموز دينية، حيث يشعر الأشخاص بالانتماء لتلك العلامات ويؤمنون بتفوقها.
6. عقيدة الفردانية والنجاح الشخصي
- الرأسمالية، كدين حديث، تروج لعقيدة "الفردانية" بشكل مكثف، حيث يُقدّر الفرد حسب نجاحه الشخصي وقدرته على التنافس والتميز عن الآخرين، مما يشبه عقيدة "الخلاص الفردي" الموجودة في العديد من الأديان.
- يتعلم الأفراد منذ الصغر أن عليهم أن يكونوا ناجحين وفق معايير الرأسمالية، وأن أي فشل هو ذنب يجب تجنبه بأي ثمن. هذا يشبه إلى حد بعيد مفهوم "الخطيئة" في الأديان التقليدية، حيث يُعتبر الفشل الشخصي نوعًا من الإخفاق الأخلاقي.
7. الجحيم والعقاب في الرأسمالية
- في هذا الدين، الفقر أو العوز المالي يمثل "الجحيم" الذي يخشاه الجميع، ويُنظر إلى العاطلين عن العمل أو غير المنتجين كأنهم "ملعونون" أو مذنبون ارتكبوا خطيئة الكسل.
- الجحيم في الرأسمالية ليس مكانًا ميتافيزيقيًا، بل هو حالة ملموسة يُحرم فيها الفرد من الحقوق الأساسية والكرامة بسبب عدم امتلاكه للأموال.
8. العبودية والالتزام الكامل
- الدين الرأسمالي يتطلب التزاماً كاملاً من أتباعه، حيث يُكرّس الفرد حياته من أجل تحقيق النجاح المهني والربحية. بالنسبة للبعض، يُصبح العمل نوعًا من العبادة اليومية، حيث يقدّم الفرد وقته وجهده وشغفه لهذا النظام الذي يَعِد بالمكافآت على شكل رواتب ومكاسب مادية.
- يُستنزف الإنسان في ساعات العمل الطويلة ويخسر قدرته على قضاء وقت مع نفسه ومع عائلته، ليصبح عبدًا للعمل ويجد قيمته فقط في الإنتاج.
9. المنافسة كأداة للتطهير
- الرأسمالية، بوصفها دينًا، تروج لفكرة أن المنافسة هي الوسيلة الوحيدة
- للتطهير الشخصي وتحقيق النجاح، كما أن الأديان
- التقليدية ترى أن النقاء الروحي يتحقق من خلال المحن والاختبارات.
- المنافسة الشديدة تفرض على الأفراد السعي الدائم
- للتميز والتفوق على الآخرين، وتحويل حياة الناس
- إلى صراع دائم من أجل إثبات الجدارة، مما يؤدي إلى ضغوط نفسية تؤدي إلى الشعور بالاغتراب.
في الخلاصة
تحليل الرأسمالية كدين يوضح كيف أنها
تتجاوز كونها مجرد نظام اقتصادي، لتصبح نمط حياة
يحمل قيمًا ومعايير جديدة، تتسرب إلى كل جوانب المجتمع، وتعيد
تشكيل هويات الأفراد وتصوراتهم للحياة والنجاح والمعنى
. الرأسمالية كنظام ديني تُعظّم الربح والتفوق الفردي، وتجعل من الأسواق معابدها ومن المستهلكين
أتباعًا ملتزمين، تُشعرهم بالسعادة أو الخلاص
عند كل عملية استهلاك، وتجعلهم يسعون إلى التطهير من "ذنب" الفقر والفشل.
ربما ليس من المستبعد القول إن الرأسمالية، كنظام
ديني، قد تكون أكثر شمولًا واندماجًا في الحياة اليومية
من الأديان التقليدية، حيث لا تتطلب طقوسًا خاصة أو
أماكن معينة للعبادة، بل تنتشر في تفاصيل الحياة اليومية
وتتجلى في كل خطوة، ابتداءً من السعي للربح الشخصي وحتى تقديس الشركات والعلامات التجارية