كلما بحثت وتأملت في عالمنا ككل أو في حالة معينة لبلد أو مجتمع أجدني
أعود الى النقطة ذاتها، التي توصل إليها علي الوردي وذكرها بكل تواضع
(ودون أن يدعي الريادة فيها مع أنه رائدها) وهي انه إذا كان لكل حيوان عضو
قتالي هو أداته في الصراع من أجل البقاء فان لدى الانسان هذا العضو وهو
العقل. وإذا كان "عضو البقاء" لدى الحيوان يُستخدَم في الدفاع عن النفس
مرةً ويستخدم في قهر الآخَر مرة، فالأمر نفسه يحصل مع العقل البشري. فهذا
العقل الذي كشف عن أصل العلاقات غير العادلة في الاقتصاد وفي المجتمع وبين
الشعوب والدول هو نفسه الذي يبتكر الحجج والأعذار لتبرير العلاقات غير
العادلة عندما يحتاج هو الى ممارستها. ولو لم يكن الأمر كذلك لما وجد في
عالمنا هذا ظلم، ولا احتيال ولا استئثار، ولا حتى حروب، ولما احتاج انسان
أو حكومة الى الكذب.
العقل وسيلة المعرفة. لكن ليسمح لي سقراط بالاختلاف معه في
عَدّهِ المعرفة أنبل الفضائل. فالمعرفة يمكن أن تكون أنبل الفضائل ويمكن
أن تكون أخَسّ الرذائل ـ تبعاً للنية التي توجّه هذه المعرفة وتضع،
مقدماً، غرضها. المعرفة يا أستاذي سقراط ليست ـ مع الأسف ـ قوة بذاتها،
ولا مصدراً لقوة، وإنما هي وسيلة ليس غير. هي وسيلة بيد هذا الذي لا ضمير
له المسمّى العقل.
بهذا المنظور يغدو ممكناً الابصار في داخل هذه الفوضى
المفاهيمية في عالم اليوم وهذا الركام من الخدع الذهنية الساذجة التي يسمى
فيها الاحتلالُ تحريراً والافقار تحديثاً والفسادُ اقتصاداً حراً
والانتهاكُ الجسدي والاخلاقي حفظاً للأمن واحتقارُ ثقافات الشعوب حريةَ
تعبير… الخ. فالعدالة، حقوق الانسان، الحب، السلام، الديمقراطية، التعاون…
ليست موجودات موضوعية وإنما مبتكرات بشرية؛ فهي لم توجد قبل أن يوجد
الانسان وإنما هي نتاج العلاقات بين البشر أفراداً ومجموعات. وبصفتها هذه
فهي أشياء تفتقد الى الثبات والصلابة. إنها أشياء عجينية يمكن تحويرها
واللعب بها وتوجيهها حسب الإرادة التي تقف وراءها. وكما يوحي هذا الوصف
بصورة لمهزلة كبرى فان عالمنا هو كذلك فعلاً: حكومات تمارس الاعدام ولكنها
لا تستحي أن تدين أحكام الاعدام في دول أخرى؛ جيوش تحمل راية الحرية وهي
في طريقها لاحتلال بلد؛ نظام دولي يستند ـ كما يزعم ـ على حقوق الانسان
وحقوق الشعوب وسيادة الدول ولكنه يفرضها على الضعفاء فقط ويعفي نفسه
وحلفاءه منها؛ تكريس الظلم، والتغاضي عن العنصرية، في مكان من العالم
وإدانته في مكان آخر… وإلخ.
لكن الانسان لا يتلاعب بالأفكار والمبادئ لأنه كائن مخاتل أو
شرير باطلاق، فقيامه بتضليل الآخرين ليس هو العملية الأصلية؛ العملية
الأصلية هي تضليل عقله له، وهذا التضليل هو الذي يضطره بعد ذلك الى تضليل
الآخرين. انه يتصور أنه يخدع عقله بينما عقله هو الذي يخدعه. ومصدر هذا
المأزق هو عجز الانسان عن التضحية بذاتيته (الاحساس بالأنا) وهو عجز يؤدي
به الى أحادية الرؤية. وسواء أكانت أحادية الرؤية إبنة المصلحة الذاتية أو
العكس (وفي رأيي انهما يكملان معاً حلقة مستمرة الدوران بحيث يسبقان
ويلحقان بعضهما البعض بلا نهاية) فان هذه الأحادية هي قاسم مشترك لجميع
المشاكل والتوترات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. فالانسان
لا يستطيع تطبيق مبادئه على نفسه بالسهولة نفسها التي يستطيع بها تطبيق
هذه المبادئ على الآخرين. أو بعبارة أخرى، هو لا يستطيع أن يأخذ من نفسه
ما يطالب الآخرين به، ولا أن يعطي الآخرين ما يريد منهم أن يعطوه. ان هذا
يفسر السهولة التي يتحول فيها مظلومون الى ظالمين عندما يتغير ميزان القوى
أو تتبدل الأحوال، مثلما يفسر أسلوب "الكيل بمكيالين" في العلاقات
الدولية. فيتواطأ الانسان مع عقله عندما يوفر الأخير له الوسائل الذهنية
واللغوية اللازمة للتخلص من المأزق، فيسمح هو للعقل بأن يوهمه بأنه
(الانسان) قد تعالى بالفعل على ذاتيته والحقيقة أنه مقيد إلى هذه الذاتية
الى الأبد.
ان بشرية المبادئ المتداولة في عالمنا تنفي عنها صفة الاطلاق،
وتطبعها بالطابع الزمني، وبذلك تحكم عليها مسبقاً بالخطأ مهما طال بها
العمر بيننا. المبادئ البشرية مثل الدواء الذي مهما كان ناجعاً فلابد أن
تنتهي مدة صلاحيته ذات يوم. ان كل حقيقة هي خطأ ضمناً. فالحقيقة هي أكثر
الأوهام البشرية شعبيةً.
المفارقة التي نجد أنفسنا فيها وسط هذه الفوضى المفاهيمية
العالمية ناتجة عن مراهنتنا على المسميات/ التوصيفات/ المبتكرات الأدبية
بدلاً من الواقع الصلب. نحن نصدق الكلمات التي تصف الواقع بدلاً من أن
نصدق الواقع مباشرة، وهذا تقليد اكتسبناه من زمن الايمان بالفكر التقدمي.
تأسيساً على إيماننا بالعقل، آمنا بالمعرفة. وتأسيساً على إيماننا
بالمعرفة سلمناها قيادنا لتكون وسيطاً بيننا وبين الواقع: ورحنا نتعرف على
هذا الواقع بواسطة المعرفة، أو بكلمة أخرى فاننا رفعنا الحاجة الى منهج
لفهم الواقع الى مصاف البداهة. وبعد زمن طويل من تلقّي العالم بهذه
الطريقة غير المباشرة وجدنا أنفسنا عالقين في المنهج ناسين الواقع نفسه!
وكنا من الانغماس في هذا الطقس الى درجة أننا كنا مستعدين للقتال،
والتقاتل، من أجل أن نثبت صحة هذا المنهج. فنحن لسنا وحيدين في العالم
وهنالك مناهج أخرى لفهمه مخالفة لمناهجنا، بل متنافية معها، لكن لسوء الحظ
تعيش معنا في مكان جغرافي واحد لا يسعنا معاً! ألوف، ومئات الألوف، بل
ملايين من الناس سقطوا ضحية صِدام المناهج عبر التاريخ.
إستنتاجي مما سبق، هو إن الحقيقة الوحيدة في الكون هي
اللاحقيقة؛ والمنهج الوحيد لفهم العالم هو اللامنهج، أي الاتصال المباشر
مع العالم (لو قرأ علماء الفضاء ـ على سبيل المثال ـ هذا الكلام فسيجدونه
مفروغاً منه، فهو يصف ـ بالضبط ـ الكيفية التي تجمعت فيها اكتشافاتهم
واستنتاجاتهم عبر مسيرة طويلة لكي تصل الى المعلومات الحالية عن الكون).
لقد كان الايمان بالعقل حاجة انسانية ومرحلة ضرورية حضارياً، ولكنها ـ بعد
كل شيء ـ مرحلة. الآن ثمة حاجة انسانية ومرحلة ضرورية حضارياً عنوانها
الاستغناء عن وسيط لفهم العالم، سواء سُمّيَ هذا الوسيطُ المعرفةَ أم
العقلَ أم أي شيء آخر. لقد أطلقت عقولنا، على مدى ثلاثة قرون، شعاع الفكر
على الأشياء لكي نفهمها؛ الآن علينا أن نستقبل الشعاع الذي تطلقه الأشياء
على عقولنا. لكن الأخيرة ليس بمقدورها أن تستقبل هذا الشعاع ما لم تكن
حرة. إنه لتفكير قديم أن نتصور ان وظيفة العقل الانساني ما تزال ذاتها
التي كان يتولاها خلال القرون الأخيرة: التنوير، التقدم. فكما نرى حولنا،
ان أكثر مهمات العقل بروزاً في زمننا هو السيطرة على حياتنا الاجتماعية
والثقافية بشكل شامل، بما في ذلك اهتماماتنا التي صارت ـ لا إرادياً ـ
منقادة لتكنولوجيا الاستهلاك وثقافة المصلحة الأنانية بأضيق معانيها.
لقد نضج ـ ببساطة ـ نوعنا البشري ولم نعد بحاجة الى وسائط
مساعدة. فقد أتم العقل مهمته الكبرى: الانتقال بالبشرية من الوهم
(الخرافة؛ سلطة الدين؛ التعصب؛ تصديق الكذب؛ تكذيب ـ بل تجريم ـ الصدق)
الى العلم، مع كل ما تطلّبه هذا الانتقال من تضحيات كبيرة؛ وقد أنجز
رسالته بتأسيس الحضارة الحديثة. كل ما نعرفه اليوم عن حقوقنا وواجباتنا
ندين به لحركة التنوير (الأوروبية أولاً، ثم امتدادها في أطراف العالم)
ونوابغها. واليوم قد آن الأوان لأن نبني فوق هذا الأساس الحضاري العظيم
مرحلة جديدة. هذه المرحلة تقوم على التحرر من بريق كل المبادئ التي نادى
بها التنويريون، ليس لأنها لم تكن حقيقية في وقتها، وإنما بالضبط لأنها
كانت حقيقية في وقتها.
كل الاحراجات المتلاحقة والمآزق وفضائح النفاق التي يتعرض لها
ساسة الغرب حالياً مصدرها هذه الحقيقة البسيطة: إن قيم التنوير والحداثة
التي قامت عليها الحضارة الغربية الحالية قد ماتت تحت حوافر المصالح
الاقتصادية والسياسة الدولية؛ وأن هذا لم يحصل لأن الدول شريرة أو ما شاكل
ذلك وإنما لأنه ـ ببساطة ـ انتقال مرحلي طبيعي، مقطع من سيرورة حتمية، أو
تطور لا مفر منه. وأثَر ذلك لا يقتصر على عدم الوثوق بالغرب وعدم التصديق
بأطروحاته، فالأثر الأعمق بكثير، والجوهري بالنسبة لحركة الفكر الانساني،
هو انتهاء زمن الايمان بقيم الحداثة نفسها. نحن لا نحتاج الى براهين على
ذلك فالبراهين هي حياتنا، عالمنا وكل شيء من حولنا، وإنما نحتاج فقط الى
الاعتراف به. وموضع الصعوبة في هذا الاعتراف هو أنه سيعني، ضمنياً،
اعترافنا بأن كل تربيتنا الفكرية حتى اللحظة (وكل السنين التي قضيناها في
التخزين الثقافي) أضحت كلاسيك لا جدوى فيها لفهم واقعنا الحالي، مثل عملة
ساقطة لم يعد السوق يتعامل بها.