10 يوليو 2014 بقلم
عمار بنحمودة قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:عنوان الكتاب بلغته الأصلية:
[ltr]
The Public Sphere in Muslim Societies[/ltr]
[ltr]
Edited by: Miriam Hoexter, Shmuel N. Eisenstadt, Nehemia Levtzion[/ltr]
[ltr]
Published by State University of New York Press, Albany. 2002, pp. 191[/ltr]
صدر هذا الكتاب في نيويورك عام 2002، وكان المشرفون على جمع مادّته وتنظيمها وتقديم محتواه ثلاثة، هم: مريم هوكستار (Miriam Hoexter)، وشمويل إيزنستاد (Shmuel N. Eisenstadt)، ونهاميا ليفزيون (Nehemia Levtzion). والكتاب في الأصل ورقات علميّة قُدّمت في ورشة عمل نظّمها معهد فان لير في القدس، وكان ذلك في شهر أكتوبر عام 1997، وكانت هذه الورشة تتويجًا لأعمال فريق بحث امتدّت على سنتين، دارت نقاشات الباحثين خلالهما على المجال العموميّ (Public Sphere) مفهومًا وإطارًا نظريًّا، وعلى تطبيقاته على المجتمعات الإسلاميّة. وقد ضمّ هذا الكتاب، فضلاً عن المقدّمة والخاتمة اللّتين أثارتا جملة من القضايا النظريّة، وانفتحتا على المنظور المقارنيّ وأهمّية دراسة المجال العموميّ في ثقافات متنوّعة، سبعة بحوث تناول كلّ واحد منها عيّنة تدلّ على أنّ المجال العموميّ موجود في الثقافة الإسلاميّة، وفاعل في تشكيل ملامح هذه الثقافة، ومدخل مهمّ لمن يريد أن يدرس هذه الثقافة ومجتمعاتها دراسة تنأى عن الأحكام المسبقة والنظريّات الجاهزة. وكان الحيّز الزمنيّ الذي تنتمي إليه تلك العيّنات متّسعاً يمتدّ من القرن الثامن الميلادي إلى القرن العشرين.
وإذا كان القارئ لا يجد في هذا الكتاب مسحاً شاملاً لمختلف الحقب والأمصار والمناطق الثقافيّة الإسلاميّة، فإنّه واجد فيه حضورًا لأبرز المؤسّسات التي كانت أساسيّة ومركزيّة في المجتمعات المسلمة خلال معظم الفترات، وفي أغلب مناطق العالم الإسلاميّ، ففي كلّ دراسة من تلك الدراسات عناية بحقبة من الحقب وبإقليم من الأقاليم يجلو فيه الباحث مظهرًا من مظاهر المجال العموميّ، استنادًا إلى قضيّة من القضايا، شأن الحدث المعروف بالمحنة، أو إلى مؤسّسة من المؤسّسات مثل مؤسّستي القضاء والوقف، أو إلى اتّجاه من الاتّجاهات من نحو المذاهب ومثل الصوفيّة التي حلّت محلّ المذاهب بداية من القرن الحادي عشر.
وثمة قاسم مشترك بين تلك الدراسات يلحظه القارئ، وهو يقرؤها الواحدة تلو الأخرى، نعني بذلك أن الإسلام لا يُنظر إليه على أنّه مجموعة من الطقوس والعبادات يمارسها الأفراد في بيوتهم، ومن ثمّ لا تتعدّى دائرة المجال الخاصّ، ولا تخترقه كي تخرج إلى الثقافة وإلى مجال الحياة الاجتماعيّة، بل الإسلام، كما تُفصح عنه تلك الدراسات، جهاز يضبط النظام الاجتماعيّ وينظّم العلاقات بين الأفراد، وهذا ما يجعل الشريعة في المجتمعات المسلمة أقرب إلى قوّة مدنيّة مستقلّة بذاتها، فاعلة في المجتمع تستند إليها مؤسّساته والمجموعات الاجتماعيّة الموجودة فيه، وتتأثّر بها مختلف التفاعلات التي تجري بين المجتمع والسلطات الحاكمة فيه (ص: 1-2).
إنّ الإقرار بوجود مجال عموميّ دينيّ في المجتمعات المسلمّة ما قبل الحديثة، فكرة مركزيّة تدور عليها بحوث هذا الكتاب، ويستدلّ على وجاهتها كلّ باحث بطريقته، على النحو الذي يُشعر القارئ بأنّه حيال مفهوم غير ثابت، لا في محتواه ولا في حدوده، بل هو متقلّب في دلالته تقلّب الموج، لا تحصل لك فكرة عنه واضحة وشاملة، إلاّ إذا اقتفيتَ أثر المساهمين في هذا الكتاب، وهم ينتقلون بفكرة المجال العموميّ من طور إلى طور، ويطبّقونها على ميادين شتّى تنتمي إلى الثقافة الإسلاميّة في تلك الفترة التي أشرنا إليها، وينتهون إلى أنّ الفاعلين في المجالات العموميّة الدينيّة لم يكونوا موحّدين ينطقون بلسان واحد، وأنّ الحدود بين تلك المجالات لم تكن واضحةً الوضوح التامّ، رغم استقلال تلك المجالات العموميّة الدينيّة عن مجال السلطة الحاكمة من جهة، وعن المجالات الخاصّة ممثّلة في العائلة الضيّقة وفي العائلة الموسّعة وفي العشيرة من جهة أخرى.
وواضح أنّ مؤلّفي هذا الكتاب يصدرون في تصوّرهم للإسلام هذا التصوّر وفي فهمهم المجالات العموميّة الدينيّة داخل المجتمعات الإسلاميّة ذلك الفهم، عن رؤية عميقة تراعي خصوصيّة الدين في السياق الإسلاميّ، ولا تحشره في المجال الخاصّ مثلما يجري الأمر في السياق الغربيّ، ولا تقيم بين المجالين الخاصّ والعامّ حدودًا صارمة، على النحو الذي نجده في المجتمعات الغربيّة؛ ففي السياق الإسلاميّ دائمًا ما نجد مساحات تتداخل فيها المجالات ويتقاطع فيها الخاصّ بالعامّ، وهو ما يفتح السبيل أمام إمكانات جديدة في فهم الإسلام ودوره في المجتمع (ص: 15).
والمجال العموميّ المنتشرة أصداؤه في هذا الكتاب مفهوم يتنزّل في حيّز يقع بين المجال الرسميّ والمجال الخاصّ، وإذا كان بين المجالين العموميّ والرسميّ قاسم مشترك يتمثّل في العمل من أجل المصلحة العامّة، فإنّ ما يميّز المجال العموميّ أنّه يجنّد الفاعلين فيه والعاملين داخله من المجال الخاصّ، لا من مجال الحكم. وهذا ما يجعله كيانًا مستقلاًّ عن النظام السياسيّ، يستمدّ قوّته وتأثيره في المجتمع من الطريقة التي يتأوّل بها المصلحة العامّة، مُواجهًا في ذلك التأويل الذي تحمله وتدافع عنه السلطة الحاكمة من جهة، والتأويل الذي يتمّ تبنيّه في المجال الخاصّ من جهة أخرى، على النحو الذي سيتبين لنا في تأويل حادثة المحنة. ومفهوم المجال العموميّ بسبب من مفهوم المجتمع المدنيّ، بل إنّه يضيف إلى الخطاب الدائر على المجتمع المدنيّ بعدًا جديدًا، لأنّه يحوّل مجال الاهتمام من السلطات السياسيّة إلى المجتمع، ويشدّد على الصلة الوثيقة بين استقلال هذا المجال الاجتماعيّ، وفكرة النظام الاجتماعيّ الذي لا يحتاج بالضرورة في قيامه وانتشاره في مجتمع معيّن أو ثقافة مّا إلى أن يتّجه التطوّر فيهما نحو الوجهة التي شهدتها المؤسّسات السياسيّة الغربيّة.
ولإيمانويل كانط (I. Kant) في كتاباته حول التنوير دور مهمّ في بلورة هذا المفهوم، فقد تحدّث هذا الفيلسوف عن العموميّ مفهومًا تمثّله كلمات كاتب يظهر أمام قارئه مستقلاًّ عن الوسطاء الموثوق بهم، شأن القاضي والكاهن والحاكم. فالأفكار العموميّة تحمل قيمتها في ذاتها، ويكون الحكم عليها بحسب ما فيها من مزايا، دونما حاجة إلى من يتوسّط بينها وبين القارئ. وفي ذلك تمهيد للفكرة القائلة بانفصال المجال العموميّ عن الهياكل الرسميّة الدينيّة، وعن السلطة الحاكمة، وعن مجال الأسرة والعشيرة. ولا يمكن ههنا ألاّ نستحضر دور هابرمس (J. Habermas) في تطوير هذا المفهوم، منطلقًا في ذلك من المجتمعات الأوروبيّة، وجاعلاً إيّاه بسبب ممّا شهدته أوروبا في القرن السادس عشر من تطوّرات من علاماتها ظهور أشكال من المجتمع البرجوازي الذي توفّرت داخله فرصة لانبثاق خطاب عقلانيّ ونقديّ.
وقد استعان مؤلّفو هذا الكتاب في فهم المجال العموميّ في أمكنة من العالم غير أوروبيّة بما في ذلك المجتمعات المسلمة قبل الحديثة، بمقاربة إيزنستاد (Eisenstad) وشلوشتر (Schluchter)؛ فقد طوّر هذان الباحثان مفهوم الحداثات المبكّرة (early modernities)، واعتبرا الثقافة، أيّة ثقافة، تشهد عمليّة خلق، وتكون في حالة تغيّر مستمرّ، وتكون أيضا عرضة للاختلاف والتنازع عليها. يجري ذلك في المجتمعات الحديثة والتقليديّة على حدّ سواء. وبناء على ذلك، فالمجتمعات والحضارات لا تتطوّر بمعزل عن غيرها، بل من خلال تفاعل متواصل بين سننها الثقافيّة وما تواجهه وتتعرّض له من تحدّيات وتأثيرات داخليّة وخارجيّة. وهي فكرة تستلهم نقاش فيبر (M. Weber) الدائر على دور النحل والمذاهب في ابتداع أفكار جديدة وخلق حركات احتجاج، والأخذ بعين الاعتبار التوتّرات الداخليّة والخارجيّة التي تشهدها الأوساط الاجتماعيّة، والتي تسهم في ظهور تأويلات جديدة للثقافة والممارسات. (ص: 2)
تتسم المجتمعات التقليديّة، وفق هذا التصوّر، بالحركيّة والتغيّر، لا بالجمود. ومثل هذا الفهم يصلح أن يكون مدخلاً إلى فهم الحضارات المسلمة التقليديّة فهمًا معاصرًا، أخذت به دراسات تناولت أشكالاً من القضاء المدينيّ في عدد من الحواضر الإسلاميّة القضائيّة انتهت إلى أنّ مسار التمدّن الذي امتدّ خلال القرون الأربعة الأولى كان ثمرة عمليّات من التكييف والتراكم. ولم يكن عمليّة خلق انغلق فيها المسلمون على أنفسهم واكتفوا بما عندهم. لقد أسفر ذلك المسار عن أشكال في منتهى التنويع والتعقيد، تمّ أخذها من تقاليد يونانيّة بيزنطيّة، وأخرى إيرانيّة موجودة، ليقع تكييفها وطبيعة المجتمع الإسلاميّ.
على هذا النحو، جاء هذا الكتاب بمختلف بحوثه يناهض نظريّات التحديث التي سيّجت أعمال المنظّرين الاجتماعيّين، وحرمت المؤرّخين من أن يتصوّروا وجود بنى وتشكيلات تقليديّة من قبيل الإمبراطوريّات والمجتمعات والأديان لا تقلّ حراكًا وحيويّة عن نظيراتها "الحديثة". فهيهات أن تكون علاقة المجتمع والحاكم على النحو الذي صوّرته الفكرة الشائعة عن الاستبداد الشرقيّ. وهيهات أن يكون هناك فصل كلّي بين الحاكم والمحكومين في المجتمعات االمسلمة قبل الحديثة، وأن تكون الرعيّة نافرة من الراعي النفور كلّه، أو أن يكون هذا الراعي غير مكترث بشؤون مجتمعه وحاجات رعاياه. فهناك دائمًا نوع من الميثاق الاجتماعيّ، أو قل ضربًا من التزام الطرفين بقيم مشتركة تكون كالقاعدة التي تنهض عليها العلاقات بين الدولة والمجتمع.
وأحسن مثال على فشل الطرف الذي يخلّ بذلك الميثاق، حادثة محنة خلق القرآن (833-848) التي حلّلها هورفيتز (Hurvitz) تحليلاً تاريخيًّا بيّن من خلاله دور المجال العموميّ في فترة مبكّرة من تاريخ المجتمع المسلم (الفصل الأوّل: 17-30). فطيلة خمسة عشر عامًا تبنّى أربعة خلفاء متتالين تعاقبوا على السلطة رأي فصيل من علماء الدين أفتوا بوجوب حمل المسلمين على القول بأنّ القرآن مخلوق، رغم وجود رؤية تقليديّة تحظى بدعم شعبيّ واسع تقول بأنّ القرآن قديم. وقد ولّد فرض ذلك الاعتقاد على الناس والاستعانة في نشره بقوّة الدولة وبممارسات التعذيب مقاومة عاتية من العامّة انتهت سنة 848هـ بالكفّ عن بذل مزيد من الجهود لفرض مقولة خلق القرآن. واتسعت الدائرة التي تتحرك فيها تعريفات العلماء للعقيدة الدينية نتيجة ذلك، إضافة إلى رسم حدود دائرة جديدة يدور فيها العمل العموميّ الذي سيُترك دون أن يتدخّل فيه الخلفاء اللاّحقون إلاّ بحذر شديد.
وقد وفر وجود مثل هذا المجال العموميّ الدينيّ الفرصة، لتدفّق أعمال اجتماعيّة خطابيّة مارس من خلالها كلّ فرد من أفراد الجماعة رقابة على الآخر، وعبرها تمّ فرض العقيدة من خلال توافق الآراء غير الرسميّة وفرض هرميّة يشترك فيها أصحاب النفوذ والتأثير. لقد استهدفت المحنة نسف ذلك المجال العموميّ الدينيّ المتمثّل في جملة من التوافقات والانتظارات المشتركة، ولكنّها فشلت في ذلك، إذ اصطدمت بصلابة ذلك المجال وقدرته على الصمود، رغم وجود دولة تقف وراء التغيير، وتسخّر آلة قمعها وإرهابها لتحقيق أفكار زمرة من رجال الدين لم تكن تعبّر عن أفكار السواد الأعظم من المجتمع. فهذه الحادثة التاريخيّة دليل ساطع على أنّ هناك نظامًا من القيم يوجد خارج حدود الدولة والسلطة الحاكمة، ويتعدّى نطاق العلاقات التي تنشأ داخل الأسرة أو القبيلة أو بموجب الولاء، ويتّخذ شكل شبكة من الإكراهات والالتزامات. ذلك هو المجال العموميّ، وجوده ثابت، ولكنّه غير مستقرّ؛ فهو الذي يوفّر إطارًا يحتضن الخطابات والممارسات خارج أطر الأسرة والعلاقات الضيّقة والآنيّة، وهو الذي يساعد على التداول في المسائل التي تخصّ الشأن والمصلحة العامّين، وعلى رسم الحدود التي في ضوئها تتمّ عمليّات الإبقاء والإقصاء داخل المجتمع.
واستقلال العلماء عن السلطة الحاكمة مثال آخر على وجود مجال عموميّ إسلاميّ في المجتمعات المسلم؛ فالعالم، حسبما بيّن إيفرت (Ephrat)، ما إن يتمّ تعيينه في بغداد ليضطلع بمهمّة التعليم في المدرسة التي تبرّع الحاكم بها، حتّى يصبح متمتّعًا بحرّية أكاديميّة سواء تعلّق الأمر بقبول الطلاّب وإجازتهم أو بما يتّصل بمحتوى برامج التدريس، أو حتّى باختيار من سيأخذ مكانه بعد رحيله (الفصل الثاني: 31-48). وعلى تأكيد فكرة استقلال العلماء في المجتمعات المسلمة، دار بحث جاربر (Gerbert)، فقد وضّح هذا الباحث أنّ القاضي رغم تعيينه من لدن الحاكم، يتمتّع بقدر كبير من الاستقلال في إدارة شؤون محكمته، فهذا القاضي، سواء تعلّق الأمر بالمضمون أو بالإجراءات، يتّبع القانون الشرعيّ. وليس من عادة الحاكم أن يتدخّل في السير العاديّ واليوميّ لمهمّته (الفصل الرابع: 65-82)
وغير بعيد عن هذا، التحليل المعمّق الذي تناول فيه لايش (Layish) مهامّ القاضي التي جعلها بسبب من مسار التوطين الذي عاشته المجتمعات القبليّة في كلّ من ليبيا وصحراء يهودا؛ فقد تحوّلت محكمة القاضي إلى مجال واضح المعالم ينتمي إلى المجال العموميّ، ويتحرّر من تدخّل الحكّام فيه. وتقدّر رجاحة القاضي وتعقّله بمدى قدرته على إحداث مصالحة بين الشريعة والعادات، وهو ما يخلق مناخًا يشجّع أفراد المجتمع القبليّ على تطبيق القضاء الشرعيّ، ويحمل ذلك المجتمع على الالتحاق بمدارات الإسلام المعياريّ. وللعلماء، قضاة ومفتين ومدرّسين ووعّاظًا وأئمّة، أدوار اجتماعيّة كثيرة لعلّ من أخطرها توجيهات وإرشادات يقدّمونها للجماعة ويكون مدارها على القيم الاجتماعيّة وعلى السلوك الأخلاقيّ الذي ينبغي اتّباعه، وهو ما يفسّر احتكاكهم اليوميّ بعامّة الناس، وتحوّلهم في بعض الأحيان إلى قادة للرأي العامّ وممثّلين غير رسميّين للجماعة (الفصل الخامس: 83-108).
ومؤسّسة الوقف مثال آخر على وجود المجال العموميّ في المجتمعات المسلمة، وهو ما تناولته مريم هوكستار (Miriam Hoexter) بالتحليل (الفصل السابع: 119-138). فقد كان لهذه المؤسّسة التطوّعيّة انتشار واسع وأدوار متعدّدة، وكان لها إسهام في إنشاء مجال عموميّ استطاع أن يكون مستقلاًّ عن سلطة الدولة، وأن يؤسّس مجالاً تجري داخله جملة من الأعمال الاجتماعيّة والاقتصاديّة تقع بين مجال الأسرة ومجال الحكم على حدّ سواء، وأن يكون مصدر مداخيل وإيرادات يدعم بها عددًا من المؤسّسات المستقلّة. والوقف لم يكن مجال تنافس صريح ومتواصل بين الحاكم والمحكومين. ولكنّه لم يخل من مساومات ومفاوضات بين السلطة والمجتمع ممثّلاً في حالات كثيرة من خلال علمائه؛ فقد حظي الوقف بمساندة شعبيّة عريضة جعلت الناس ينظرون إليه على أنه مؤسّسة استطاعت أن تفرض على السلطة الحاكمة حدودًا تقلّص من مجالها. ولم تخفَ أهمّية الوقف عن الحكّام الذين سارعوا بدورهم إلى تمويل هذه المؤسّسة من خلال المنح والهبات، حتّى يتسنّى لهم استخدامها وتوظيفها في السياسة العامّة توظيفًا حذرًا، لأنّ لهذه المؤسّسة قوانين خاصّة بها تفرض سحب ملكيّة الأصول الموقوفة من الجهة المانحة، حتّى ولو كانت الدولة، لتصبح، وفق الأحناف، ملكًا للّه.
وقد مثّلت القواعد والأعراف التي تسيّر مؤسّسة الوقف، من نحو من يحقّ له جواز التصرّف فيه، وضرورة أن تتمّ الصفقات والتعاملات التجاريّة في الأملاك والأصول التابعة للوقف تحت إشراف القاضي، ومصلحة الجماعة في هذه المؤسّسة الناشئة بفضل الإعانات والتبرّعات، كلّ ذلك جعل من مؤسّسة الوقف مجالاً عموميًّا تنبثق منه خطابات ونقاشات ومساومات بين الحاكم والمجتمع انتهت إلى توافق ضمنيّ يقرّ للدولة بأن تمارس رقابة على أغلب الأوقاف، ويجعلها في الآن ذاته خاضعة للقواعد الأخلاقيّة العامّة، ولما تستحسن الجماعة وما لا تراه حسنًا. نعم، لقد ساهم الحكّام في بناء كثير من الأوقاف من حسابهم وصناديقهم الخاصّة، ولم يستعملوا مداخيل الدولة لبناء الجوامع والبناءات العامّة مثل المدارس. وكان ذلك سببًا في إيجاد آصرة من القيم المشتركة تربط بينهم وبين أفراد المجتمع، وتنهض على إيديولوجيا الوقف وممارساته، وتخدم مصالح الأمّة، وتضطلع بدور في تحديد النظام الاجتماعيّ، وتسهم في إضفاء شرعيّة على الحاكم وتزيينه في عيون المجتمع. وفي ذلك آية أخرى على بطلان فكرة الاستبداد الشرقيّ وما يترتّب عليها من إقامة حدود فاصلة بين الحكّام والمحكومين؛ فالحاكم، وهو يسهم في إنشاء الأوقاف ويحترم خصوصيّاتها وتقاليد تسييرها وإدارتها، يظهر في صورة من يكترث لحاجات الأمّة ويسعى إلى تحقيق سعادة أفرادها وما يضمن لهم العيش الكريم.
على هذا النحو، جاءت فصول الكتاب تعتمد مفهوم المجال العموميّ مدخلاً إلى إعادة قراءة المجتمعات المسلمة قبل الحديثة قراءة تستبعد الأفكار الشائعة والأحكام الجاهزة التي كانت تصف تلك المجتمعات بالجمود والسكون، وتسعى في المقابل إلى اقتفاء أثر مجالات عموميّة دينيّة متنوّعة كان لها حضور وأثر واضحين في تلك المجتمعات، حتّى تُبرز ما كان يجري داخل المجتمع من تفاوض وتفاعلات تصل في لحظات الأزمة والتوتّر إلى صراع بين المجتمع والسلطة الحاكمة، ولا يخفّف من حدّته وضراوته، إلاّ تشكّل مجالات عموميّة دينيّة استطاعت بحقّ أن تكون مجالاً للنقاش والتداول، ومنطلقًا لإيجاد أرضيّة من التوافق، على النحو الذي يقرّب الشقّة بين الحاكم والمحكوم.