أولاً- تمهيد
المحور الذي تتحرك عليه الليبرالية في اتجاهين له قطبان الأول: احترام الدين وحمايته، والثاني عدم تأييد دين بصفة رسمية. ويمكن أن تكون رسالة لوك في التسامح حجر أساس صالحاً لكي تبنى عليه نظرية ليبرالية سياسية للدين، فلوك بعدّه الدين علاقة عمودية بين الفرد وخالقه من جهة، وبرفضه وجود أفكار فطرية مركوزة في العقل بدعوى أن وجودها المفترض يلزم عنه اتفاق البشر يخلص إلى أن قسر الفرد على دين معين مهمة مستحيلة منطقياً، وليس أخلاقياً فحسب.
«يتحتم على جميع إدارات الحكم أن تنشغل بالشؤون المدنية، وأن تكون السلطة المدنية والحقوق والسيادة محكومة بهدف واحد هو رعاية هذه الشؤون المدنية وتنميتها، حيث لا تمتد هذه الرعاية بأي شكل من الأشكال إلى خلاص النفوس»[1]. ويستدل لوك على ما سبق بهذه الأدلة:[2] الأول: أن الحاكم ليس مفوضاً من الله لخلاص نفوس البشر، وأن الله لم يكلف أي إنسان بذلك.
الثاني: لأن الحاكم المدني يحكم بمقتضى سلطة برانية، بينما الدين الحق الذي ينشد خلاص النفوس ينشد اقتناع العقل اقتناعاً جوانياً.
الثالث: العناية بخلاص النفوس ليست من مهام الحاكم بأي حال من الأحوال؛ لأنه حتى إن أقررنا أنه من الممكن إقناع البشر وتغيير آرائهم بسلطة القوانين وقوة العقوبات، فإن كل ذلك لا يسهم أبداً في خلاص نفوسهم...إن الآراء الدينية التي يعتنقها أمراء العالم هي من التنوع والتناقض، حيث تجعلهم منقسمين مثلما هو الحال في شأن مصالحهم العلمانية، وبسبب ذلك فإن الطريق الضيق سيزداد ضيقاً. وهذا يعني أن بلداً واحداً يمتلك الحقيقة، وأن بلدان العالم الأخرى محكوم عليها بالخضوع لأمراء هذا البلد في الأمور التي تؤدي إلى هلاكهم. ومما يزيد الأمر غرابة ولا يتلاءم أبداً مع مفهوم الألوهية أن يدين الناس بسعادتهم أو شقائهم الأبديين إلى مسقط رأسهم، كما أن الكنيسة لا تعدو أن تكون مؤسسة معنية بخلاص النفوس.
«الكنيسة هي عبارة عن جماعة من البشر الذين يجتمعون بمحض إرادتهم بهدف عبادة الله وبأسلوب يتصورون أنه مقبول من الله وكفيل بخلاص نفوسهم»[3] أما الحاكم المدني فهو لا يملك تفويضاً لفرض طريقة ما لخلاص النفوس، وكل ما يستطيعه هو العناية بشؤون الناس المدنية، وعلى الرغم من أن الليبرالية الرولزية لا تدعو إلى تخصيص الدين، وتدرجه ضمن تصنيف أوسع للخير، فإنها لا تنجو من اعتراضات أهمها اعتراضان:[4] البروز الأخلاقي: والذي يقوم على أن ادعاء الليبرالية الحياد لا يبرئ ساحتها من تهمة التحيز لمفاهيم واعتقادات وتقييمات أخلاقية.
والاختصاص القضائي: وهو يعني أن الليبرالية تمنح الدولة دون مسوغ واضح حق رسم الحدود بين الديني وغير الديني، وبين العام والخاص.
ولعل ما يسمى بــــ «الدين النقدي» الذي يمثله سوسيولوجيون وأنثربولوجيون وفلاسفة، يمكن تكثيف تحدديه للحيادية الليبرالية في قول ستانلي فيش الأثير إن رسم الحدود بين الدولة والدين مهمة مستحيلة، فليس ثمة طريقة منضبطة غير عشوائية لتنظيم العلاقة بين المجالين[5]. والثغرة الأساسية الموجودة في هذا التحدي تكمن في خلط أصحابه بين الأصل والتبرير؛ بمعنى الخلط بين النقد التاريخي والنقد الفلسفي، فعلى الرغم من صحة ما يقولونه عن التسامح من أنه مجرد إجراء تفاوضي فرضته ظروف تشكل الدولة الطائفية المستندة إلى لاهوت مسيحي إلا أن هذه الحقيقة إذا كانت تصلح لنقد تاريخي، فإنها لا تصلح لنقد فلسفي لليبرالية؛ لأن فلاسفة الليبرالية في تبنيهم قيمة التسامح وقيم الحقوق الفردية وحيادية الدولة لا يركنون إلى التاريخ[6]. ويعاني هذا النقد نوعاً آخر من الخلط متمثل في الخلط بين الممارسة والنظرية، فلا شك أن ما يرشح عن الدول التي ترفع شعارات الحرية والمساواة من ممارسات تجور على حقوق الأقليات لا يمكنه أن يضعف الإمكانيات النقدية للفلسفة الليبرالية، خصوصاً وأن هؤلاء الناقدين يعودون على نقدهم من غير أن يشعروا بما يفنده من داخله في استخدامهم لتصنيفات معيارية يتخذون منها ذريعة لنقد معيارية الفلسفة الليبرالية[7]. ثانياً- أنواع الدين النقدي
إن هذا النقد الديني يمكن أن يصنف في ثلاثة أنواع:[8] 1- النقد الدلالي
2- النقد البروتستانتي
3- النقد الواقعي
أما النقد الدلالي، فيستند إلى عدم وجود مرجعية صالحة كونياً لتصنيف الدين، فهو: «مضطرب جداً كتصنيف لتتم معاملته بوصفه كياناً معزولاً، سواء أكان هدف ذلك هو فصل الدين عن القانون والسياسة أم تصميم استجابة سياسية للدين»[9]. ويؤكد أننا: «لا يمكننا أن نتوصل إلى تعريف شمولي للدين، ليس لأن مكوناته وعلاقاته متعينة تاريخياً فقط، بل لأن التعريف ذاته ناتج تاريخي لطرق معينة في الخطاب»[10]. وأما النقد البروتستانتي، فيقوم على أن الحداثة في جوهرها بروتستانتية بمعنيين:[11] الأول: أن الحداثة كمعلول لعدة علل منها الإصلاح البروتستانتي قد ارتبطت بعلمانية الدولة، وهي شكل من الحوكمة السياسية التي تعزز ثنائيات جدلية غير محسومة بين الديني والسياسي، وبين الإيمان والعقل، وبين الفكر والعمل.
والثاني: أن الصراع بين البروتستانتية والكاثوليكية، والذي يقوم في أحد أركانه على ثنائيات مصنوعة تشحن فيها الأطراف الأولى بشحنة إيجابية والأطراف الثانية بشحنة سلبية، وتحتل فيها الأولى أهمية لا ترقى إليها الثانية، ولما كان الدين مع العقل والفكر في الطرف الأول من الثنائيات، وهو دين استقر مفهومه وفق رؤية لوثر له على أنه مقصور على محض الإيمان، فإن طقوسه لم تعد ذات شأن في تحديده، وبذلك اتفق على أنه شأن فردي وخاص، وهو مفهوم للدين ينسجم مع فكرة الذات المعزولة عن موضوعاتها، والتي لها مطلق الحرية في تبني ما تراه صحيحاً من افتراضات عن الحقيقة، وهو مفهوم يقول طلال أسد بعد استعراضه لمعالجة غيرتز للدين إنه «يؤكد أولوية الإيمان كحالة عقلية بدلاً من تشكيل نشاط في العالم»[12]. «ومهما يكن من أمر، فإنني أرى أننا لن نبتعد كثيراً عن الحقيقة إذا ما قلنا إن 'المسلمة الأساسية' الكامنة تحت ما يسميه غيرتز بالمنظور الديني ليست هي هي في كل مكان. والكنيسة المسيحية هي التي شغلت نفسها بالدرجة الأولى بتعريف الإيمان وتنميته وامتحانه بوصفه شرطاً داخلياً للتدين الصحيح يمكن التعبير عنه باللغة»[13]. ومن هذا الارتباط بين البروتستانتية والحداثة تجد «صبا محمود» ثغرة قابلة لتلقي سهام النقد؛ لأن الذات التقية كما تسميها ليست ذاتاً فارغة، وإنما هي ذات مثقلة بخصائص وسجايا؛ ولأجل هذا فإن اختزال الدين في فرضيات تقبل أو ترفض يغفل حقيقة أن الممارسات جزء ماهوي من الدين فالهندوسي مثلاً: «قد يكون مؤمناً أو معتقداً بوحدة الوجود أو ملحداً أو شيوعياً أو يعتقد بما يشاء لكن ما يجعله هندوسياً هو الممارسات الطقوسية التي يؤديها والقواعد التي يلتزم بها؛ أي باختصار ما يفعله»[14]. وتخلص صبا محمود من بحث ميداني أجرته على حركة نسائية في مجتمع ديني في القاهرة إلى أن طقس الصلاة ليس مجرد استخدام رمزي للجسد كوسيط دلالي تنسب إليه معان أيديولوجية مختلفة، ولكنه طقس يساهم في الانضباط السلوكي للفرد بضوابط الشريعة، وفي تحويل الخضوع لأوامر الله إلى ممارسة تلقائية.
فالالتزام بهذا الطقس سلوك فردي من جهة، وانصياع لضوابط مؤسسة اجتماعية من جهة أخرى، ولكنه لا يشبه أي انصياع مفروض بالقوة، ولكنه يمارس بحرية لا يمكن لدعاوى كونية مفهوم الحرية الليبرالي أن يستوعبه، ولا يمكن أن يفهم إلا في دلالته السياقية[15]. أما النقد الواقعي، فيتخذ ثلاثة أشكال يوضحها طلال أسد:[16] أولاً- تنتج الليبرالية ما تدعي إنكاره؛ لأن تصنيف القانون لما هو ديني وما هو غير ديني لا يعدو أن يكون ممارسة ثيولوجية.
ثانياً- إن تنظيم الدولة للدين ليس سوى وسيلة لتعزيز مقاصدها، وليس لتجسيد مثالياتها المدعاة من تسامح وحرية ومساواة.
ثالثاً- الليبرالية في جوهرها نوع من أنواع الأصولية؛ لأنها تقوم على تصنيفات هيكلية للميتافيزيقا والثيولوجيا؛ من أجل تعزيز الهوية الوطنية للمواطنة العلمانية.
ولا تعدم هذه الأنواع من النقد ثغرات كفيلة بإضعاف قوتها، فبالنسبة إلى النقد الدلالي فلا يرد على الليبرالية الرولزية وأشباهها؛ لأنها تستخدم مفهوماً تفسيرياً للدين؛ بمعنى أنه ليس مطلوباً من النظرية أن تحيط بالمعنى الدلالي للدين، وإنما المطلوب منها أن تعبر عن قيم من قيم الدين وتضطلع بحمايتها.
أما النقد البروتستانتي، فيقع في سوء فهم لقيمة الاختيار التي تصر عليها الليبرالية، فبينما يفهمها أصحاب النقد البروتستانتي على أنها ما يمنح الدين قيمته الجيدة يفهمها الليبراليون من أمثال رولز على أنها حماية من الإجبار على تحويل الدين؛ فالحاجة إلى الحرية الدينية مشتقة ليس من أن الاختيار جيد، وإنما من كون القمع والاضطهاد سيئان.
ويخلط النقد الواقعي من جهته بين الحيادية كمبدأ تجريدي معياري، وبين الفصل كإطار للعمل السياسي، كما يقع الناقدون الواقعيون في خلط آخر بين الحيادية الليبرالية والشكوكية الليبرالية، فليس صحيحاً أن الليبراليين يعنون بالحيادية تحللاً من القيم فالتزامهم، على الرغم من مطالبتهم بحيادية الدولة بتوزيع الحقوق والفرص وفق مقتضيات مبدأ العدالة ليس التزاماً محايداً من الناحية الأخلاقية، ولا يعيب الليبرالية كونها ليست كونية، وأنها مضطرب تأويلات واختلافات، فما يهمها هو قدرتها على أن تكون تسويغاً للتعايش بين مختلفين في مفاهيمهم للخير[17]. ثالثاً- استراتيجيات منح الإعفاءات
أما ما تمنحه الليبرالية من إعفاءات، فمعضلة تواجهها الليبرالية في علاقتها بالدين؛ فحياديتها لا تتيح لها للوهلة الأولى منح إعفاءات لجماعات أو أفراد يعتنقون اعتقادات دينية، ولكن ثمة تبريرات لهذا المنح للإعفاءات تنظمها ثلاث استراتيجيات:
1- استراتيجية «دوركين» المسماة «استراتيجية الإذابة»: التي تعني تذويب الدين في تصنيف واسع يتضمن بالإضافة إلى الاعتقادات، الأذواق والالتزامات ومختلف الرؤى الدينية والدنيوية. وبهذا التذويب في تصنيف شامل يصبح التعريف الجامع المانع للدين أو للإطار الكبير الذي يشمله ليس ضرورياً، ويصبح منح الإعفاءات مبرّراً، فحرية الدين في هذه الحال حق عام تستلزمه الاستقلالية الأخلاقية[18]. ويجانب دوركين الصواب في استراتيجيته للإذابة؛ لأنه يغفل ما يمكن أن تحتج به جماعة معينة على عدم إيلاء تمييز لما تعده واجباً مقدساً. فمشكلة البروز الأخلاقي تطل برأسها هنا؛ بمعنى أن رسم الخط الفاصل بين النشاطات التي تمثل عبئاً على الدين بشكل مشروع، وبين نشاطات من الخطأ جعلها عبئاً. ومثال ذلك صعوبة الفصل في المشكلة التي يسببها حظر وضع غطاء للرأس وحظر إطالة اللحية في جهاز الشرطة وفق تشريع عادي يعد حيادياً وإظهار بعض المسلمين أو السيخ ضيقاً بهذا الحظر؛ لأنه ينتهك واجباً مقدساً في معتقدهم. وصعوبة الإجابة عن سؤال: هل استخدام المخدرات كواجب ديني يستوجب احتراماً من الدولة الليبرالية أكثر من استخدامه لغاية ترفيهية؟[19] 2- استراتيجية «دمج الدين في المجال العام» لــــ «آيزغروبر وساغر»: وهي تدمج الدين في إطار أوسع من المشاريع والالتزامات التي يعنى بها الناس[20].ولأن الدين كذلك فإن المصلحة الدينية إذا حظيت بحصانة دستورية، فإن ذلك نابع من كونها جزءاً يستحق معاملة متساوية مع التزامات مغايرة. «يجب ألا يعامل الأشخاص بشكل غير متساو بناء على الأسس الروحية لالتزاماتهم العميقة»[21]. وقد وضع الكاتبان ثلاثة معايير من أجل تجنب السؤال الذي يطرح نفسه عما هو جدير بالحماية بين الهويات والاعتقادات:
المعيار الأول: العرضة للتمييز، فإذا تعرضت أقلية للتمييز عدّ هذا خرقاً للحيادية الليبرالية، ومثال ذلك منح المسيحيين إعفاء من قانون منع الكحول وعدم منح نفس الإعفاء للأمريكيين الأصوليين ممن يتناولون مخدر البيوت، وهو تمييز ضد هذه الأقلية.
المعيار الثاني: عمق الالتزامات، وهو يقوي استراتيجية الدمج بمواجهته لسؤال عن أي الالتزامات غير الدينية التي تقع مع الالتزامات الدينية في الإطار الشامل هي بارزة أخلاقياً، حيث يمكن قياسها بالدين ويفسرانها بوصفها بأنها التزامات جادة وروحية وأخلاقية، ومثال ذلك إعفاء ذوي النزعة السلمية من الخدمة العسكرية؛ لأنهم يمتلكون اعتقاداً راسخاً شبيهاً بالاعتقاد الديني في قوته وتمكنه من وجدان صاحبه.
المعيار الثالث: الجمعية القريبة، ويعني اتصاف بنى جمعية معينة بخصائص الخصوصية والتعبير والاستقلالية الترابطية، فإذا كانت العلاقات بين الأعضاء من جهة، وبينهم وبين القادة من جهة أخرى علاقات حميمية حق لهذه البنى بعض الاستثناءات من بعض القوانين[22]. «النشاط الديني يسقط بشكل متمايز التصرف الخاص ضمن المجال العام ويتضمن علاقات خاصة ملحوظة مقيدة بالعقد ومعوضة بالدولارات. الزعماء الدينيون مستشارون أخلاقيون ومقربون وأصدقاء وأدلاء روحيون، ولا تستطيع الدولة أن تنص بروتوكولاً غير تمييزي يحدد خيار جماعة حول الشخص الذي يتولى المسؤولية الخاصة لأفرادها مثلما لا تستطيع أن تنص بروتوكولاً لاختيار طبيب نفسي أو جار في المنزل يأتمنه الشخص على آماله ومخاوفه جوانب الممارسة الدينية بمأمن على نحو غير مثير للجدل من وصول بعض أوامر الدولة، وهي آمنة جداً لأنها خاصة بطرق عامة سهلة للتمييز وليس لأنها دينية»[23]. ما يستنتج من هذا الاقتباس أن حقوق الجمعيات الدينية لا يشتق من الحرية الدينية، وإنما من سمات الروابط والخصوصية.