14 مايو 2013 بقلم
محمد إدريس قسم:
الدراسات الدينية تحميل الملف حجم الخط
-18
+ للنشر:مقدّمة :
السّؤال عن "الجسد المعذّب" في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، مبحث مترامي الأطراف تداخل فيه السّياسي والدّيني، فمظاهر العذاب المسلّط على الأجساد لم تقتصر على النّصّ القرآني، وإنّما طالت أيضاً نصوصاً أخرى متنوّعة الاختصاص (التّصوّف، الفقه، علم الكلام، الفلسفة،...)، وقد حمّل أصحاب تلك النّصوص "الجسد المعذّب" دلالات متباينة أخلاقيّة، بيد أنّ المواقف المتّخذة من الجسد، على اختلافها، أكّدت أنّه أرض خصبة للتّفكير في علاقة الإنسان بالآخر،[1] فبالجسد عبّر- وما يزال- الإنسان عن كينونته، وبه يكتسب جزء من المعرفة، ومن خلاله يعي منزلة ذاته، وبه يعبّر عن مواقفه من الموجودات،[2] وهو ما جعل المؤسسة السّياسية تسعى جاهدة إلى السّيطرة عليه بشتّى الطّرق، بما في ذلك ممارسة العنف عليه قصد التّحكّم فيه.[3]
وفي هذا المقال نبحث في تجلّيات العنف المسلّط على الأجساد في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة من خلال النّظر في وظائف "الجسد المعذّب" في النّصّ القرآني والنّصوص الحافة به، وفي الممارسات السياسية الّتي زعمت انطلاقها منه، وهو أمر يتطلّب منّا المقارنة بين التّصوّر القرآني والتّصوّرات الّتي أسستها النّصوص الحواف، مثابتنا من ذلك تبيّن وجوه الائتلاف والاختلاف بينها من جهة، ومن جهة أخرى نقف على الأسس الّتي بنى عليها أصحاب النّصوص الحواف مواقفهم من "الجسد المُعذّب"، وذلك بالنّظر في وجوه تصرّفهم في النّصّ القرآنيّ بما يوافق رغبات السّياسي ويحقّق أطماعه.
وقد ارتأينا أنْ نعالج أبعاد هذه الإشكاليات في محاور ثلاثة: نتناول في الأوّل دلالات الجسد المعذّب في القرآن الكريم. أمّا في الثاني فننظر في الجسد المعذّب والقمع السياسي (بداية من القرن الأوّل إلى القرن الرّابع للهجرة)، في حين نقف في الثّالث على أهم الطّرق الّتي تمّ اعتمادها في توظيف الجسد المعذّب لكسب تأييد العامة للسّلطة السّياسية (قراءة في بعث الأجساد في الآخرة: كتب أبي حامد الغزالي أنموذجا).[4]
(1). دلالات الجسد المعذّب في القرآن الكريم : تتوزّع الآيات القرآنية المتّصلة بالجسد على ضربين:
· تميّز الأول بتعدّد الأسماء الدالة على الكلّ (الجسم،الجسد،البدن).[5]
· أمّا في الثاني فتمّ الاقتصار على ذكر أجزاء من الجسد (اليد، العين، الرجل، اللسان، الوجه،...).[6]
وقد أحاطت الآيات القرآنية الجسد بأحكام شرعيّة تقوم على ثنائيّة الحلال والحرام، مثل السّرقة والزّنا...من جهة،[7]ومن جهة أخرى تعلّقت تلك الأحكام بأوضاع مختلفة بعضها شديد الارتباط بالممارسات الدّينية التعبدية (الصلاة، الحجّ،...)،[8]وبعضها اتّصل بهيأة المسلم،[9] وما يجب أنْ يتحلّى به من أخلاق حميدة.[10]
أ- أشكال حضور الجسد في القرآن الكريم: الجسد في "القرآن الكريم" تعبير عن مدى التزام الإنسان المؤمن بمتطلّبات الإيمان الّذي يظلّ ممارسة فردية يتكامل فيها الظاهر (الجسد) مع الباطن (القلب)،بيد أنّ أهم ما يلفت الانتباه أنّ النص القرآني نسب جملة من الحواس (البصر، السّمع،...) والصفات (الكلام، الرؤية،..)[11]المتعلّقة بالجسد (اليد، الوجه،..) إلى الله.[12]وقد اختلف المسلمون في تحديد ماهية تلك الصفات،[13] وهو ما أدّى إلى بروز فرق كلامية جعلت من الذات الإلهية ذاتاً مشابهة للإنسان في مستوى الصّفات مختلفة عنه في مستوى الحجم والطّول والعرض...،[14] وفي المقابل نفت فرق أخرى التّجسّد عن الذات الإلهية لما فيه من تعارض مع مفهوم التوحيد بما هو تنزيه للخالق (الله) من أنْ يتّصف بصفات المخلوقات. [15] وقد عالج المسلمون القدامى هذه المسألة ضمن مبحث "صفات الله" الّتي ترتّب على النظر فيها نشأة ثلاثة مواقف:
1. أخذ أصحاب الأوّل الآيات القرآنية على ظاهرها[16]، فقالوا إنّ لله جسداً مثلما للإنسان جسد،[17]
2. راوح أصحاب الرأي الثاني بين الأخذ بظاهر الآيات القرآنية وتأويلها، وقد ميّزوا- في ما يتّصل بهذه المسألة - بين مستويين أُوِّلت في الأوّل الآيات القرآنية الّتي فيها تُنسب الصفات الجسدية إلى الله بما يجعلها تنطوي على دلالات مجازية، وذلك تنزيهاً للذات الإلهية عن التشبيه. [18] أمّا المستوى الثاني فقوامه عدم تحميل الآيات القرآنيّة أكثر ممّا صرّحت به، وذلك إذا ما تعلق الأمر بالإنسان.[19]
3. أمّا الرأي الثالث فعدّ أصحابه الجسد المشار إليه في عالم الغيب سواء تعلق بالإنسان أو بالله، جسداً رمزياً ليس له صلة بالجسد الّذي نُعاين في عالم الأشهاد، وهو تصوّر تبنّاه بعض الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي (260هـ / 339هـ)[20] وابن سينا (370هـ /428هـ)[21]...، وقد انطلق الفلاسفة في بناء آرائهم من تصوّر معرفي مخصوص مداره على أنّ الجسد عارض[22] يعوق النّفس (الجوهر)[23] ويمنعها من تحقيق كمالها،[24] فإذا بالموت لحظة تتخلّص فيها النّفس من حبسها (الجسد). [25]
ولا غرابة في ذلك فـ "النّفس تتّصل في الفكر العربي الإسلامي بالعالم العلوي المفارق وبالأمور الرّوحانية، وهي قادرة على أنْ تستقلّ بذاتها لأنّها جوهر، ومن ثمّة فإنّ ارتباط الجسد بالرّوح إنّما هو ارتباط صوريّ"،[26]ذلك أنّ عالم الجسد هو العالم الدّنيوي، [27]وهو تصوّر شاع في الثّقافة العربية رغم مخالفته للتّصور القرآني الّذي جعل في "سورة يوسف" الجسد امتداداً للروح، فالنبي يعقوب العليل عاد إليه البصر لمّا شمّ ريح (عرق/الجسد) الابن يوسف، فكان العرق الشافي للروح.[28]
ب- العقاب الدّنيوي والأخروي المسلّط على الجسد:إنّ مراوحة الفكر الدّيني الإسلامي بين الأخذ بظاهر الآيات القرآنية وتأويل ما فيها، ترتّب عليه نتائج مهمّة في ما يتصل بمصير الإنسان في الآخرة، فالنص القرآني خصّص لهذه المسألة آيات عديدة، وُصفت فيها الجنّة ومكوّناتها وما يلقاه المؤمنون فيها من ملذّات من جهة، ومن جهة أخرى صُوّرت جهنّم[29] وما يلحق أهل الكفر فيها من عذاب. إلاّ أنّ المتكلّمين والفلاسفة المسلمين لم يتّفقوا حول دلالات الجنّة ودلالات جهنّم، فالبعض رأى في العذابات والمتع الأخروية حقائق يعاينها الإنسان بجسده في حين عدّها آخرون حقائق لا يمكن تبيّن كنّهها بالحواس، ذلك أنّ بعث النّاس يوم الحشر لا يكون بالأبدان، وإنّما يكون بالأنفس، فالآيات القرآنية عند أصحاب هذا الرأي هي تعابير رمزية الغاية منها تقريب الصّور من أذهان المسلمين. بيد أنّ ما يلفت الانتباه في النّصّ القرآني أنّه لم يقتصر على وصف مصائر النّاس "يوم القيامة"، ففي آيات عديدة صُوّر العقاب المسلّط على الأجساد لاسيما تلك الّتي عُرف أصحابها بالكفر ومعاداة الأنبياء،[30] وقد اتّخذ العقاب المسلّط على الأجساد أشكالاً مختلفة مثل المسخ والفسخ...،[31] وكان بعضها عقاباً مباشراً يهلك فيه المُعاقَبُ مصلوباً،[32] وقد صوّر "القرآن الكريم" تصويراً دقيقاً ما يمسّ أهل الجحيم إذ تكوى جباه أهله[33] ويسقى ساكنوه بماء كالمهل يشوي الوجوه.[34] لقد ميّز "القرآن الكريم" بين العقاب الإلهي والعقاب الإنساني، فلئن كان الأول عادلاً،[35] فإنّ الثاني وُصف بالظالم، وهو ما تجلّى في قتل الأنبياء والعباد الصالحين.[36] إنّ انطواء النص القرآني على تعابير مجازية فتح باب التّأويل على مصراعيه، وهو ما أدّى إلى بروز مواقف مختلفة من الجسد المعذّب لاسيما في الآخرة، فالآيات القرآنية تسع الرأي والرأي المخالف، فإذا بالمعاد وما يترتّب عليه من لَذّات أو عذابات أمر فيه اختلاف لا يمكن الجزم فيه بقول فصل،[37] لاسيما أنّ الاختلاف ماثل في طريقة البعث، ذلك أنّ المسلمين على تنوّع مشاربهم (الفقهاء، المتكلّمون، الفلاسفة،...) اتّفقوا على القول بـ "المعاد" ومحاسبة الله الإنسانَ على أفعاله.
وفي هذا المقام نتساءل: لماذا أغلق البعض آفاق التأويل على دلالات معينة رافضين كل رأي مخالف معتبرين إيّاه خروجاً عما جاء به الوحي؟ وماهي الأسباب الّتي دعت هؤلاء المتكلّمين أو الفقهاء... إلى ممارسة هذا العنف الفكري؟ ولمصلحة منْ؟.
(2). الجسد المعذّب في ظلّ الملك العضوض :تتطلّب مسألة البحث في "الجسد المعذّب" في الفكر العربي الإسلامي، الوعي بأهمّ التحوّلات الّتي طرأت على المسلمين الّذين انتقلوا من سلطة النص المقدّس (النبوة، الخلافة الراشدة) إلى سلطة الملك العضوض (الدولة الأموية، الدولة العبّاسية)، إذ تمّ استبدال الوَحدة الروحية[38] بوَحدة المصالح المادية، وقد عبّرت عن ذلك أحداث الفتنة الأولى، فالصراع الّذي دار بين معاوية (59هـ) بن أبي سفيان (ت31 هـ أو34 هـ) وعليّ بن أبي طالب (40 هـ) اختزل أهم مظاهر هذا الانتقال، "فبقدر ما كان منطق المصالح وتوزيع الغنائم والعطايا يؤكّد نفسه، ويترسّخ مع تزايد الانتصارات وإرساء نظم جمع الخراج والعطاء معاً، كان منطق الرسالة والتبشير والجهاد لوجه الله يتراجع أو يفقد هيمنته المطلقة، وكانت الحاجة إلى السياسة والسياسي [...] تبرز أكثر قوّة".[39]
أ- الجسد المعذّب وتكفير الخصوم:إنّ الانتقال من حيز الوَحدة الدينية إلى حيز الملك القائم على العصبية والسيف[40]، لم يؤد إلى الفصل بين ما هو سياسي وماهو ديني، وإنّما زاد من تداخلهما، فبحجّة حماية وَحدة المسلمين نُكّل بالخصوم السياسيين، وهي ممارسات انطوت على دلالات رمزية سُوّي فيها بين الخصوم السياسيين والمشركين الّذين أمر الله بصلبهم في الآية الثالثة والثلاثين من سورة المائدة، التي يقول فيها تعالى: "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِيالآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ".
صاحب السلطة هو "خليفة الله"حيناً، وخليفة رسول الله حيناً آخر"[41]، ولا غرابة في ذلك، فـ "الإمامة موضوعة لخلافة النّبوّة في حراسة الدّين وسياسة الدنيا"،[42] فالإمام هو الوحيد القائم على رعاية الدين، فالله أوكل إليه قيادة الأمّة، وفي هذا الإطار سعى أصحاب النصوص الحواف منح أهل السلطان شرعية دينية، وذلك من خلال التصرّف في السياقات النصية التي وردت فيها الآيات القرآنية المتصلة بـ "الجسد المعذّب، إذ أصبح الخروج عن السّلطة السّياسية في عُرف أصحاب النصوص الحواف خروجاً عن وَحدة الجماعة المسلمة، ومن ثمّة فإنّ قمع كل خارق لها واجب شرعي فيه امتثال للإرادة الإلهية، ففي "تسهيل النظر" بيّن أبو الحسن الماوردي (ت450هـ) ضرورة أنْ "ينقاد الناس لطاعته [الخليفة]، ويتدبرون بسياسته ليكون بالطاعة قاهراً"،[43]وهو أمر عُدّ من خصائص السّياسة وأحكامها، ذلك أنّ من المعاني المتعلقة بالسلطة "قوّة اليد في القهر للجمهور الأعظم وللجماعة اليسيرة أيضاً، أَلاَ ترى أنّه يُقال للخليفة سلطان الدنيا وملك الدنيا[...]وقيل: السلطان المانع المسَلَّط على غيره من أنْ يتصرّف على مراده، ولهذا يقال: ليس لك على فلان سلطان فتمنعه من كذا ".[44]
ب- العنف وانتهاك المقدس لكسب السّلطة:ذكرت كتب التاريخ[45] أخباراً عديدة سُفكت فيها دماء المسلمين بسبب اختلاف الرؤى السياسية، ففي القلاقل والفتن التي عاشها المسلمون في القرن الأول للهجرة وُظّفت أساليب متنوّعة لقمع الخصوم، وفي خضم تلك الأحداث تمّ انتهاك المقدّسات، فتمّ رجم البيت العتيق وقطعت رؤوس أبناء الصحابة والتابعين (عبد الله بن الزبير،...)، ونُكب آل البيت يوم الطفّ (61 هـ) في الحسين حفيد الرسول محمّد .إنّ الممارسات السياسية بدءاً من العقد الرابع (مهلك عثمان بن عفّان) وصولاً إلى العقد السّابع من القرن الأوّل للهجرة (واقعة الطّفّ/مهلك الحسين بن علي بن أبي طالب)اتّخذت أبعاداً مغايرة، إذ تمّ اعتماد العنف المسلّط على الأجساد للتّخلّص من الخصوم، وهي ممارسات كشفت عن عمق التّحولات الّتي عرفها الفكر السّياسي العربي الإسلامي، فلم يعد الدّين الجامع بين المسلمين باعتبارهم "أمّة" يشترك أفرادها في جملة من المبادئ الرّوحية، وإنّما أصبح الدين أداة يوظّفها المُنتصب على سدّة الحكم، لمنح نفسه شرعية إلهية تبرّر العنف الّذي يمارسه على الخصوم.[46] وفي هذا السياق ننزّل توظيف السياسيين للمتكلِّمَين، باعتبار علم الكلام علماً "يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلّة العقليّة والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات من مذاهب السلف وأهل السنّة."[47] حدّد ابن خلدون (ت808هـ) في هذا التعريف ماهية علم الكلام بالنظر في آلياته (الحجاج) ومجالاته (العقائد الإيمانية) ومقوّماته (الأدلّة العقليّة) وغاياته (الرّدّ على المبتدعة المنحرفين)، على أنّ العقائد الإيمانية في الثقافة العربية الإسلامية مبحث مترامي الأطراف، تختلف حدوده من مذهب كلامي إلى آخر، فمن العقائد الإيمانية لدى الشّيعة وأهل السّنة "الإمامة" الّتي يجب إقامتها شرعاً،[48] في حين رأى الأصمّ[49] غير ذلك، فالإمامة عنده ليست من العقائد الإيمانية الّتي أوجبها الشّرع أو العقل.[50] من هذا المنظور فإنّ "العقائد الإيمانية" تطول لدى أغلب المسلمين الإشكاليات السياسية (الإمامة/الخلافة)، يضاف إلى ذلك أنّ مفهوم "البدعة" الّذي تحدّث عنه ابن خلدون مفهوم غامض بالنظر إلى اختلاف المسلمين في تحديد "العقائد الإيمانية"، فالبدعة والضلالة والفتنة....، في تقديرنا، مفاهيم دينية وظّفها السياسي للمحافظة على السلطة، وفي المقابل كان القول بـ "الجبر" وبأنّ الإرادة الإلهية هي التي تسيّر البشر صكّ براءة أصحاب السلطان. إنّ توظيف السّياسي للدّين اتّخذ أشكالاً مختلفة، تمّ في بعضها استدعاء الدين بعد ممارسة العنف على الخصوم، وفي بعضها الآخر تمّ الجمع بين ممارسة العنف على الخصوم واعتماد حججهم الدّينية للردّ عليهم، من ذلك أنّ عبد الله بن محمّد (95هـ/158 هـ) ثاني الخلفاء العباسيين سمّى نفسه بـ "المنصور".[51] أمّا ابنه أبو عبد الله محمّد (127هـ/ 169هـ) ثالث الخلفاء فسمّى نفسه "المهدي"،[52]اقتداءً بمحمّد ذي النّفس الزكية الّذي سمّاه الشيعة بالمهدي. محا المهدي العباسي ذكر المهدي الشيعي، وقطع الطريق على المهدي المنتظر، ذلك أنّ الأوّل موجود معلوم فاعل في حيوات المسلمين، في حين كان الثاني غائباً مجهولاً عاجزاً عن الفعل.
لقد قامت علاقة أصحاب السّلطة بالخصوم خلال فترات القوّة على ممارسة العنف على الأجساد للقضاء على كل معاند طامع في السلطة من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ هذا العنف اتّخذ بعداً مقدّساً عندما تمّ الزّج بالدين في الصراعات السياسية، فإذا بالعنف ضرورة فرضها الله حماية للأمة ونصرة للدّين القويم، وبهذا المعنى فإنّ الإرادة الإلهية هي الّتي سيّرت السيوف على الرقاب، وما كان بالإمكان ردّ حكم الله. ولا يفوتنا في هذا المقام الإشارة إلى أنّ اعتماد الخطاب الدّيني (الفقه، علم الكلام) لتبرير عنف المؤسسة السياسية القائمة لم يقتصر على فترة دون غيرها، بيد أنّ ما تغيّر هو طرق توظيف الخطاب الدّيني، ولعلّ أهم اللحظات التي عرفت تحوّلاً واضحاً في هذا المجال القرن الخامس للهجرة.
(3). الجسد المعذّب في النّصوص الحواف في القرن الخامس (مُؤلّفات الغزالي أنموذجاً):إنّ البحث في منزلة الجسد المعذّب في النصوص الحواف في الثقافة العربية الإسلامية، انطلاقاً من آثار أبي حامد الغزالي (450هـ/505هـ)[53]نروم من خلاله تبيّن الأسس التي بنى عليها أصحاب النصوص الحواف قراءاتهم الكلامية والمذهبية...، فهم في أغلب الأحيان عملوا على تطويع النص المقدّس لخدمة آرائهم ومعتقداتهم، بيد أنّ الأهم من ذلك، في تقديرنا، تبيّن الدّور الّذي نهضت به المؤسّسة السّياسية في توجيه تلك القراءات الفكرية والمذهبية.
أ- موقف الغزالي من الفلاسفة والباطنية: قراءة في البعث الأخروي:عالج أبو حامد الغزالي في "
تهافت الفلاسفة" عشرين مسألة كفّر الفلاسفة في ثلاث منها،[54] وهي:
1. القول بقدم العالم.
2. القول بأنّ الله لا يحيط علما بالجزئيات الحادثة.
3. إنكار الفلاسفة بعث الأجساد وحشرها.
عبّرت مواقف الغزالي من الفلاسفة عن اختلاف فكري بين تصورين لعلاقة عالم الغيب بعالم الشهادة، ومنزلة الله والإنسان فيهما، بيد أنّ تجويد النظر في مواقف "حجّة الإسلام" يدفعنا إلى الإقرار بأنّ تلك المواقف انطوت على مقاصد سياسية، وهو ما يجعل الإلمام بأبعاد تكفيره للفلاسفة في ما يتصل بـالمعاد مسألة معقدّة، يتطلب فهم أبعادها الوقوف على أمرين، هما:
أولاً: صلة آراء أبي حامد في كتاب "تهافت الفلاسفة" بالأحداث السياسية التي شهدها عصره، إذ ننظر في الواقع السياسي في المشرق الإسلامي في النصف الثاني من القرن الخامس، لاسيما في بغداد دار الخلافة العباسية التي يُعدّ الغزالي من أهم منظّريها والمدافعين عليها.
ثانياً: علاقة "تهافت الفلاسفة" بجملة من كتب الغزالي، لا سيما كتاب "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية"[55] و"ميزان العمل"،[56]ومقصدنا من ذلك تبيّن التأثيرات التي أحدثتها مواقف الفلاسفة القائلين بأنّ البعث لا يكون إلاّ بالأنفس على العامة، وما ترتّب على ذلك من نتائج سياسية هزّت أركان الخلافة العباسية.
Ø الواقع السياسي في بغداد في عصر الغزالي:عرف التاريخ السياسي الإسلاميّ بداية من الثلث الأوّل من القرن الرابع للهجرة، منعرجات مهمّة بلغت ذروتها في النصف الثاني من القرن الخامس، ففي تلك الفترة تعدّدت مظاهر انهيار الدولة العباسية، إذ بات نفوذ الخليفة العباسي مقتصراً على " دار الخلافة" لا يتعدّاها في أغلب الأحيان، فـ (البويهيون)[57]ومن بعدهم (السلاجقة)[58] أمسكوا بزمام السلطة السياسية، إذ خصّوا أنفسهم بالمناصب العليا[59] في الدولة وبات ملوكهم ووزراؤهم يتمتّعون بنفوذ كانت خاصة بالخليفة دون غيره، وهو ما أدّى إلى تفاقم الصراعات بين الأمراء السلاجقة الطامعين في السلطة من جهة، ومن جهة أخرى تعاظمت أطماع المخالفين لهم لا سيما الشيعة. لقد تأزّمت الأوضاع بالخلافة العباسية إذ استبد بالحكم المماليك والوزراء، وأظهر ولاة بعض الأقاليم الرغبة في الانفصال عن الخلافة العباسية، لمّا رأوا مظاهر ضعفها تتعدّد،[60] وفي المقابل أخذ المدّ الفاطمي بالاتساع، وبات حرص أئمتهم على بسط سلطانهم على بغداد واضحاً،[61] من ذلك أنّ البويهيين، وهم من الشيعة، قد فرضوا على أئمة جوامع بغداد الدعاء للإمام الفاطمي في صلاة الجمعة،[62] وبالرغم من تخلّص الخليفة العباسي من البويهيين وتنصيبه السلاجقة، أصحاب المذهب السني، بدلاً من البويهيين، فإنّ ذلك لم يحل دون انتشار تعاليم الفكر الشيعي بين العامة في بغداد وما جاورها من مدن،[63] وفي هذا المجال حقّق الشيعة نجاحاً بيّناً، إذ بات للباطنية أتباع بهم استطاعت النهوض بدور مهمّ في الحياة السياسية في بغداد، وهو ما تجلّى في اعتماد أنصارها الاغتيالات،[64] فتمّ قتل الوزير نظام الملك (485هـ) وغيره من رجال الدّولة (القضاة،....) في وضح النّهار[65]، وإليهم (الباطنية) لجأ الأمراء السّلاجقة في كسب الصّراعات الّتي كانت تنشب في ما بينهم. [66] إنّ النّفوذ الباطني المتزايد وانقسام السّلاجقة وضعف الخليفة العباسي عن اتّخاذ القرارات السّياسية الحاسمة وتآكل أركان الدّولة، دفع بأصحاب السّلطة السّياسية إلى الاستنجاد بأبي حامد الغزالي[67] ، كي يُقَوّض الأسس الفكرية الّتي قامت عليها الدعوة الباطنية.
Ø علاقة الفكر الباطني بفلسفة الفارابي وفلسفة ابن سينا:قام الغزالي بمحاربة الباطنية بعد أنْ "شاع بين الخلق تحدّثهم بمعرفة الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحقّ"،[68] وهو ما مثّل تهديداً واضحاً للسلطة العباسية، إذ تفطّن "نظام الملك إلى ما يتهدّد مركز الخلافة من جرّاء هذه التعاليم، وأخصّها من الوجهة السياسية فكرة "الإمام المعصوم" فرغّب إلى الغزالي بالردّ عليهم"،[69] ولم يكن أمام الغزالي سوى إخراج الباطنية من دائرة الإسلامورميهم بالكفر، كي يتسنّى له تحييد العامة ودفعهم إلى عدم مناصرة الشيعة، وفي هذا السياق ننزّل تكفير الغزالي للفلاسفة في ما يتصل بـالبعث، ولكنّ السؤال الّذي يطرح نفسه: ما علاقة الفكر الباطني الشيعي بآراء الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي وابن سينا؟ أنكر الفارابي وابن سينا، في تصوّر الغزالي، بعث الأجساد ونفيا وجود النار والجنّة وحور العين وسائر ما وعد الله به الناس وجوداً حسيّاً جسمانياً،[70] فجميعها في تقديرهما أمثلة ضُربت للعوام على حدّ أفهامهم، وقد انطلق الفارابي وابن سينا في ذلك من تصور مخصوص مداره على أنّ النفوس جواهر مستقلّة عن الأبدان التي تُعدّ عوارض تزول بزوال الدار الدنيا، وقد ترتّب على ذلك القول إنّ العقاب والثواب في الآخرة يقعان على الأرواح، وقد رأى الغزالي في ذلك أمراً مخالفاً للشرع، فـ "إنكار حشر الأجساد وإنكار اللّذات الجسمانية في الجنّة وإنكار الآلام الجسمانية في النار وإنكار وجود الجنّة [فيه تــعــارض مع ما ذُكر...] في القرآن." [71] وما يلفت الانتباه في هذا المجال أنّ "حجّة الإسلام" عمد إلى تحريف آراء الفلاسفة،[72] وذلك عندما زعم أنّهم أنكروا "وجود الجنّة والنّار"، وهو ما لم يذهب إليه الفارابي أو ابن سينا الّذي قال بأنّ متع الجنة وآلام جهنّم لا تدرك بالحواس (الجسد)، وهو تأويل سعى الفلاسفة إلى إثباته بحجج عقلية وأحاديث قدسيّة.[73] سعى الغزالي إلى تقديم أهل المنطق في هيأة الكفّار كي يسهل عليه فضّ اجتماع الناس حول الباطنية، الّذين دانوا بأفكار الفلاسفة، ففي "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية "يصف أهل التعاليم بأنّهم قوم" لم يُثبتوا الحشر ونشر الأجساد ولا الجنّة والنار، [...] فـ المعاد [عندهم] عوْدُ كل شيء إلى أصله والإنسان مركّب من العالم الروحاني والجسماني، أمّا الجسماني منه[...] فينحل [...] وزعموا أنّ كمال النّفس بموتها إذ به خلاصها من ضيق الجسد." [74] إنّ أبا حامد بهذا القول، سوّى بين الفلاسفة وأتباع الباطنية، فما نُسب إلى الفلاسفة في "تهافت الفلاسفة" نُسب إلى الشيعة في "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية". هاجم "حجّة الإسلام" الفلاسفة كي يطعن في آراء الباطنية، وكي يقطع جذور الشجرة الشيعية فتجفّ أغصانها وتسقط أوراقها، ولعل ذلك ما يفسّر تركيز الغزالي على آراء ابن سينا، فمقصد الغزالي - في تقديرنا- لم يكن مناقشة آراء أرسطو[75] وإنّما تمثّل في مناقشة آراء الفارابي وابن سينا باعتبارها الرافد الأوّل للفكر الشيعي.[76] لقد اتّهم ابن رشد (520هـ/595هـ)[77] الغزالي بسوء فهم أقوال الفلاسفة،[78] وهو رأي (رأي ابن رشد) غير مسلّم به، ففي تصوّرنا حرّف الغزالي آراء الفلاسفة بغاية الإساءة إليهم، ذلك أنّ الحاجة السياسية دفعت به إلى التقوّل عليهم، لأنّ اقتصارهم - والباطنية من ورائهم- على القول بأنّ البعث لا يكون إلا روحياً، من شأنه أنْ يُحرّر العامة من سلطة الجسد الّذي يُعدّ أهم مجال تسعى الدولة إلى وضعه تحت نفوذها، كي تضمن بقاءها وطاعة الناس لها، فالعامة لا تخشى ولا ترهب إلا ما سُلّط على الأجساد من عذابات.
ب- علاقة الجسد بالنـّفس في تصوّر الغزالي[sup][79][/sup]
:جعل "القرآن الكريم" في آيات عديدة الإنسان موضوعاً للتّأمل والتفكير، فالجسد الإنساني" آية تدلّ بطبيعتها وخصائصها على وحدانية الله عزّ وجلّ وعظمته"،[80] وهو إلى جانب ذلك موضوع من مواضيع الخلق، فالله خلق" آدَمَ [...] مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" [81]و"خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ...".[sup][82] [/sup]الجسد البشري وفق الرواية القرآنية كُوّن من طبقات تشكّلت على مراحل زمنية متتالية "ثمّ"، وهو مزيج من مواد مختلفة (الماء، الطين، الروح)، ومن شأن هذا الجمع الطريف بين المواد المتعددة، أنْ يوطّد صلة الجسد الإنساني بعالمي الأرض والسّماء، وعلى تلك الثنائيات بنى الفكر الإسلامي نظرته إلى الإنسان، فالطين هو ما يشدّه إلى الأرض. أمّا ما يجذبه إلى السماء فروح الله التي منها خُلق،[83] وبها تحوّل من الجمود إلى الحركة والحياة. وقد تأَوَّلَ المسلمون هذه الثنائية تأويلات عديدة، اتّفقوا في أغلبها على الفصل بين عالم المادة وعالم الروح، فإذا بالإنسان كائن غريب في وضع اغتراب عن العالم وعن ذاته، وهو ما جعل الفكر الدّيني يحرص على الفصل بين النفس/الروح [84]والجسد أيْ بين ما هو بشري (ناسوت) وما هو إلهي (لاهوت)، ويُعدّ الخطاب الصوفي أكثر الخطابات تعبيراً عن الحدود التي أقامها المسلمون بين العالمين، وفي ما يتّصل بهذه المسألة نشير إلى أنّ آراء الغزالي انطوت على مفارقة عجيبة بيّن أهم مظاهرها ابن طفيل (581هـ)[85] في "حي بن يقظان" فـ "كتب الشّيخ أبي حامد الغزالي، [...تختلف باختلاف أوضاع] مخاطبته للجمهور، [فهي] تربط في موضع وتحلّ في آخر وتكفّر بأشياء ثمّ تنتحلها [ وآية ذلك] أنّه من جملة ما كفّر به الفلاسفة في كتاب التّهافت، إنكارهم لحشر الأجساد وإثباتهم الثّواب والعقاب للنّفوس خاصة، ثمّ قال في أوّل كتاب الميزان إنّ هذا الاعتقاد هو اعتقاد شيوخ الصوفية على القطع ثمّ قال في كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال إنّ اعتقاده هو كاعتقاد الصوفية."[86] لقد وزّع الغزالي في" المنقذ من الضلال" طالبي الحق على أربعة أصناف، وهم المتكلمون أهل الرأي، والباطنية أهل التعليم والفلاسفة، أهل المنطق/البرهان والصوفية أهل المشاهدة/المكاشفة الّذين اعتبرهم أهل الحقّ، ولا يخفى على أحد دعوة المتصوفة إلى التّحرر من سلطة الجسد،[87] وهو ما حيّر ابن طفيل الأندلسي[88] الّذي لم ير سبباً وجيهاً دفع بالغزالي إلى تكفير الفلاسفة في معتقد يشاركهم الإيمان به.[89] كشف ابن طفيل من خلال تلك الملاحظة، وجوه التّناقض بين مواقف الغزالي من الفلاسفة ومسألة انتمائه إلى المتصوّفة، بيد أنّ الفرق بين التصوّر الصوفي والتصوّر الباطني الفلسفي[90] ماثل في أنّ أهل التّصوّف يدعون بشكل من الأشكال إلى التزهد في الدنيا والانقطاع عنها بالانغماس في الصلاة والمواجد...، وفي المقابل فإنّ نشر آراء الفلاسفة -والباطنية- فيه "استدراج للعوام وضعفاء العقول"[91] لمواجهة السلطة العباسية بما هي سلطة على الأجساد الفانية، وفي المقابل سعى أبو حامد إلى كسب تعاطف العامة مع الخليفة العباسي،[92] فالمتأمّل في "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية " يتبيّن له قيام عنوان الكتاب على مقابلة دلالية بين "فضائح الباطنية" و"فضائل المستظهرية" أي بين الفضائح الشيعية الإسماعيلية الفاطمية وفضائل المستظهر بالله العباسي.[93]
ج- روافد الموقف الغزالي: أشار عبد الرحمان بدوي (ت2002م) في مقدّمة كتاب "فضائح الباطنية"[94] إلى تأثّر الغزالي بمواقف عبد القاهر البغدادي في "الفَرق بين الفِرق"،ونحن إذا ما قارنا بين النصين أليفناهما متّفقين في جملة من الآراء أهمها:
1. أنّ الباطنية ليسوا من المسلمين.
2. أنّ الباطنية اسم جامع للشيعة(الإسماعيلية،...).
بيد أنّ ما يلفت الانتباه أنّ البغدادي لم يعتبر تصوّر الباطنية للبعث امتداداً لتصوّر الفلاسفة (الفارابي وابن سينا،...)، فهل يعود الأمر إلى عدم اطلاع البغدادي على آراء الفلاسفة أم أنّه لم يع الصلة القائمة بين آراء الفلاسفة والفكر الباطني، أم أنّه اعتبر الفلاسفة جزءاً من الباطنية نظراً إلى أنّ الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا من الّذين كانوا على مذهب الشيعة؟.
المسألة - في تقديرنا - تتجاوز جميع هذه الفرضيات، ذلك أنّ ما كان يُؤرّق البغدادي انتشار تعاليم الباطنية على حساب المذهب الأشعري الّذي ينتمي إليه، وهو ما جعله يحرص على إبراز وجوه خرقهم للأوامر الواردة في "القرآن الكريم"،[95] مبيّناً وجوه التشابه بين تعاليم الباطنية وطقوس العبادة عند المجوس،[96] بل إنّه في الباب الرابع "في بيان الفِرقِ الّتي انتسبت إلى الإسلام وليست منه" كفّر الشيعة و "عدّ ضررها على المسلمين [...] أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس [...و] أعظم من مضرّة الدهرية وسائر أصناف الكفرة"،[97] وذلك بالنظر إلى مخالفتهم آراء الفرقة الناجية.[98] أمّا أبو حامد فوسمهم بالكفر بالنظر إلى الخطر المحدق الّذي شكّلوه على سلطة الخليفة العباسي وأركان دولته، فالغزالي عندما وضع "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" و"تهافت الفلاسفة" لم يكن يواجه خصوماً متكلّمين، وإنّما كان يواجه خصوماً سياسيين،[99] وهو ما يفسّر محاولته توجيه ضربة قاسمة لهم باعتماد الدّين،[100] فالفكر الشّيعي الّذي اتّخذ منزعاً روحانياً، متأثّراً بفلسفة ابن سينا والفارابي وإخوان الصّفا وخلان الوفا، من شأنه أنْ يزجّ بالعامة في الصراعات السياسية، وفي المقابل فإنّ تحييد العامة لا يتحقّق ما لم يتمّ لفت الأنظار إلى الآخرة، وليس للآخرة معنى ما لم يكن العقاب فيها حسياً، وليس ثمّة آلة تعمّق هذا الشعور أكثر من الجسد، فألم الجسد تدركه العوام وتخشاه، وهو ما من شأنه أنْ يدفعهم إلى ترك الدنيا وصراعاتها، - فهي مورثة الفتن والمهالك- لأهلها والالتفات إلى الآخرة بالاعتكاف في المساجد....إنّ آراء الغزالي لا تنبع من تصوّر فكري وعقدي، وإنّما تتغيّر بتغيّر المقامات والغايات التي من أجلها أُلّف هذا الكتاب أو ذاك،[101] ذلك أنّه وضع أهم كتبه بطلب من أصحاب السلطان،[102] وهو ما يقتضي بالضرورة ملاءمة محتوياتها لإرادة السّياسي السّاعي إلى بسط سلطانه على العباد ودفعهم إلى الامتثال له. وفي هذا السّياق نُنزّل سعي الغزالي إلى ضرب مبادئ الفكر الشّيعي - لاسيما الاعتقاد في "الإمام المعصوم" -[103] التي وُظّفت - حسب رأي الغزالي- لـ "انتزاع المعتقدات الظاهرة من نفوس الخلق حتّى تبطل به الرغبة والرهبة".[104]هي مدار الصراع وغاية الغزالي بقاؤها في "رهبة" و"رغبة"، ولكنّ الرغبة والرهبة اللتين سعى الغزالي إلى الإبقاء عليهما يمتزج فيهما الخوف من الله بطاعة الخليفة[105] العباسي.
لقد مارس أبو حامد القمع الفكري من خلال تأويل النص القرآني، بما يوافق رغبات السلطة السياسية الّتي يُدافع عنها، معتبراً آراءه الممثل الوحيد للحقائق الإلهية، ولتحقيق ذلك وظّف "علم الكلام" ، وفي ذلك تناقض مع دعوته إلى عدم الخوض في المسائل الكلاميّة مع العامة، ففي "إلجام العوام عن علم الكلام" بيّن أنّ "الخوض من جهة العوام في التأويل والخوض بهم فيه من جهة العلماء بدعة مذمومة".[106]ومثل العالم في ذلك مثل "السبّاح الغوّاص [الّذي يجرّ] في البحر مع نفسه عاجزاً عن السباحة مضطرب القلب والبدن، وذلك حرام لأنّه عرضة لخطر الهلاك".[107] ولايفوتنا في هذا المقام طرح السّؤال الآتي: كيف يُقنع الغزالي العوام بكفر الفلاسفة، والحال أنّ العوام عاجزون عن فهم ما تنطوي عليه تلك المسائل من إشكاليات كلامية؟ قدّم أعلام الباطنية والغزالي أيضاً، تأويلات ليس للعامة قدرة على فهمها، وفي ذلك تضارب مع دعوته إلى "إلجام العوام عن علم الكلام"،ولاغرابة في ما قام به أبو حامد، فرغبته في استمالة العوام وكسب تأييدهم للخلافة العباسية، دفعته إلى غضّ النظر عن الطريقة التي بها يحقّق مقصده، فهو إنْ لم يكسب نصرة العوام فلا أقلّ من تحييدهم عن الصراع، وفي الحالتين يحرم الغزالي الباطنية من أهم قوّة لديها (قوّة العامة/ الفوضى). الغزالي في معالجته لمسألة "بعث الأجساد في الآخرة" ورغم الانطلاق من أسس كلامية فلسفية فإنّ ثمّة غايات سياسيّة حرّكته، من أهمها البحث عن سند دينيّ وفكري للمؤسسة السّياسيّة القائمة آنذاك.
خاتـمـة...إنّ النّظر في ماهية الجسد المعذّب في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة ينطوي على دلالات رمزية تكشف عن وجود اختلافات عميقة بين التّصوّر القرآني والممارسات السياسيّة، فـ "القرآن الكريم" ميّز بين ضربين من العقاب المسلّط على الأجساد، تمثّل الأوّل في العقاب الإلهيّ الّذي استحقّه المعاندون والكافرون بتحدّيهم للأنبياء والرّسل، أمّا الثّاني فهو عقاب إنساني، وفيه صنفان:
· يكون الإنسان في الأول ظالماً يُسَلِّطُ عقابه على الأتقياء والمؤمنين (قتل الأنبياء)
· في حين ينهض في الصنف الثاني بدور المُنَفِّذ لحدود الله حفظاً لأوامره وحماية للدين (جلد الزاني والزانية،قطع يد السارق،....)،
وفي المقابل فإنّ الممارسات التّاريخيّة قامت على تحريف لما جاء به "القرآن الكريم"، فالعذاب العادل في "القرآن الكريم" كان متعلّقاً بأعداء الله ومكذّبي الأنبياء والرّسل أو بالمعتدين على أوامر الله وشرائعه، في حين وُظّف العقاب في الممارسات السّياسية للتّنكيل بالخصوم السّياسيين، فإذا بالمُنافس وصاحب الرّأي المُخالف صنو المشرك والكافر، إذ عُدّ رفض آراء صاحب الملك وأحكامه، بمنزلة الاعتداء على أوامر الله الّذي باسمه قُتّل النّاس وعُذّبوا واستُبيحت حرماتهم. وفي هذا السّياق نشير إلى أنّ الممارسات السّياسيّة سعت إلى منح نفسها شرعيّة دينيّة، وذلك بالتّوازي لممارسة العنف والقمع، فظهرت تصوّرات كلاميّة عديدة ظاهرها عقائدي وجوهرها سياسي (الجبر وضرورة طاعة أُولِي الأمر).[108] وبهذا المعنى حمُّل الجسد في الثقافة العربية الإسلامية بدلالات رمزية تداخل فيها السياسي والدّيني. [109] ذلك أنّ السياسي لم يتردّد في اعتماد علم الكلام لصالحه، وقد أدّى هذا التداخل بين ما هو ديني وما هو سياسي إلى تأوّل النص المقدّس بما يُساعد كل طرف (أصحاب السلطة/الخصوم) على كسب تأييد العامة، بالنظر إلى ما تمثّله من قوّة لا سيما في فترات ضعف السلطة الحاكمة، وفي ما يتصل بهذه المسألة عالجنا دلالات تكفير أبي حامد الغزالي للفلاسفة في ما يتعلق بمسألة "بعث الأجساد" فاتّضح لنا أنّ تكفيره لهم لم يقم على سند ديني قوي، بل إنّ الغزالي ناقض نفسه عندما كفّر الفلاسفة لأنّهم قالوا بأنّ البعث يكون بالأنفس/الأرواح دون الأجساد، ذلك أنّ شيوخ الصوفية الّذين عدّهم أهل المكاشفة والحقّ قد أقرّوا هذا التصوّر وسعوا إلى نشره. إنّ النظر في دلالات مواقف الغزالي ينتهي بنا إلى القول بأنّ غاية سياسية دفعت به إلى تكفير الفلاسفة، فرؤاهم وتصوراتهم تتقاطع في مستويات عديدة مع مواقف "الباطنية" التي مثّلت خطراً حقيقياً على الخلافة العباسية والسلاطين السلاجقة، وبهذا المعنى أصبح الفكر الديني جزءاً من المنظومة السياسية، فلحفظ وَحدة "الأمّة" طُلب من العامة والخاصة إظهار الطاعة والولاء للخلفاء عدلوا أم جاروا، وباسم الدّين كُفّر الخصوم لأنّ آراءهم تساهم في تقويض أركان السلطة السياسية القائمة وتهدّد نفوذها. لقد سطت السّياسة على الدّين كي تضيّق الآفاق على العباد الّذين صُنّفوا إلى مؤمنين وكافرين، وذلك حسب الأوضاع والأحوال، فإذا بالدين جزء من المنظومة السياسية يتكِئ عليه أصحاب السلطان في لحظات الضعف كي يقنعوا الناس بالامتثال لهم. أمّا في لحظات القوّة فيمنحهم شرعية تبرّر انتهاكاتهم للمحرّمات وسفكهم للدماء. إنّ هذه العلاقة القائمة بين السياسة والدين، تدفع الفكر العربي الإسلامي المعاصر إلى إعادة النظر في المسلمات التي أحاطت بنا وسيّرت حيواتنا، وذلك بتمييز السياسي من الديني قصد إعادة بناء فكر جديد متحرّر من سلطة الأجداد الّذين أوهموا النّاس في أغلب الأحيان بأنّ "مقاصد أهل السّياسة" هي "مقاصد الله".