الأصولية العلمانية
تبدو العلمانية بريئة جميلة ويكمن فيها الحل السحري، لمعضلة مختلف الأصوليات، وهذا أمر جميل، لكن الواقع أثبت أن العلمانية نفسها قد تنحرف وتستحوذ عليها الأصولية الدينية، كما هو واقع الحال مع الأصولية (الصهيونية) والبروتستانتية المسيحية، وهي أصوليات استحوذت على الفكرة العلمانية وأفرغتها من محتواها.
فعندما نسمع مصطلح "الأصولية" يقفز إلى الذهن تلك العلاقة التي اختزلت الأصولية في وجهها المرتبط بالفكرة الدينية، ومع الأسف ساهم الإعلام الغربي في ربط هذه التهمة بشكل كبير بالديانة الإسلامية، والأمر لا يخلو من تلميح وإيحاء إعلامي أن الديانات الأخرى (خاصة اليهودية والمسيحية وغيرهما) بريئة من معضلة الأصولية، بينما حقيقة الأمر أن الأصولية معضلة ومرض لا يمكن ربطه بديانة دون أخرى. ليس هناك حديث بما فيه الكفاية حول معضلة الأصولية اليهودية، وليس هناك حديث بما يكفي لكشف اللثام عن الأصولية المسيحية البروتستانتية في علاقتها بالأصولية اليهودية، تعتقد الأصولية اليهودية بالأرض الموعودة، التي عهد الله بها لليهود أن تكون في ملكهم دون غيرهم من الخلق، (فلسطين وما جاورها) وتؤمن الأصولية المسيحية البروتستانتية بعودة المسيح في نفس المكان، الذي يتولى مهمة إدخال اليهود في الديانة المسيحية. وكلتا الأصوليتين تستمد مشروعيتها من سردية النصوص الدينية المتساقطة للعهد القديم، أمام سردية نصوص القرآن الكريم. الأصولية الدينية اليهودية والأصولية البروتستانتية المسيحية، في تحالف لزمن طويل... فهي تقتل وتسفك الدماء وترتكب مختلف الجرائم باسم الدين...الكثير من الذي ينادون بحقوق الإنسان لا يخرجون عن تصورات الأصولية الدينية الغربية بشكل عام.
الغريب في الأمر، أن تجد الأصولية الدينية اليهودية والأصولية البروتستانتية المسيحية، قد استحوذت على العلمانية، فهذه الأخيرة بكونها حركة اجتماعية تهدف إلى تشكيل اتجاه في الحياة يقوم على مبدأ استبعاد الاعتبارات الدينية من السياسة وتنمية النزعة الإنسانية، وتأسيس نظام قِيَمي وسلوكي بعيدا يراعي الإنسان بدرجة أولى، ولا يرتهن إلى ما تقول به مختلف الأصوليات الدينية. مع الأسف لم تستجب العلمانية لهذا المطلب، وقد تحولت في كثير من المجالات إلى وجه من وجوه الأصولية باسم العلمانية؛ وذلك بالاعتداء على الحرية الشخصية، بنفس قدر انتهاك الأصولية الدينية لكرامة الإنسان، فالأصولي العلماني صاحب رؤية أحادية نسبية، يريد لها أن تنسحب على الجميع، حتى ولو كان العالم متعدد الأقطاب والمشارب وليس أحادي اللون... ويزداد الأمر تعقيدا عندما تتورط الأصولية الدينية في مختلف الجرائم، وتأتي العلمانية لتبرر ذلك، في هذه الحالة تتحول العلمانية نفسها إلى أصولية تستثمر الأصولية الدينية لمآربها التوسعية والاستعمارية... ما هو موقف العلمانية من جرائم الأصولية الدينية الغربية باسم اليهودية والمسيحية الغربية، ليس هناك موقف إلا المساندة!! وهذا يعني أن العلمانية قد فقدت الجزء الكبير من نزعتها الإنسانية.
الأصولية في أحد معانيها تعني التمسك الحرفي بالنصوص الدينية، والفهم الخاطئ لها، والانغلاق في الماضي الغابر، واحتقار الحاضر والمستقبل معاً؛ ذلك لأن نظرة الأصولي مستديرة دائماً إلى الوراء لا إلى الأمام. إنها مثبتة على لحظة معينة من لحظات الماضي، لحظة تتعالى على كل اللحظات!
تتصف الأصولية بالجمود ورفض كل أشكال التكيف مع الحاضر ومتطلباته، فهي ترى في الماضي القريب أو البعيد الشكل والنموذج المكتمل الذي ينبغي اتباعه، الأصولية لها أصل معين تعود إليه وتفهمه كما يبدو لها، وتقصي كل فهم مختلف عن فهمها له، والأصل ليس بالضرورة أن يكون فكرة فقد يرتبط بشيء من الأشياء أو مصلحة من المصالح الاقتصادية أو المالية...التي ينبغي الاستحواذ عليها مهما كان الأمر، الأصولية لا تأخذ بمبدأ الحوار والتواصل والتسامح في حل مختلف القضايا المختلف حولها، فهي لا تؤمن إلا بتصوراتها وفهمها فقط، إيمانا منها بأنه هو الحل الوحيد. فالأصولية وفق هذه القاعدة ممكن أن تكون دينية، أو سياسية، أو حزبية، أو علمانية أو اقتصادية...وقد تتداخل مكونات علمانية ودينية وسياسية في قالب أصولية بعينها. السؤال هنا إذا كانت الأصولية على هذا المنوال المتعدد الأوجه، وقد عانى العالم الإسلامي ولازال من معضلة الأصولية الدينية باسم القاعدة وباسم داعش...فهل هذا يعني أن الغرب معافى وسليم وبعيد كل البعد من الأصولية؟
ظاهرة الأصولية والتشدد والتطرف في مختلف وسائل الإعلام الغربي، يتم ربطها بالإسلام، كما أشرنا سالفا، وهي صورة يتم تسليط الضوء عليها وتعميمها كلما سمحت الفرصة طيلة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين حتى هذه اللحظة. وفي مقابل هذه الصورة، يتم تلميع صورة الغرب، بكونه مجال الحريات والاختلاف والتعددية الدينية والثقافية. وحقيقة الأمر أن (المركزية الغربية) وجه من وجوه الأصولية الغربية، وهي أصولية حبيسة سياقها التاريخي المرتبط بروما، فالرومان كانوا أكثر بربرية، وورث عنهم الأوربيون والأمريكيون من بعدهم كل أشكال البربرية والعنف والتسلط على مختلف الشعوب منذ خروج أوروبا إلى العالم في القرن 15م. نحن "في آخر المطاف نلاحظ اندفاعا هائجا لخمسة قرون من البربرية الأوروبية خمسة قرون من الغزو والاستعباد والاستعمار. [لقد تم] عولمة هذه البربرية الأوروبية."[1] وجه عولمة الأصولية والبربرية الغربية، في جزء منه، يتمثل في دولة إسرائيل في الشرق الأوسط، وهو مشروع غربي يلخص أسوأ ما تتصف به الأصولية والبربرية الغربية، فمصلح البربرية يرتبط بالعنف بشتى أنواعه، الجسدي والمعنوي، من أجل إخضاع المعنفين لأمر معين يترتب عنه سلب ممتلكاتهم أو وطنهم أو حريتهم... فالعنف يُعدّ المركّب الأساسي للبربرية، بكونها تمثّل تلك الأعمال التخريبية التي تطال الذوات البشرية، وهذا هو ما تقبل عليه إسرائيل الآن أمام أعين العالم بمباركة أمريكا وحلفائها، وقد تفاجأ الجميع من قول الرئيس الأمريكي عند زيارته لإسرائيل (بتاريخ: 18/10/2023م) إثر أحداث (7 أكتوبر2023م) "حتى ولم توجد إسرائيل لأوجدناها" وكذلك من تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية قوله: "أزور إسرائيل بصفتي يهوديا وسنلبّي جميع حاجاتها الدفاعية" هذه التصريحات أسقطت القناع بشكل جديد عن الغرب، وظهر بأنه يتصرف بدافع أصوليته الدينية بهدف حماية مختلف مصالحة الإستراتيجية، وكالعادة قد اصطفت مختلف الدول الأوروبية من وراء القرار الأمريكي. والغريب عندما تجد فيلسوف مشهور بالتنظير لفلسفة التواصل، وبالدعوة إلى العقل كأفق كوني للتواصل العقلاني، وهو يورغن هابرماس (-1929م) يصدر بيانا إلى جانب آخرين، تضامنا مع مختلف الجرائم التي قامت بها وتقوم بها إسرائيل في حق الفلسطينيين، فموقف هابرماس وغيره، فاجأ الكثير من المثقفين العرب وغير العرب، فأين هو وجه العقل والتواصل والإنسانية في فلسفة هابرماس إذن؟ هل هابرماس يفكر من داخل الأصولية اليهودية؟ أمام هذا الوضع البئيس، هناك غرب آخر، يتظاهر كل يوم في مختلف شوارع العواصم الغربية، يدين الحرب، ويستنكر كل ما تقوم به إسرائيل. أكبر خطر يهدد العالم اليوم هو خطر الأصوليات، فكل الأصوليات يهودية أو مسيحية أو إسلامية، تشكل خطرا أكبر على مستقبل الإنسانية، فانتصاراتها لا نجني من ورائها إلا الدمار.[2] كما هو الحال اليوم في غزة التي دمرتها الأصولية اليهودية بمساعدة ورعاية الأصولية الغربية. فما حصل في غزة شبيه بما وقع طيلة القرن العشرين، بقتل المدنيين العزل والأطفال والنساء. وهذا يعني أن غرب القرن العشرين هو نفسه غرب القرن الواحد والعشرين. أمام هذا الوضع لا يكفي رؤية العالم من منظور غربي فقط، وقد اتضح للجميع أن رؤية الغرب متطابقة مع مصالحه على حساب مصالح الغير. فمنذ زمن الاستعمار، تم تهميش التصورات غير الغربية بشكل متزايد، بل تم تدميرها جزئياً ومحوها. لقد جعل التغريب العالم أفقر وأكثر رتابة.[3] الإنسانية اليوم في أمس الحاجة لترى العالم بمعزل عن أي شكل أو لون من ألوان الأصولية. فأصولية الغرب جعلته يتصور نفسه في مقدمة خط السباق سباق التقدم، وما دونه يتمركز وراءه، السؤال هنا بالنظر إلى مختلف مشكلات وأزمات العالم والحروب التي كان الغرب وراء الكثير منها. هل حلها يكمن أمام الغرب أم وراءه؟ هل الغرب اليوم مستعد ليلتفت وراءه إلى مختلف ثقافات الشعوب والأمم التي يعتقد أنها وراءه؛ أي الشرق؟ أم إن أصوليته ستحيل بينه وبين ذلك؟
[1] إدغار موران، "ثقافة أوروبا وبربريتها" ترجمة محمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2007م. ص.20 [2] الأصوليات المعاصرة، ترجمة، خليل أحمد خليل، دار عام ألفين، طبع سنة 2000م، ص 11 [3] شتيفان فايدنر، ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد، ط.1، منشورات مؤمنون للنشر سنة 2013م (مقدمة الكتاب)
اليوم في 12:37 pm من طرف سميح القاسم