بين الصدفة العمياء والحكمة الباهرة.. عقد الكون الفريد

بين الصدفة العمياء والحكمة الباهرة.. عقد الكون الفريد

سعيد النورسي

05/02/2019

إيمانيات, المدونة
2404

إننا نلاحظ على سطح الأرض انتظامًا بديعًا في كل فصل من فصول السنة واطرادًا عجيبًا، في إيجاد المخلوقات، وتدبير أمورها، وتجديدِها باستمرار. وذلك يدل –بداهة- على حكمة شاملة تغمر الموجودات. هذه الحكمةُ الشاملة تدل بالضرورة على حكيم مطلق الحكمة، ذلك أنه لا صفةَ بدون موصوف.

وإن أنواع الزينة البديعة التي تؤطر ستارَ الحكمة العامة الذي يتلفع الوجودُ به، تدل بالبداهة على عناية فائقة عامة، وهذه العناية تدل بالضرورة على خالق كريم. وإن أنواع اللطف والكرم، وألوانَ الرفق والإحسان المرسومة على ستار العناية الذي يغطي الوجود كله، تدل بالبداهة على رحمة واسعة، وهذه الرحمة الواسعة تدل بالضرورة على “الرحمن الرحيم”. ثم إن أنواع الرزق، وأنماطَ الإعاشة، المزهرةَ على أغصان الرحمة التي تظلل بأفنانها كُلَّ شيء، والمعدَّة للأحياء المحتاجة إلى الرزق، وإعاشتَها إعاشة تلائمها تماما، يدل بالبداهة على رزاقية ذات تربية ورعاية، وربوبية ذات رأفة ورحمة. وهذه التربية والإدارة تدلان بالضرورة على رزّاق كريم.

نعم، إن كاف المخلوقات المبثوثة على الأرض يتم تربيتها بحكمة كاملة، وتزيينها بعناية كاملة، وإسباغها النعَم برحمة كاملة، وإمدادها بوسائل عيشها برأفة كاملة. فكُلّ منها لسان ناطق ومشير إلى الله الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزّاق. وكُلّ منها أيضا يشير إلى وحدانيته سبحانه.

اقتباس :: إننا نلاحظ على سطح الأرض انتظامًا بديعًا في كل فصل من فصول السنة واطرادًا عجيبًا في إيجاد المخلوقات وتدبير أمورها وتجديدِها باستمرار.

فيا أيها الغافل الحائر الجاحد! كيف تفسر هذه التربية المكللة بالحكمة البالغة، والكرم الشامل، والرحمة الواسعة، والرزق الوفير، وبِمَ توضّح هذه المظاهر المعجزة؟

أفيمكن تفسيرُها بالمصادفة العشواء؟ أم يمكن توضيحُها بالقوة الميتة موات قلبك؟ أم يمكن ذلك بالطبيعة الصمَّاء صمَم عقلك؟ أم بالأسباب العاجزة الجامدة الجاهلة مثلك؟ أم تريد أن ترتكب خطأً جسيما -ما بعده خطأ- وهو إطلاقك صفات البارئ الجليل المنـزّه المتعال والقدير العليم السميع البصير، على “الطبيعة” العاجزة الجاهلة الصمَّاء العمياء؟

فبأيّ قوة يمكنك أن تطفئ سراجَ هذه الحقيقة الساطعة سطوع الشمس؟ وتحت أي ستار من أستار الغفلة يمكنك أن تسترها؟

الهدم

لتفكيك النص باستخدام المنهج التهديفي، يمكن التركيز على تحليل المقدمات، النتائج، والبنية الحجاجية. الهدف هو تفكيك ادعاءات النص، كشف تناقضاته، وتسليط الضوء على مواطن ضعف منطقه.

1. المقدمات الكبرى في النص:

النص ينطلق من افتراض "الانتظام البديع" على سطح الأرض دليلاً على "حكمة شاملة".
يربط النص بين وجود الحكمة وبين ضرورة وجود "حكيم مطلق الحكمة".
يستخدم النص سلسلة من الاستنتاجات الخطية: الحكمة :arrow_right: العناية :arrow_right: الرحمة :arrow_right: التربية :arrow_right: الربوبية.

تفكيك المقدمات:

الانتظام ليس بالضرورة دليلاً على الحكمة:
- الانتظام ظاهرة طبيعية يمكن تفسيرها بمفاهيم مثل القوانين الفيزيائية أو النشوء والارتقاء.
- الترتيب لا يتطلب واعيًا بالضرورة؛ العديد من الأنظمة الطبيعية (كالتبلور أو حركة الكواكب) تظهر انتظامًا دون حاجة لإرادة واعية.
الحكمة تتطلب تعريفًا دقيقًا:
- النص يفترض أن الحكمة تعني "هدفية"، لكنه لا يقدم دليلًا على أن الكون أو الطبيعة يعملان لتحقيق غاية محددة.

2. الإطار الجدلي في النص:

النص يعتمد على أسلوب "البداهة" كوسيلة حجاجية؛ يكرر عبارة "يدل بالبداهة" دون إثبات علمي أو منطقي.
يستخدم النص أسلوبًا خطابيًا يدين المخالفين دون مناقشة حججهم؛ مثل وصفهم بـ"الغافل الحائر الجاحد".

تفكيك الجدلية:

البداهة ليست حجة منطقية:
- النص يكرر عبارة "يدل بالبداهة" وكأنها حقيقة مطلقة، بينما البداهة مفهوم نسبي يعتمد على القناعات الشخصية، وليس على أدلة تجريبية.
التجاهل الانتقائي:
- النص يتجاهل احتمالات أخرى مثل الصدفة أو التفسيرات الطبيعية، ويصفها بأنها "عشواء" أو "ميتة" دون تحليلها علميًا.

3. نقد سلسلة الاستنتاجات:

الحكمة :arrow_right: العناية :arrow_right: الرحمة:
- لماذا يُفترض أن الانتظام يؤدي إلى "العناية"؟ يمكن للطبيعة أن تكون غير واعية ومع ذلك تُنتج نتائج منتظمة.
- الرحمة مفهوم إنساني يفسر العلاقة بين الكائنات؛ تطبيقه على الكون ككل يستدعي دليلًا قويًا يفتقده النص.
الطبيعة "الصماء" و"الجاهلة":
- وصف الطبيعة بهذه الطريقة ينمّ عن مغالطة "التوسل بالسخرية". عدم قدرة الطبيعة على التفكير لا يعني أنها غير قادرة على إنتاج التعقيد.
الصفات الإلهية:
- النص يفترض أن "الحكمة والرحمة" صفات لا يمكن أن تنبثق إلا من كيان واعٍ، لكنه لا يقدم إثباتًا منطقيًا لاستحالة أن تكون هذه الصفات نتيجة تفاعلات طبيعية.

4. مواطن التناقض:

رفض المصادفة مقابل تفسير الطبيعة:
- النص يرفض المصادفة كمصدر للانتظام لكنه لا يقدم بديلاً ماديًا واضحًا. بدلاً من ذلك، يستبدل المصادفة بإرادة خفية دون إثبات وجودها.
إلزام المخالفين بإثبات عكس الادعاء:
- النص يُحمّل الرافضين عبء إثبات عدم وجود الخالق، وهو مغالطة منطقية (تحويل عبء الإثبات).

5. استنتاجات منهج التهديفي:

النص يعاني من:
- مصادرة على المطلوب: يبدأ من افتراض وجود حكمة إلهية ليبرهن على وجود إله.
- إقحام العواطف: يستخدم لغة عاطفية مثل "الغافل الحائر الجاحد" لتشويه المخالفين.
- غياب الأدلة التجريبية: لا يعتمد على أدلة علمية أو تجريبية تدعم حججه.
الكون قد يبدو منتظمًا، لكن هذا لا يعني بالضرورة وجود حكمة واعية خلفه. الانتظام يمكن أن يكون نتيجة قوانين طبيعية لا تحتاج إلى "حكيم مطلق".

الخلاصة:

النص يعبر عن رؤية لاهوتية تحاول تفسير الكون عبر إضفاء الطابع الإلهي على ظواهره. ومع ذلك، باستخدام المنهج التهديفي، يتضح أن معظم حجج النص تقوم على مغالطات منطقية وتجاهل بدائل مادية وعلمية مقبولة لتفسير نفس الظواهر.

4o

» الصدفة
» ماذا عن رواية خلق الكون ونظرية تكوّن الكون في الدين والعلم؟
» ماذا عن رواية خلق الكون ونظرية تكوّن الكون في الدين والعلم؟
» الأرجوحة العمياء
» العقاد يعاين العالم المادي والحكمة الصوفية عند ألدوس هكسلي