كتب
جلال عارف في صحيفة أخبار اليوم المصرية:
في الستينات من القرن الماضي، كانت المرأة المصرية قد أخذت حقوقها السياسية كاملة،
وكانت قد دخلت البرلمان بالانتخاب، وأصبحت وزيرة، واقتحمت كل الميادين العلمية
والاقتصادية والسياسية والثقافية. وكانت الفتاة المصرية تثبت تفوقها في كل
المجالات، وتعوِّض سنوات الحرمان الطويلة التي قاستها في ظل الفقر والاحتلال
والتخلف الثقافي وميراث سلاطين الجواري وفقهاء السلاطين. بعد خمسين عامًا تعود
عقارب الساعة إلى الوراء. تواجه المرأة المصرية الغزو الجديد لثقافة التخلف التي
تريد إعادتها إلى عصر الجواري.
أشار نقيب الصحافيين المصريين الأسبق في هذه المقالة إلى مظاهر أصولية تنتشر اليوم
في بلاده، منها "تهديد فتيات وأمهات محترمات في الشوارع لأنهن سافرات الوجوه"، وأمر
بعض محلات الكوافّور في بعض المناطق بغلق أبوابها، وختم كلامه بقوله:
إن التهوين من هذه التهديدات العلنية التي يوجهها هؤلاء المتنطعون للمرأة المصرية،
لا يجوز مطلقًا. فقد تهاون غيرنا فانتهى بهم الأمر إلى الجنة الموعودة، كما في
الصومال والسودان وأفغانستان.
تختصر هذه الكلمات التحوُّل الكبير الذي يعيشه المجتمع المصري منذ بضعة عقود. تبدو
"النهضة النسائية" التي بدأت في مطلع القرن العشرين جزءًا من الماضي، وتتهاوى
إنجازاتها الكبيرة التي تكرَّست في الستينات، ولم يعد في الحديث عن العودة إلى "عصر
الجواري" أي مبالغة إنشائية. تودِّع أرض الكنانة عصر التنوير الذي بدأ في زمن محمد
علي وتسدل الستارة على زمن تُجمع وسائل الإعلام المحلية على وصفه بـ"الزمن الجميل".
كما هو شائع، نشر قاسم أمين في نهاية القرن التاسع عشر كتابه تحرير المرأة،
وأثار عاصفة من الاحتجاجات، فواجه منتقديه ونشر في عام
1901
المرأة الجديدة، وطالب بإقامة تشريع جديد يكفل للمرأة حقوقها. تبع هذه
الدعوة العديد من أعلام الفكر والأدب، وبات سفور المرأة عنوانًا من عناوين نهضة
المجتمع. في عام
1915،
أصدر عبد الحميد حمدي جريدة أسبوعية اختار لها اسم السفور، وجعل منها منبرًا
للعديد من أدباء المدرسة الحديثة. صدم هذا الاسم الذوق العام وأثار حفيظة الكثيرين،
غير أن الصحيفة صمدت، وكانت أشبه بـ"شابة مملوءة بالحماسة والأمل" كما كتب مصطفى
عبد الرازق. خرجت المرأة من الظل إلى النور في عهد ثورة التاسع عشر وكشفت عن وجهها،
معلنة بدء عصر "المرأة الجديدة". في عام
1920،
عادت هدى شعراوي من فرنسا على متن الباخرة التي ركبها سعد زغلول، وعند وصولها إلى
المرفأ، نزلت وهي سافرة الوجه أمام الجموع التي احتشدت لاستقبال الزعيم سعد. رفعت
"أم المصريين" النقاب، وتبعتها الكثيرات من سيدات ذلك الزمن وبناته. شاركت هدى
شعراوي في المؤتمر النسائي الذي انعقد في جنيف في العام نفسه، ورافقتها في تلك
الرحلة سيزا نبراوي. وفي عام
1923،
تجددت هذه المشاركة في "المؤتمر الدولي للمرأة" في روما. في تلك الحقبة، تجاوزت
صفية زغلول التقاليد مرة أخرى، وخطت أبعد في معركة السفور، فظهرت في مجلة "اللطائف
المصورة" مكشوفة الوجه والرأس، وشكّل هذا الظهور مرحلة ثانية من مراحل معركة
السفور.
خرجت المرأة المصرية إلى الشارع، ولمعت في عالم الأدب والفكر والصحافة والفن. أصدرت
منيرة ثابت مجلة الأمل، واشتهرت بانتقادها الدستور المصري الصادر في
1923
لإغفاله الحقوق السياسية للمرأة. في تموز
1926،
كتب حسن صديق في مجلة روز اليوسف مقالة تناول فيها نشاط "بنات اليوم"، وتحدث
عن نزول المرأة "إلى حلبة السياسة وميدان الصحافة حيث تظهر قوة الإرادة وصدق
العزيمة"، وأضاف:
ولسنا في حاجة لأن نذهب بعيدًا للبحث عن مثلنا، فهنا في مصر الآنسة منيرة ثابت تلك
الثائرة التي أحني أمامها رأسي إعجابًا بعزيمتها وإجلالها لثورتها، وإن كنت أخالفها
بعض آرائها.
في المقابل، نجد في مجلة الكشكول مقالة من توقيع "قارئ" نُشرت في تشرين
الثاني
1925
تهاجم منيرة ثابت بأقسى العبارات وتطالب رجال الأزهر بإيقافها عند حدها لأنها تجرأت
وادَّعت
أن القرآن لم ينصف المرأة في الميراث، وغير المنصف ظالم، وليس يرمي بهذا الوصف أحد
يؤمن فيه.
اعتبر هذا "القارئ" أن تعرض منيرة ثابت للدين
أمر فظيع، وعبث لا ينبغي السكوت عنه لئلا تكون فتنة تذهب بما في نفوس النسوان من
الإيمان، والمرأة لا وازع لها عن الشر غير الدين،
وطالب وزارة الداخلية بأن تسحب رخصة المجلة كونها تتعرَّض للدين، مما يخالف قانون
المطبوعات. في نهاية نيسان
1926، جددت الكشكول هجومها الحاد
على منيرة ثابت، وسخرت من مطالبتها بحق الانتخاب للنساء المصريات، وأضافت:
والآنسة منيرة ثابت تمتاز بثورتها على التقاليد الموروثة، فهي لا تتحرج أن تهجم على
ما كان إسلاميًا من هذه التقاليد، فليس كثيرًا عليها وهي صاحبة الدعوة إلى مساواة
المرأة والرجل في الميراث الشرعي أن تطلب للنساء حقًا للانتخاب.
تشكل المواجهات التي خاضتها منيرة ثابت في تلك الحقبة وجهًا من وجوه هذا النشاط
النسائي الحي، وهي حلقة من حلقات عدة تطوَّرت وتمدَّدت في آنذاك. في هذا الخضمِّ،
انتصرت المرأة المصرية في معركة "السفور" ونزلت إلى "البلاج" كما تنقل الصحافة
المعاصرة لهذه التحولات الكبيرة. من أعجب ما نقرأه في هذا الشأن تعليق لمجلة
الكشكول في صفحة "عالم المرأة" يعود إلى منتصف آب
1926،
عنوانه "ملابس الحمَّامات"، ونصُّه:
روينا في عدد ماض خبر الاحتياطات التي يتخذها البوليس الإيطالي لمنع التهتك والتبذل
في الحمَّامات البحرية. وتقول الصحف الفرنسوية إنه قد صدرت الأوامر إلى رجال الأمن
العام في بلاد الشواطئ والحمامات بمراقبة السيدات ومنعهن من النزول إلى البحر
والسير على الشواطئ وهن عاريات السيقان والأذرع. والعاقبة عندنا في الرمل وأبي قير
ورأس البر، إلا إذا كانت الامتيازات تمنع من تدخُّل البوليس المصري.
من العشرينات إلى الثلاثينات، تواصل نضال المرأة المصرية ودخل مرحلة مصيرية في
الأربعينات. في تموز
1943، نشرت عائشة عبد الرحمن المعروفة
بـ"بنت الشاطئ" مقالة في مجلة الهلال عرضت فيها تطور ثورة "المرأة الجديدة"،
ورأت أن هذه الثورة بدأت عام
1900
على التحديد حين
وقفت الحياة في مصر برهة لأن أهلها وقفوا يتفرجون على فتاة مصرية واحدة نالت
الشهادة الابتدائية في ذلك العام للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
نشرت المؤيد في هذه المناسبة قصيدة لهذه التلميذة تفتخر فيها بأنها "ساوت
الرجال في التعليم"، وشكَّل هذا الفوز بداية رحلة الخروج "من تلك الأمية السائدة".
اندفعت الجموع النسائية "في سرعة هوجاء، تقتحم المدارس الأولية والابتدائية
والثانوية، حتى أدركت أبواب الجامعة". بحسب بنت الشاطئ، تجاوزت المرأة "في هذا
العمر القصير، حدود الخدور، وأسوار التقاليد، إلى آفاق الدنيا والعمل"، و
ستمضي في الطريق الوعر إلى النهاية، وسيراها القرن الحادي والعشرون وقد فتحت معقلين
موصدين اليوم. أما الأول فهو باب الأزهر، تدخله عنوة ولو كره الرجال، لتفقه الحدود
الشرعية وتنتفع بها وتفسرها تفسيرًا تراعي فيه مصلحتها كما فعل الرجل من قديم
الزمان. وأما الثاني فهو باب البرلمان، تدخله في معركة رهيبة تستشهد فيها الأنثى،
لتشترك في توجيه الحياة الحديثة، وبناء العالم من جديد. ويومئذ قد يثور الرجال
ويسخطون وينكرون.
في آذار
1925،
وُلدت "اللجنة السعدية للسيدات"، وهي جمعية تهدف إلى انتزاع حقوق المرأة بالسلم،
كما قيل يومها. في شباط
1944،
تأسس "الحزب النسائي الوطني المصري"، وكان هدفه الأول المطالبة بحق المرأة في
الانتخابات وفي تمثيلها في البرلمان. في شهر أيار، عرض الأستاذ زهير صبري في مجلس
البرلمان اقتراحًا يجعل للمرأة "حق المساواة الرجل في الحقوق السياسية، وحق
التصويت، وحق النيابة عن الأمة"، ولقي هذا الاقتراح معارضة جماعية من المجلس، فتم
رفضه من أساسه، ولم يقبل المجلس بإحالته على أي لجنة بحجة مخالفته للدستور ولقانون
الانتخاب الذي يقصر هذه الحقوق على "كل مصري من الذكور". خرجت شعراوي من هذه الجلسة
لتقول:
يدهشني حقًا أن الرجعية تمتزج بالديموقراطية، فأرى من يقومون لينكروا على المصرية
حقها الشرعي، في الوقت الذي شهدوا فيه تقدمها ولمسوا ما يمكن أن تقوم به من أعمال
نافعة، فرفضوا أن يعطوها هذا الحق في الوقت الذي يعطونه للجهلة من الرجال.
في آذار
1946،
أقامت "رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية" مؤتمرًا طالبت فيه بحقوق المرأة
السياسية بصوت عال. تحدثت لطيفة الزيات في هذا المؤتمر وقالت:
لقد قمنا بحركتنا في أكتوبر عام 1945، وانضمت إلينا الفتيات المثقفات. وفي غدنا
سنضم النساء المصريات، فلاحات وعاملات. سنعمل على أن يكون للمرأة حق الانتخاب
والنيابة والمساواة مع الرجل في الأجور والأعمال.
تواصلت المعارك في السنوات التالية، وبرزت في هذا الخضم الناشطة درية شفيق، رئيسة
"اتحاد بنت النيل" التي قادت تظاهرة في القاهرة توقفت أمام البرلمان المصري
للمطالبة بحق المرأة في الدخول إليه. في شباط
1951،
تمَّت محاكمة هذه الناشطة المثيرة بعد اتهامها بعقد اجتماعات عامة من دون إخطار
الجهات المسؤولة. تابعت الصحافة هذه المحاكمة بشغف، وقالت إن المتهمة قوبلت
"بالتصفيق من جانب الجنس الخشن والزغاريد من جانب النساء المصريات"، وقد "تطوعت
عشرون محامية للدفاع عن الزعيمة المصرية، على رأسهن مفيدة عبد الرحمن"، كما تقدم
مجموعة من المحامين للدفاع عنها "بحجة أن هذه القضية تهم الرجال أيضًا".
التحوُّل الجذري
تواصل هذا النشاط بالسرعة نفسها بعد سقوط الملكية، وتحققت مطالب المرأة في عهد
الثورة. كما أشار جلال عارف في أخبار اليوم، أخذت المرأة المصرية حقوقها
السياسية كاملة في الستينات، و"دخلت البرلمان بالانتخاب، وأصبحت وزيرة، واقتحمت كل
الميادين". تلبَّدت هذه الصورة منذ الثمانينات، وانقلبت تمامًا في زمننا الحاضر. في
حديث نشرته الهلال في تشرين الأول
1925،
رأت منيرة ثابت أنه "ليس في مصر حجاب الآن، بل المصريات كلهن سافرات". في بحث
ميداني شائق صدر في العام الفائت تحت عنوان مصر التي في خاطري، تنقل دلال
البزري صورة بانورامية شاملة لمصر اليوم تكشف عن التحوُّل الجذري الذي يعيشه "عالم
المرأة". تؤكد الباحثة أن المنقَّبات بتن يشكلن نسبة خمسة عشر في المئة من نساء
مصر، والمحجبات ثمانين في المئة، مما يعني أن السافرات قد لا تتجاوز نسبتهن خمسة في
المئة، "وهذه النسبة الأخيرة، الطفيفة أصلاً، تتضاءل في أمكنة بعينها". تسأل
الباحثة:
إذا أردت تقدير حجم هذا الانقلاب، تصوَّر نفسك بعد مئة عام تتصفَّح كتابًا عن
الأزياء عبر العهود. ماذا عن الفترة بين القرن الماضي والذي انقضى، وحتى الآن،
العام 2010؟ النساء كنَّ منقَّبات في أوائل القرن الماضي، ثم خلعن النقاب في
ثلاثيناته وأربعيناته، ثم خلعن الحجاب في خمسيناته وستيناته. وبعد ذلك مضين في
السفور والبنطلون والتنورة والأكمام القصيرة. ثم عدن ثانية إلى الحجاب من السبعينات
وحتى الآن، وقد بدأ ينافسه النقاب. نقاب وحجاب جديدان، لا يشبهان نقاب وحجاب أوائل
القرن الماضي أو ثلاثيناته.
تصف دلال البزري "طغيان الحجاب" بدقة علمية بالغة، وتلاحظ أنه "ليس مفروضًا
بالقانون بعد"، وهو "أقوى منه"، و"هو مثل الإرادة الجماعية المنجرفة بحرية نحو هدف
واحد".
تحاول الكاتبة تفسير هذا التحوُّل، وترى أنه جاء نتيجة لهزيمة حزيران
1967
بوجه خاص. كانت هذه الهزيمة معنوية في العمق. بعدها، فقدت مصر الأمل والوثبة، وفقدت
معها زعامتها التاريخية للعالم العربي، وهذه الزعامة
تعود إلى قرنين، عندما كانت مصر، بقيادة محمد علي باشا، ترسل البعثات التعليمية
وتشيِّد الطرقات والجسور وتقيم المؤسسات وترسي لحالة طليعية وسط تأخُّر يحيط بها
ويتطلَّع إلى التمثُّل بها.