22 مارس 2014 بقلم
إبراهيم غرايبة قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:يتتبع الفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتاب "الدين والعلم" الصراعات التي نشبت بين علماء اللاهوت والعلم في القرون الأربعة الماضية، ويلاحظ أن النصر كان حليف العلم في كل مرة اختلف فيها مع اللاهوت، وكان انتصاره للتقدم والتخفيف من آلام البشر، ويجد راسل أن الحرب بين العلم واللاهوت كادت تنتهي، ولم يعد الدين هو الخطر على الحريات والتقدم، ولكنها الحكومات والأنظمة السياسية الاستبدادية.
لقد شُغلت الإنسانية على مدى تاريخها، بالعلاقة بين الدين والعلم، وكان الجدل بين العلم والدين موضوعًا لصراعات ومحاكمات طويلة في عصر النهضة الأوروبي، وما يزال كتاب راسل "الدين والعلم" مهمًا في فهم هذه العلاقة، حيث يقدم راسل تحليلاً لهذا الجدل، وما يتضمنه من اختلاف واتفاق.
والعلم محاولة عن طريق الملاحظة وإعمال العقل، القائم على هذه الملاحظة، لاكتشاف الحقائق الخاصة بالعلم، ثم اكتشاف القوانين التي تربط الحقائق بعضها ببعض، وتستخدم التقنية المعرفة العلمية لتوفير الراحة ووسائل الترف التي كان يستحيل تحقيقها فيما مضى، أو كانت تحتاج إلى تكاليف باهظة. ولكن الدين، كما يقول راسل، ظاهرة أشد تعقيدًا من العلم، فجميع الأديان التاريخية لها ثلاثة وجوه: المؤسسة، والعقيدة، ونظام يحكم الأخلاق الشخصية. أما التدين الشخصي البحت فيمكن أن يبقى، حتى في أكثر العصور علمية، دون أن يعكر صفوه شيء، طالما أنه يتجنب التورط في تأكيدات يمكن للعلم أن يدحضها، وبالنسبة للعالم المسيحي، كان هناك نوعان من الصراع، حين تصدى العلم لبعض المسلمات المسيحية المهمة، أو بعض المذاهب الفلسفية الضرورية للفكر الديني، وقد استخدم توماس الإكويني العلم والمنطق لإثبات محتويات الكتاب المقدس بالدليل العلمي، من مثل الخالق.
يأخذ العلم صدقيته من فرص تطبيقه تقنيًا؛ فالنظريات المؤدية إلى اختراعات وتطبيقات، تصدق النظريات العلمية الأخرى، وهكذا تتوقف المعرفة عن أن تكون مجرد مرآة للكون، لتصبح أداة علمية في تناول المادة ومعالجتها. وقد اضطر اللاهوت أن يؤقلم نفسه مع العلم، ولهذا بدأ تفسير نصوص الكتاب المقدس التي لا تساير العلم على نحو رمزي، ثم قام البروتستانت بنقل مركز السلطة الدينية من الكنيسة إلى الكتاب المقدس وحده، ثم التركيز على روح الفرد. وفي جميع الأحوال، فالدين مرتبط بالحياة الخاصة التي يشعر بها المؤمنون، وطالما أن الدين يتلخص في طريقة الشعور، وليس فقط في مجموعة من المعتقدات، فإن العلم لا يستطيع أن يتعرض له.
ومن الصراعات التاريخية المشهورة بين الدين والعلم، مقولة نيكولاس كوبرنيكوس (1473–1543) بمركزية الشمس بدلاً من الأرض. ثم طور يوهانس كبلر (1571-1630) النظرية على أساس أن الكواكب تدور حول الشمس في مدار إهليلجي بيضاوي، وتحتل قوانين كبلر الثلاثة أهمية عظمى في تاريخ العلم، لأنها وفرت لإسحق نيوتن (1642-1727) الدليل الذي اعتمد عليه لإثبات قانون الجاذبية. كما جاءت قصة غاليليو (1564–1642) الذي قدم دراسة للقوانين التي تحكم حركة الأجسام، واستفاد من التلسكوب، وقد حظرت الكنيسة الكتب التي تقول بدوران الأرض، وصارت الهندسة رجسًا من عمل الشيطان. وسجن غاليليو وأدين كوبرنيكوس بعد وفاته، وفرّ رينيه ديكارت إلى هولندا، واستمر هذا الحظر حتى العام 1835، فلم يكن في العصور الوسطى إيمان بسيادة قوانين الطبيعة كما هو الحال الآن، واعتقدت العصور الوسطى أن أي شيء فوق الغلاف الجوي للأرض لا يفنى ولا يستحدث.
وأثارت نظرية التطور لتشارلز دارون جدلاً ما يزال قائمًا، وقد ركز علماء اللاهوت في هجومهم على نظرية التطور على فكرة أن الإنسان ينحدر من الحيوانات الأدنى، ولكن مع الزمن، تطور موقف إيجابي من التطور.وكان وما يزال ثمة ربط بين المرض والشياطين والأرواح الشريرة، ونحن نعلم الآن علميًا، يقول راسل، أن الإيمان قادر على شفاء بعض الأمراض، في حين يعجز عن شفاء بعضها الآخر. وقد أصبحت دراسة وظائف الأعضاء علمًا على يد ويليام هارفي (1578–1657)، مكتشف الدورة الدموية، واستمرت الجامعات الإنسانية تحظر تدريس الدورة الدموية حتى نهاية القرن الثامن عشر، كما استبعد التشريح من أي تعليم طبي، وأثار التلقيح ضد الجدري عاصفة اعتراض من قبل رجال الدين، واعترضوا في القرن التاسع عشر على استخدام التخدير في العمليات الطبية كذلك، ولكن الطب انتصر على "اللاهوت" في جميع معاركه تقريبًا، فمن المؤكد أن النتائج العملية التي تحققت بفعل التطيعم والتخدير والجراحة والتشريح تفوق على نحو حاسم دعاوى ومقولات "اللاهوت"، فالتحسن في صحة الإنسان وارتفاع معدلات العمر مسائل تدعو إلى الإعجاب والامتنان الى العلم.
يقول راسل في علم النفس والروح والجدل: ليس هناك دليل على وجود خلاف جوهري بين مكونات علمي الفيزياء والنفس، ونحن نعرف القليل حول العلمين مقارنة بما كنا نعتقد أننا نعرفه فيما مضى، ولكنا نعرف ما يكفينا كي نتأكد أنه لا مكان للروح أو الجسد في العلم الحديث.والإيمان ببقاء الروح بعد فناء الجسد مذهب شائع في كثير من الأديان ولدى الشعوب المتحضرة والبدائية، وكان بعض اليهود ينكرون الخلود وبعضهم يؤمن به، ولكن المسيحيين يضعون الإيمان بالأبدية في مكانة عالية من الدين والإيمان، وأن الناس سوف يذهبون بعد الموت إلى النعيم أو العذاب، ويؤمن بعض المسيحيين الليبراليين أن الجحيم ليس أبديًا، وهو ما يؤمن به بعض رجال الكنيسة الإنجليزية، واليوم يؤكد المتدينون على ارتباط الدين بالحياة وتحسينها أكثر، مما يؤكدون على اليوم الآخر، وما يمكن للعلم قوله في موضوع خلود الروح ليس واضحًا أو محددًا.
يعرف الشخص بأنه سلسلة من الأحداث الذهنية المتصلة بجسد ما، هذا هو التعريف القانوني، فإذا قام جسد شخص ما بارتكاب جريمة قتل وألقى البوليس القبض عليه، فإن الشخص الذي يسكن هذا الجسد في وقت القبض عليه يكون قاتلاً.وإذا اعتقدنا ببقاء الشخصية بعد موت الجسد فيجب علينا أن نفترض وجود استمرارية في الذكريات، أو على أقل تقدير في العادات، لأنه بدون ذلك لايوجد سبب يدعونا إلى الافتراض باستمرار الشخص نفسه. أما علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)،فيرى أن العادات والذكريات تمّحي وتزول بفعل الموت والفناء، ومن العسير أن نتصور كيف يمكن نقل هذه الآثار إلى جسد جديد، مثل الجسد الذي يفترض أننا سنسكنه في الآخرة، وسوف يزداد الأمر عسرًا لو أنّا صرنا أرواحًا بلا أجسام، ولعل انتقال شخص إلى السماء لا يقل في صعوبته عن نقل مجرى مائي إليها دون أن يفقد هذا المجرى هويته، وإنّ تصور بقاء الشخص بعد وفاة المخ يشبه تصور بقاء نادي ألعاب الكريكيت بعد وفاة جميع المشتركين.
ولكن علم النفس، يقول راسل، بدأ لتوه يصبح علمًا، ومن الممكن أن تتحرر السببية النفسية من اعتمادها الحالي على الجسد، ولكن في الحالة الراهنة لعلمي النفس والفسيولوجيا، لا يمكن على أية حال للإيمان بالخلود أن يجد في العلم ما يدعمه ويسانده.وفي مسألة الغاية الكونية يقول راسل: إننا نواجه المشكلة القديمة ولكنها حقيقية، إن الكائن القادر على كل شيء، الذي خلق عالمًا يحتوي على الشر الذي لا يرجع إلى الخطيئة، لا بد أن يحتوي هو نفسه على قدر من الشر.وفي الأخلاق، فإن العلم لا يملك ما يقدمه بشأن القيم، ولكنه يملك بالتأكيد ما يقدمه في علم الأخلاق،فدراسة علم الأخلاق تتكون من جزئين؛ أحدهما يتعلق بقواعد الأخلاق، والآخر يتعلق بما هو خير في حد ذاته، وهناك ثلاثة معاني مختلفة يمكن لأي فعل من الأفعال أن ينال بفضلها المدح والثناء، وهي اتفاق هذا الفعل مع المفاهيم الأخلاقية السائدة، والاعتقاد المخلص بأن النية من وراء الفعل هي إحداث النتائج الطيبة، وأن يكون للفعل آثار طيبة.والحال أن المسائل المرتبطة بالقيم؛ أي المرتبطة بما هو خير أو شر في حد ذاته، بغض النظر عن نتائجه، تقع خارج نطاق العلم، كما يؤكد المدافعون عن الدين بشدة، وهم في نظر راسل محقون في هذا الشأن.