سفاحون وصبية
عزت القمحاوي
2012-07-13
كما
تتماثل ذرة الحديد مع ذرة الأكسجين وتتماثل كلتاهما مع مجرة في الكون
الفسيح، تتماثل مصر التي تتعرض ثورتها للسرقة مع إيطاليا التي عاد إليها
بيرلسكوني مهددًا بترشحه في الانتخابات القادمة، مع سورية التي لا يريد
الشبل أن يرحل عنها، مع أمريكا التي ظلت على عنادها اليميني تحت عباءة
أوباما، ملك اللغة الإنشائية عديمة النفع!
ولا يختلف غناء السوريين تحت هطول الرصاص عن هتاف الإسبان تحت زخ العصي إلا في حزن اللحن العربي الذي يعتصر القلب.
العالم
يبدو في حالة غضب غير مسبوق في التاريخ، حيث لا يوجد سعداء على سطح الكوكب
إلا العصابات القليلة التي تدير ماكينة الاستبداد المتشابك.
'العولمة'
التي يلح اليمين الغربي على تثبيتها طوال العقدين الماضيين بوصفها حركة
لتدفق للبضائع والسياح من الشمال إلى الجنوب، لا تسمح بالمرور في الاتجاه
العكسي، صارت اليوم حقيقية، وتنطوي على عدالة تبادل السلعة الوحيدة
الرائجة: الغضب!
لم يعرف الكوكب من قبل هذا الاحتجاج المعولم الذي عرفه
في العامين الأخيرين، كان جيش هولاكو أو الإسكندر أو القيصر يتحرك فيسبقه
الرعب في خط مستقيم أو متعرج، لكنه في النهاية محدود بحدود قدرة الجيش
المتناهية. ومع عصر الأنوار كانت الثورة تقوم في هذا البلد أو ذاك فتثير
رعب الحكام وأمل الشعوب في محيطها الصغير، فيسعى الحكام إلى تجنب الثورة
وتسعى الشعوب إلى بلوغها. الآن صار الغضب مثل عدوى، بدأت عربيًا لتنتشر في
أكثر بلاد العالم استقرارًا ورفاهية، أو بالأحرى البلدان المتمتعة بوهم
الاستقرار والرفاهية.
كوننا صرنا أوائل في شيء ما، وملهمين لغيرنا
أمر قد يغبطنا. قالها الإسبان والبرتغاليون، الذين كانوا أول شعوب الغرب
غضبًا بعدنا، قالوا إن الثورة المصرية ألهمتهم، كما إنها ألهمت ـ وهذه
معجزة ـ الإسرائيليين الذين مالبثوا أن توحدوا تحت الإحساس بالخطر من ربيع
العرب، لم تكد دولتهم أن تولد كدولة منوعة حتى عاد إليهم ترابط العصابة
التي وجدت نفسها مدعوة إلى التعاون مع العصابات المعولمة لإجهاض غضب
المنهوبين في العالم كله.
' ' '
حالة لم يبلغها العالم من قبل، تخرج
صورة المظاهرة على شاشة التليفزيون فلا يعرف المشاهد في أي بلد هي إلا من
التباين في سحنات المتواجهين ومن الأعلام المرفوعة وحجم العنف الذي يرتكبه
جند العصابات ضد الغاضبين.
كل من ليس مشغولاً بحرب دينية أو متحرفًا
لحرب عرقية أو خطر على الحدود منخرط في الثورة الآن أو يستعد. ولم يعد أحد
يعرف من المهلهم ومن المستلهم، وفي الوقت عينه لم يتحقق أي أثر مادي على
الأرض الملهمة أو المستلهمة يشجع الشعوب على التمسك بملكيتها لبراءات هذا
الاختراع.
أمام عين الكاميرا قالت سيدة يونانية لا تجد ما تشتري به
دواءها 'أنا كبيرة وسوف أموت يومًا ما، لكن ماذا يفعل أبناؤنا ليعيشوا'
هذا ما قالته سيدة يونانية، خلال احتجاجات أول أمس الخميس. وهي ذات
العبارة التي رددتها متظاهرات مصريات عندما تصاعدت وتيرة الاحتجاجات
العمالية ضد مبارك خلال العامين السابقين للثورة.
السيدة تتقاضى 400
يورو، وفي مصر كانت مثيلتها تتقاضى 400 جنيه، ومثل هذه وتلك لا يمكن أن
تدفع ثمن الدواء أو تذوق اللحم ولو مرة في الشهر. وفي البلدين كما في سائر
بلاد العالم مليارديرات، بعضهم متورط في السياسة سافرًا مثل بيرلسكوني،
وبعضهم يلعب من وراء حجاب مثل عائلات المال والسلاح في أمريكا وروسيا
وسوريا، وبعضهم يديرون بمرتبات خيالية الشركات متعددة الجنسيات التي تشبه
أخطبوطًا بألف رأس، وهؤلاء هم الطرف الواحد المتشابه المستميت في إجهاض
الثورة بالرصاص الحي في سورية وبالغاز المسيل للدموع في موسكو وأثينا
وبالهراوات في مدريد وبالالتفاف السياسي والقانوني في نيويورك، وبكل هذا
في مصر التي تعتبرها العصابات رأس ثورات العرب وتفعل ما في وسعها لإجهاضها
وإجهاض الربيع العربي كله.
' ' '
العدو واحد وإن أسفر عن وجهه بغباء
في سورية أو ارتدى قناعًا في برلين. وإذا كان العرب قد حازوا شرف السبق في
موجة الاحتجاج العالمية هذه؛ فالغرب لهم فضل السبق والقيادة في الفساد.
قتلتنا
المحليون، بكل تشبيحهم وبكل دمويتهم، مجرد صبيان بلداء لدى العصابة
المركزية العالمية، ولذلك فإن كل لجان التحقيق وكل الاجتماعات لمناقشة
الدمار السوري لا تعني رغبة حقيقية في رحيل الأسد، بل مجرد توبيخ للعصابة
السورية لأنها لم تكن محترفة كما ينبغي ولم تكن محترفة كما ينبغي لكي تخدر
الشعب قبل أن تقطع من لحمه.
النشل خلسة هو فلسفة العصابة الغربية
الأكثر نعومة من عصابات العرب، وقد عرفت كيف تغرق اقتصادات العالم في
الاستعراض الإعلاني والتغليف المبالغ فيه للسلع والأنشطة الخدمية، بحيث
صار العامل أو الزارع الواحد يحمل على كتفيه عشرة من ممثلي الإعلانات
ومندوبي المبيعات ورؤساء البنوك وموظفي البورصات إلى آخر هذا الصف الطويل
من الأنشطة الطفيلية.
وبدلاً من علاج هذا العيب الجوهري في صلب
الرأسمالية، تحاول العصابة إغراق الشعوب في متابعة اجتماعات قمة ومؤتمرات
اقتصادية متعددة الأسماء، تصدر عنها قرارات بترحيل المشكلات إلى الأمام:
إعادة جدولة الديون، منح قروض جديدة، والضغط على الحكومات المدينة لترشيد
النفقات، وتمنحها مهلاً لإعادة السيطرة لا تشبه إلا المهل الممنوحة للنظام
في دمشق من بداية الثورة حتى الآن.
وكما ترتمي الشعوب التي تحمل مرغمة
عار الاستدانة في أحضان اليمين المتطرف، ترتمي الشعوب العربية في أحضان
اليمين الديني، لأن منبع الظلم واحد، والثورة واحدة: غضب لم يجد بعد طريقة
للتوحد وفرض خياراته.
وعلى الرغم من أن توحيد قوى الغضب في البلد
الواحد يبدو حتى الآن أملاً بعيدًا، فإنه قد لا يكون كافيًا لإنجاح ثورة.
يحتاج الأمر إلى توحيد الغاضبين في العالم وراء مشروع لعولمة الغضب بعد
عقود من عولمة النهب.