انتحاب
عزت القمحاوي
2010-12-03
قلت: هل تشم رائحة الخزي؟ ... قال: رائحة النكسة.... لا أعرف إن كنت ،أو كان صديقي أكثر تحديدا، حزينا بشأن الرائحة التي تصاعدت من الانتخابات البرلمانية المصرية؛ فأجواء الغم التي ظللت أحداث الانتخابات فيها رائحة الخزي، لكن ليس هناك من يخجل، وفيها أجواء النكسة، لكن أحدا لم يتنح أو يعلن مسؤوليته عما حدث.
ردود مسؤولي الحزب المستحكم وخدامه شديدة الإدهاش: يحرم على عيالنا الصوت الحرام! المسألة أننا خططنا ونجحنا والجمهور أولانا ثقته بكاملها ولم يدع شيئا لغيرنا!
بين الانتخاب والانتحاب نقطة، وكلاهما ليس ببعيد عن تبادل 'الأنخاب' احتفالاً بالنصر عقب الانتخابات التي جرت الأحد الماضي ولا تحتاج إلى جهود صاحب موقع ويكيليكس لكشف عوارها.
وبعيدا عن الاستعدادات بالمال والعتاد، بالأمن والبلطجية المدسوسين بين الناخبين، كانت البلاغة حاضرة في كل مراحل المسرحية الانتخابية ببلد تتحول إدارته إلى ديوان كبير للإنشاء. و كانت فرصة جيدة لتهوية وتشميس نوع خاص من البلاغة السياسية يحتفظ بها ديوان الإنشاء من وقت الاستفتاءات إلى زمان الانتخابات بلا تغيير.
يعمل الديوان بكامل طاقته طوال العام، في إنتاج عناوين عريضة تعلف إعلام الحكومة من نوع: 'الحرية هي الطريق إلى المستقبل'.
وهذا كلام ساكت مثل قولك 'الربيع جميل' والربيع فعلاً جميل، لكن ما فائدته إذا لم يمر على مصر؟!
***
ديوان الإنشاء لديه الفرصة طوال العام لتجديد أساليبه إلى حد ما، ففي يوم يتحدث عن روعة الديمقراطية بأساليب مستمدة من الجذر القديم الذي كنت أسمعه في طفولتي 'إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية' وفي يــــوم يتحدث ديوان الإنشاء عن ضرورة التنمية أو يصارح الجماهير بأن الفقراء هم حبة عين النظام الذي لا يبصر، لكنه عندما يعمل في الانتخابات يستعير من نفسه ويخرج مخزون الانتخابات السابقة من التعبيرات البلاغية والصور الفوتوغرافية التي لم تعد تغيب عن أية انتخابات.
في التحضيرات الأولى هناك تعبيرات تصدر عن الحزب الحاكم والجهاز الإداري للدولة من فصل التواضع في الديوان؛ فهناك دائما الحديث عن الفرص المتساوية في الإعلام والدعاية لمختلف المرشحين، وهناك الوعود بالشفافية، تماشيا مع مصطلحات عصر العولمة التي تتجلى في عمارة الزجاج وموقع ويكيليكس، على أن الشفافية صفة بلا قيمة في العمل الديمقراطي. هي لا تعني النزاهة بل يكفي أن يكون كل شيء مكشوفا، عدلاً كان هذا الشيء أو ظلما، حياداً أوانحيازا.
***
في مرحلة الترشيح يكون الشعب مــــــوجوداً ويكــــون صـــوته ضروريا للمساهمة في إنجاح 'التجربة الديمقراطية' ولا ينتبه كتبة ديوان الإنشاء إلى أن التجربة طالت، وأن الأحزاب المصرية مولودة قبل تحول روسيا إلى الليبرالية بخمسة عشر عاما.
عشية ليلة التصويت تتخذ التجربة شكلاً واسما محددين. يلجأ متحدثو النظام إلى باب النكاح في كتاب صناعة الإنشا؛ فتصبح الانتخابات 'عرس الديمقراطية'.
وصف 'العرس' استعارة طيبة من السنن الدينية بعمارة الأرض، فيها عريس وعروس ومأذون يكتب الكتاب وولي أمر بيده عقدة النكاح بالنسبة للبلاد البكر، أما الساحات السياسية الثيب التي كررت أعراس الديمقراطية انتخابا بعد انتخاب فتستطيع العروس أن تكون وكيلة نفسها وتختار أزواجها الخمسمائة من بين خمسة آلاف من المرشحين.
والاختيار يتم بالتمسح شكلاً في قيم أثينا الديمقراطية، وفعلاً طبقا لقيم اسبرطة القمعية؛ حيث النجاح للأقوى ساعدا وجيبا والذي يأتلف حوله أكبر عدد من البلطجية.
وهذه، بالمناسبة، ذات التنويعة الاجتماعية التي يمكن أن تنربط طبقا لها عُقدة النكاح في مصر، وقد نشرت الصحف منذ عامين كيف قضى بلطجي في مصر القديمة على رجال أسرة مصمما على الزواج بابنتها غصبا ولم يجد من الأمن من يردعه قتيلاً بعد مصاب من أشقاء الفتاة وأبيها.
بعد أن تمضي ليلة العرس بجاتوهاتها وسكاكينها يأتي يوم الصباحية أو يوم الفرز. الشاش الأبيض يُشهر على الملأ بنقطة الدم فوقه تؤكد عذرية العروس وفحولة الحزب. واللغة هنا تتحدث عن 'اكتساح' وفوز 'ساحق' و'هزيمة ساحقة' مع إشادة بالشهود والمعازيم الذين حضــروا ونقطوا في الفرح والذين شاهدوه في التليفزيون: 'ما كان لهذه التجربة الشفافة أن تكون بهذه الروعة إلا بفضل وعي الناخبين الذين اختاروا الأفضل'.
وفي هذه النقطة بالذات لا تتأخر بلاغة الصورة؛ وذروتها الحماسية المتكررة في كل انتخابات وهي صورة الرجل المسن يتوكأ على عصاه واثنين من الكهول وتعليقها: لم تمنعه ظروفه الصحية من أداء الواجب!
لا أمل في مستقبل المنظومة الديمقراطية من دون صورة هذا المسن الذي يبدو عهدة عند الإدارة لا تكتمل الانتخابات بدون إخراجه من المخازن، مثله مثل الصناديق والأختام والحبر السري وشمع إغلاق الصناديق.
وقد أصابني الخوف على حياة الرجل في الانتخابات الأخيرة، لكن بعد التفقد المتمعن وجدته في ركن غير بارز من صفحة داخلية، وهو على كل حال مكان المسنين عندما يوغل بهم الهرم في البيوت وفي صفحات الانتخابات على السواء!
***
عاش عجوز الواجب ولو في صفحة داخلية، لكن دم العفة على الشاش كان كاذبا. الأحكام القضائية ببطلان الانتخابات في مناطق مختلفة تتوالى، وأعلن الإخوان والوفد، أكبر فريقين معارضين، انسحابهما من العملية وعدم خوض المنافسة غدا الأحد في دوائر الإعادة، كما بدأت بوادر انفجار حزب التجمع احتجاجا على حكومية رئيسه.
ولا ندري إلى أين تمضي هذه الأزمة، التي تؤكد أن النظام لم يتعلم بعد أن هناك استحقاقات واقعية يجب أن تدفع، وأن ديوان الإنشاء لم يعد يصلح لإدارة مصر؛ فالبلاغة التي لا تجد ما يبرهن عليها تقود البلاد إلى البلاء.