'الثورة أولاً' شعار المليونية المصرية أمس، يعني في
قراءة أخرى 'مصر أولاً' بعد أن بات البلد مهددًا بالفوضى بسبب أكثر
التقنيات خبثًا التي تم اتخاذها في إدارة شؤون البلاد منذ تنحي مبارك إلى
اليوم.
تجمع تحت الشعار كل قوى المجتمع المصري. حتى جماعة الإخوان،
مدمنة الخسارات الملهمة في إقامة التحالفات قصيرة النظر، شاركت القوى
المصرية الأخرى احتجاجها؛ لأن ما يجري أثقل من أن يتحمله ضمير.
وعندما نتحدث عن قوى المجتمع، نستثني بالطبع فلول النظام الهاربة، الكامنة والحاكمة.
ولم
يكن للفلول الهاربة والكامنة في معازلها الفخمة (سجنًا كانت أو قصرًا أو
مستشفى) أن تفتك بالبلاد كل هذا الفتك لولا الفلول الحاكمة، التي تتخذ ذات
التقنيات التي كانت متبعة أيام مبارك، وأولها إغراق البلاد في كمية غير
محدودة من الجدال حول قضايا مختلفة غير أساسية، ومن دون أن تتقدم الإدارة
لبلورة النقاش وحسمه باتجاه معين.
والتقنية الثانية أن تبدو الإدارة
وسيطًا محايدا بين القوى المختلفة؛ فلا توقع عقوبة على المعتدي ولا تردعه
عن عدوانه أو تقتص للمعتدى عليه.
وقد اكتشف الثوار أن النظام الذي
أهلكهم نقاشًا من قبل حول الإبقاء على التوقيت الصيفي أو إلغائه، القائمة
النسبية أم الانتخابات الفردية، نقل تمثال رمسيس، نقل محطة قطار رمسيس،
ومستقبل البلاد بعد خمسين سنة، هو نفسه القائم والذي حشرهم في بركة نتنة
من الكلام حول الانتخابات الرئاسية أولاً أم البرلمانية أم الدستور قبل
الاثنتين، وكادت الحرب تشتعل بين الأطراف على خيارات غير موجودة أصلاً؛
لأن المجلس العسكري قرر سلفًا اختيار الانتخابات البرلمانية أولاً، ولكن
لا بأس من أن ينهك السياسيين بالنقاش.
وأما تقنية الوسيط، التي مارسها
النظام من قبل بين علمانيين وسلفيين، أهلوية وزملكاوية، مسلمين ومسيحيين؛
فهي ذاتــها المتبعة في الحياد بين البلطجية والثوار، السلفيين والإخوان
واليساريين.
على أن 'الحياد' وصف مخفف لممارسات الحكم في مصر الآن؛ فهو
حياد إذا ما نظرنا إلى السلوك الميداني المتكرر بالفصل بين البلطجية
والثوار.
لكنه ليس حياديًا أبدًا بوصفه سلوك حكم يكتفي في كل مرة
بتفريق البلطجية من دون أن يسأل أحدهم: من أين جاء؟ ومن أرسله؟ على الرغم
من أن شباب الثورة يعرفون أعضاء مجلس الشعب المنحل ووزراء مبارك وقادة
حزبه الذين يرسلون بعطاياهم من المولوتوف وكسر الرخام والسكاكين في أيدي
عبيد سرقوا حيواتهم بإفقارهم ويسرقونها الآن بوضعهم في مواجهة ثورة قامت
من أجل إنقاذهم من هذه العبودية.
' ' '
في الحقيقة لم ينخدع
المصريون في سلوك المجلس العسكري، وغالبية من كتبوا أو هتفوا 'الجيش
والشعب يد واحدة' لا يزالون يؤمنون بجيشهم الذي لم ينقسم على نفسه أبدا
منذ فجر التاريخ إلى اليوم.
والجيش هو كل قوى القوات المسلحة المصرية، المؤسسة التي يمر بها جميع الذكور المصريين مجندين أو ضباطًا وصف ضباط محترفين.
الجيش
هو نحن، أما المجلس ففي مكان آخر. وكل من مدحه كان يأمل ويحلم أكثر مما
يؤمن أو يعتقد بأنه سيكون مع الثورة. وقد رأينا في تاريخنا زعماء كبارا لم
يكونوا كذلك، مثل سعد زغلول الذي انتدبه الشعب وتصاعدت الوطنية في روحه
تحت نشوة المجد الجماهيري، ولم تكن بداياته تنبىء أبدا بما آل إليه في
النهاية. لكن زمن الاستزعام قد ولى، ولكل وجهته التي يوليها.
وما فعله
المجلس حتى الآن هو وضع الثورة على طريق الدولة القائمة، وما التراخي في
محاكمة القتلة وما تبرئة من قدموا للمحاكمة إلا تعبيرا عن هذا الإقرار
لمبدأ استمرار حكم مبارك. وهذا ببساطة معناه عدم الاعتراف بالشرعية
الثورية التي تجب ما قبلها بما فيه القوانين والمحاكم.
بالمنطق الثوري،
يجب إعدام الضباط الذين أولغوا في قتل الثوار وقد كان لمدينة السويس
الباسلة حظ الريادة في الثورة، هي التي نالت حظها من الشهداء في المعارك
مع الإسرائيليين، ولم يكن ينقصها شهداء يسقطهم النظام الساقط وضباطه.
' ' '
منطق استمرار الدولة أخذ المحاكمات باتجاه مماحكات المحامين والقوانين: من يستطيع أن يثبت أن رصاصة زيد هي التي قتلت عبيدا؟
وطبقًا
لهذا المنطق القانوني، يوجد قتلة وشهداء، لكن لا توجد مسؤولية لقاتل محدد
تجاه شهيد محدد؛ فكانت البراءات التي أشعلت قلوب الأمهات نارًا، وتكاد
تشعل البلاد.
والمدهش أن الملف لم يغلق على ماض انتهى، حيث تكررت وقائع
إجرام ضباط شرطة لم تزل منفلتة تحت قيادة وزير تم استدعاؤه من التقاعد؛
فلا هو من الشرطة ليكشف مؤامرات كبار ضباطها ولا هو من الثورة ليتعاطف مع
الضحايا، وها هو يصرح بالأمس أنه لم يزل يدرس ملفات الضباط المتهمين، وأنه
انتهى من دراسة ملفات سبعمائة ضابط برتبة لواء!!
هل يعقل أن يكون في بلد واحد أكثر من سبعمائة لواء بالشرطة؟ وما حاجة جهاز أمن مدني إلى وجود اللواءات أصلاً؟!
المنطق
الثوري يقتضي عزل كل هؤلاء، ولا ضير في أن تكون أكبر قيادة في الشرطة
بدرجة عقيد، وتعويض الجهاز عن الفاسدين بالآلاف من خريجي الحقوق الذين لا
يجدون عملاً.
لكنه مرة أخرى منطق النظام المستمر، ومنطق جماعة كان
ملفها الوحيد هو جمال مبارك، وقد أعفتهم الثورة الشعبية من القيام بانقلاب
عسكري، وعلى الثوار أن يعودوا إلى ثكناتهم!!
لكن الزهور لم تضح بدمائها
من أجل أن يغير جمال مبارك طلته الصباحية فينظر إلى مزارع معتقل طرة
الفسيحة، بدلاً من الإطلال على نجيل ملاعب الغولف من قصره في التجمع
الخامس، وكلاهما ـ المزرعة وملاعب الغولف ـ ضمتهما محافظة حلوان التي
اخترعها مبارك بلا سبب في نهايات أيامه.
' ' '
جمال مبارك لا يعني أحدا، ولم يقم المصريون بثورتهم السلمية لكي يعيدوا الوراثة إلى عائلة الجــــيش قبل أن تغتصبه أسرة مبارك.
ما
نريده أهم من هذا، لأن مصر أولاً وعاشرا. والطريق لتحقيق ذلك ليس سهلاً،
لأن كل القوى الدولية والإقليمية ترفع هي الأخرى شعار 'مصر أولاً' بالمعنى
الذي يخدمها، وهو تقويض ثورة مصر أولاً، كي تبقى المنطقة بين الحياة
والموت.
ولكن الشعب المصري دفع ضريبة الدم ولم يزل يدفع، ولسوف ننجح.