مناظرة كشف العذرية
عزت القمحاوي
2012-05-11
بقامات مشدودة وكلمات رخوة جرت أول مناظرة انتخابات في تاريخ
مصر. تمكن الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح وعمرو موسى من الوقوف ضعف ما وقفه
المحاوران التليفزيونيان منى الشاذلي ويسري فودة اللذان اقتسما أربع ساعات
من الأسئلة استهلكت نهاية الخميس وبداية الجمعة وأسفرت عن أسف شديد.
قد
أكدت المناظرة ما نتوقعه؛ فأول انتخابات رئاسية بعد الثورة لم تختلف من
حيث الإجراءات عن كل الأشياء التي تحمل صفة الأول منذ الخامس والعشرين من
يناير، ولن تختلف من حيث النتيجة كذلك.
في مصر مثل يقول: 'أول بيضة للغراب' ومثلما حصل المصريون على برلمان للغراب سيحصلون على رئيس للغراب ودستور للغراب.
ولن يكون هناك شخص ولن تكون هناك مؤسسة تمثل الثورة إلا عندما يتقدم من
قاموا بالثورة ليحتلوا المواقع بعمل منظم يستهدف وعي الكتلة الكبيرة من
المصريين وبمساعدة الزمن ذاته الذي سينحي الصف القديم بمناهج تفكيره
القديمة التي لا يمكن أن توصل إلى أهدافها، سواء كانت الأهداف خيرة أو
شريرة.
الأشياء أكثر وعيًا من البشر. أرواحها تحس بهبوب الزمن
أكثر مما نحس. وبنبل تنسحب الأشياء من التداول لتصبح تراثًا عزيزًا وواجب
الحماية، بينما يعيش الإنسان وهم الشباب الدائم وخطل الاعتقاد بأنه صالح
لكل العصور ولكل الأدوار.
' ' '
في المناظرة
كانت قامات الأربعة، قامات السائلين والمسئولين على السواء مشدودة،
وأكثرهم شموخًا، بل تطاوسًا كان عمرو موسى. كان يتنطط أمام منصة الحديث
مذكرًا المشاهدين بحيوية المغني المحبوب محمد منير، لكن للأسف الذي غنى لموسى كان شعبان عبدالرحيم وليس منير.
وللحق
فإن لعمرو موسى بنية جسدية عزيزة ومتفاخرة، وهذا هو جوهر الخلاف الحقيقي
بين مبارك وشخصيات من أمثال عمرو موسى وكمال الجنزوري. كان حسني مبارك يكره
القامة حتى لو كانت فارغة، وصنع مقصًا بمساحة مصر قص أيه قامة تصور أنها
تتجاوز قامته.
في مواجهة
أبو الفتوح والجمهور لم يتخل عمرو موسى عن قامته، سبب خلافه الوحيد مع
مبارك، فهو يعيش لهذه القامة ويعيش بها. قامة متعالية مستعدة للعدوان.
أبو الفتوح الذي علمه السجن التواضع وعلمه التدين الرسوخ استعاض بامتلائه القليل عن فرق الطول فوقف بجسد هادىء لا خائف ولا معتد.
المذيعان، من واجبهما الشموخ للتمسك بمظهر الشباب وهو من ضرورات المهنة، كما أنهما سعيدان بالمشاركة في صنع بيضة التاريخ التي سيأكلها الغراب.
' ' '
من
حيث اللغة، قامة الأسئلة كانت مشدودة، لكن مراوغة. صياغة الأسئلة سريعة
ومباشرة، لكن الرخاوة والمراوغة كانت بما تم حجبه وليس ما تم طرحه.
الأسئلة حول الضرائب والصحة والتعليم وعلاج الفقر والعلاقة مع دول الجوار والقوى الإقليمية والعالمية، أسئلة مهمة وكافية للتعريف بالمرشح لو كانت موجهة إلى رئيس فرنسا أو أمريكا، أما في مصر فيسبقها سؤال حول وضع الجيش وإن كان سيبقى مؤسسة فوق المؤسسات ودولة خارج الدولة.
وضع الجيش؛ السؤال الذي لم يطرحه مذيعا القامة المشدودة على مرشحي القامة
المشدودة هو أخطر ما يتهدد الثورة. وقد عرف المصريون خطورة هذا الوضع في عام ونصف بأكثر مما عرفوه منذ ثورة 1952 حتى سقوط مبارك، إذ كان الجيش حتى خلع مبارك يحكم من داخل قفاز الرئيس.
وذرًا للرماد في العيون كان السؤال: كيف ستتعامل مع كشوف العذرية والتعذيب والإهانة؟
وهذا
السؤال ينطوي على مغالطتين كبيرتين؛ فهو يقتصر على جرائم أقل من القتل،
متجاهلاً المذابح البشعة التي تواترت منذ خلع مبارك وترقى إلى مستوى
الجرائم ضد الإنسانية، والأهم من ذلك أن الفاعل في السؤال مجهول.
وقد تفضل كل من المرشحين برد مرتخ ومتعدد الأخطاء على السؤال المشدود والخاطىء مرتين.
قال أبو الفتوح إن الجمهورية الثانية التي نسعى إلى إقامتها لن يكون فيها أحد في المؤسسات المدنية والعسكرية فوق القانون، أي إنه أبقى الفاعل مجهولاً في نصف رده، ثم أكد على ضرورة فتح تحقيق في هذا الأمر ولم يقل إنه سيفتح التحقيق. وعندما أراد أن يشير إلى المسكوت عنه في السؤال ويأتي على ذكر العسكر سارع إلى إعلان الثقة في نزاهة الجيش كما يسارع المؤمن إلى المغفرة، ثم طالب سيدات وبنات مصر أن يتقدمن ببلاغات حول القضية.
وأما عمرو موسى، فقال إن المسألة تحتاج إلى تحقيق وتدخل سلطات التحقيق، لكن كيف يحدث ذلك للمرأة، فلابد من احترامها طبقًا لدورها في المجتمع، فهي الزوجة والإبنة والأم والأخت..الخ الخ!
الحاجة
إلى التحقيق والكلام عن سلطات التحقيق يذكرنا باللغة الرخوة التي ميزت عصر
مبارك عندما تآكلت سلطته وبدأت تكرر على لسانه بلا كسوف جملته الشهيرة:
وإنني إذ أطالب...' ناسيًا أن حق الرئيس وواجبه يفرضان عليه أن يُصدر
الأوامر.
المراوغة أثبتت نسب عمرو موسى لعهد بائد، بينما كانت
اللغة الإنشائية الفارغة بمثابة تحليل الحمض النووي الذي يؤكد هذا النسب
بلا لبس أو نسبة خطأ. هل يجب أن نحترم المرأة لأنها أم وأخت وبسبب دورها في المجتمع؟! ألا يمكن أن نحترمها لأنها الحبيبة أو لأنها إنسانة حتى لو كانت بلا دور؟!
' ' '
رجلان من الماضي تناظرا من أجل الفوز بحكم مستقبل مصر!
لغتهما مثقلة بالإنشاء، فكانت مواجهة بين مطحنتين للكلام. موسى قادم من
مطحنة سلطة عاجزة وكسول تستعيض بالكلام عن الفعل وأبو الفتوح قادم من مطحنة
الإخوان، المطحنة الضد كانت تكبر من دون اختبار عملي في السلطة. كان يكفي أن تواجه كلام السلطة الكبير بكلام الجماعة الكبير.
الرجلان
من الماضي كذلك لأن كليهما جاء معتدًا بماضيه اعتدادًا شديدًا. لم يدرس
ماضي مصر واكتفى بنظرة عابرة على ماضي الخصم واعتبرها كافية لسحقه. لهذا لم تعد المناظرة بمستقبل ولم تحقق المتعة التي يرجوها مشاهد من حلبة ملاكمة.
أبو الفتوح اعتبر موسى من أركان نظام مبارك الذي بدد مكانة مصر وأفسد العلاقات مع إفريقيا، واعتبر هذا كافيًا للإجهاز عليه.
وعمرو موسى يشدد على خلافه مع مبارك ويتبرأ منه، وينفي تدهور العلاقات مع إفريقيا على يديه ويعتبر نفسه ثوريًا لمجرد أنه ليس من المجموعة التي سقط بها النظام.
وأبو
الفتوح لم يستعد بتسديدة ثانية منطقية تذكره بأن خلافه مع الرئيس المخلوع
لم يصل إلى حد تشييعه إلى بيته كالجنزوري؛ بل إلى منصب أمين عام الجامعة
العربية؛ المدفن الصحي الصالح لإخفاء قامة يخشاها مبارك دون أن يكرهها أو
تقطع هي حبل الوداد معه.
ترك هوية خصمه معلقة، كما لم يتمكن من تفنيد
زعم صحة العلاقات مع إفريقيا عندما كان السوبر مان عمرو موسى يحكم وزارة
خارجية حرة مستقلة؛ لأنه ركز على إدانة موسى ورئيسه فقط، بينما بدأ التدهور
الحقيقي للعلاقات على يدي السادات المفتون بكل ما هو أبيض.
وقد استخدم
أبو الفتوح تعبير 'لم تكن دولة إفريقية تجرؤ' ثم تدارك وأضاف إنها لم تكن
لترغب منوهًا بشركة النصر التي أسستها المخابرات العامة للتجارة مع إفريقيا
ناسيا بعثات التعليم؛ مما يؤكد أن الضد ليس سوى الوجه الآخر لضده القديم.
كلاهما لم يفهم بعد كيف تؤسس العلاقات على الندية لا التفوق، وعلى الثقافة
لا التجارة.
وموسى من جانبه جهز لكمة واحدة تصورها كافية للإطاحة بخصمه حول موقفه من العنف السياسي ودوره في تأسيس الجماعة الإسلامية وهو شأن خلافي كبير لا تحسمه المنصة ولا يدلل عليه اقتناص عبارة من كتابه، بينما كان عليه أن يسأله عن نجاحاته في نقابة الأطباء التي قامت بدور مشكور في إغاثة الملهوف خارج الحدود وتركت دخل الطبيب المتخرج حديثًا أربعين دولارًا في الشهر.
وإذا كان اطلاعهما على الماضي بهذا السوء؛ فحظ المستقبل في المناظرة كان أسوأ. العبارة متسعة والرؤية ضيقة. تعثر كلاهما في أذيال
الجمل الفضفاضة، وقدما دليلا أكيدًا على أنهما قديمان من خلال عدم قدرتهما
على الالتزام بالتوقيت؛ فبقيت نهايات الكلام مفتوحة على الاحتمالات،
تمامًا كمستقبل البلاد.