هم وسفراؤهم!
عزت القمحاوي
2011-03-11
نخطىء فنعبد تماثيل من قمامة، ثم نركلها فتنهار وتهيج
من تحتها ملايين الحشرات التي سكنت رطوبة أقدامها. وقبل أن نفرح نكتشف أن
الإطاحة بالسمساتور الكبير هي الخطوة الأسهل، وأن ما يعقبها أصعب وأكثر
قرفا، وأن على أجسادنا أن تبقى مستنفرة تفرز من الأدرنالين في شهر أضعاف ما
أفرزته طوال الحياة، حيث تتعاقب مشاعر الفرح فالحزن فالظفر، وحيث الأسى
على ما فاتنا والرغبة في الفرح بما أتانا يمنعاننا من النوم.
رحل
مبارك..لا، لم يرحل!
الفرحة عمت مصر بعد البيان المقتضب الذي تلاه نائب
لم يكلفنا سوى أسبوع لنكرهه كما كرهنا رئيسه في ثلاثين عاما. قال عمر
سليمان إن الرئيس مبارك قرر التخلي عن منصبه والله الموفق (بفتح الفاء) هل
أخطأ في النطق أم قصدها ليقول إن الله وحده هو المكللة قراراته بالتوفيق
أما الرئيس والشعب فالتوفيق مشكوك فيه؟!
فرحنا، فرحنا، بعد أن هرمنا
هرمنا. وبعد الفرح جاءتنا أخبار مستوطنة شرم الشيخ الرئاسية، اختلقوا
الأخبار عن صحة تمثال القمامة الناشف. عن حاجته للعلاج، عن المشادة بين
نجليه، التمثالين الغضَين، عن لوم الناهب السابق للناهب اللاحق: لقد أسأت
إلى أبينا أنت وأصحابك. كادت الأخبار تتطرف لتقول: أنت وعصابتك، متصورين أن
هذه النزاهة تليق بالولد الذي قاد الحرب التافهة مع الجزائر، مهيجا مشاعر
البسطاء!
تدفق الأدرنالين في عروقنا من محاولة الالتفاف العاطفية على
شعب طيب استمرأ بعضه العبودية، حاولنا أن نعادل دماءنا بأخبار أخرى عن
الساعات الأخيرة لمبارك في الحكم. كيف كان رأس التنظيم الإجرامي الذي حكمنا
مشغولا بالمال حتى النهاية، كم مروحية غادرت قبل أن يعلن عمر سليمان أن
الله هو الموفق، كم سبيكة بلاتينيوم أودعها مبارك في البنوك في السنة
الأولى من حكمه عندما خطب يعظنا بما نعرف ولا يعرف: ليس للكفن جيوب!
حاكموا
مبارك..رجاء لا تحاكموه
لم نكد نفرح بالثورة حتى بدأت الحشرات
الزاحفة والطائرة في محاصرتنا بتظاهرات فرعية هدفها إشاعة الفوضى، جاءتنا
أخبار بؤرة شرم الشيخ عن السلوك الرئاسي الذي يواصله مبارك في قصره، البعض
قال إنه يتبع النظام ذاته، يتصل بوزراء حكومة شفيق، يصدر قرارات وينفذها
على شعبه الخيالي.
ألم يزل هنا؟!
خُفنا..خُفنا؛ فطوال ثلاثين عاما
كنا شعبا خياليا، لا يرانا مبارك ولا نراه، وإنما يتحرك في إطار
'الماتريكس' المقتصر عليه وعلى أهل بيته وحشرات قدميه، لايخرجون من مستشفى
سرطان الأطفال الفاخر لزوم التصوير إلا ليدخلوا إحدى مكتبات سوزان مبارك
المخيفة للقراء بفخامتها المفتعلة، إلى مكتبة الإسكندرية التي تحاكي بسخرية
عالية مكتبة الإسكندرية القديمة التي كانت جامعة وليس مجرد خزانة كتب
(رصدت هنا فساد المكتبة الجديدة منذ سنوات تحت عنوان: الفساد يولد عملاقا).
لم تكن المحاكاة الساخرة للمكتبة التاريخية إلا مكانا للاستعراض التافه
يُستخدم فيه الضيوف كمؤخرات تملأ المقاعد أمام السيدة الأولى على منصة
الافتتاح.
أخبار بؤرة شرم الشيخ وإجرام حشرات جسد مبارك على طول البلاد
وعرضها جعلتنا نصرخ بطلب محاكمته.
قلقنا..قلقنا، وصرخنا بطلب محاكمته
واستجاب الجيش..استجاب القدر.
فرحنا، ولم نكد نفرح بفرحنا حتى قلقنا من
بدايات المحاكمة القائمة على الأرقام، بلاغات وبيانات من بنوك محلية عن عدة
مئات من الملايين فكة (فراطة) معقول!
هل يمكن أن يقتصر جرم مبارك على
خطوات ضبط عدة ملايين أو حتى عدة مليارات؟
كم تساوي الملايين المهدرة
أمام تركيع شعب، بل تركيع أمة بحكم قيمة مصر؟
من يحاكم هذا البليد الذي
أشبعنا مناً وتحميل جميل الضربة الجوية الأولى ضد إسرائيل. عاير بها
أجيالا ولدت بعد الحرب ولم تر ضربته الأولى، بينما تكتشف هذه الأجيال اليوم
أنه وافق على أن يمد ابنه يدا للأعداء ذاتهم طلبا لعمولات الغاز.
كادت
رؤوسنا تنفجر من عار ارتكبه بحقنا ابن تمثال الغائط صاحب الضربة الأولى،
عندما كانت يده السفلى تحت يد الأعداء، كيف يحترم أعداؤنا القدامى وطنا
هذه قيادته؟!
لهم الحق في أن يوظفوا تلك القيادة ويرهنوا إرادتها
السياسية من أجل الإفراج عن جندي صهيوني أسير لدى حماس، وحتى هذا الملف لم
ينجح فيه رجل المخابرات المرموق!
إذا كانت المسألة مجرد ملايين أو
مليارات، عليه العوض فيما فات وبلاها هذه المحاكمة إن لم تتبعها محاكمة
سياسية.
كل الأسماء..حتى اليمنية يا ربي؟!
كانت أسماؤهم:
مبارك، الشريف، سرور، نظيف، رشيد.
ما كل هذه المحاكاة الساخرة للبركة
والشرف والسعادة والنظافة والرشاد؟!
أسماء تدعو للغيظ. ولم نعرف كيف
يبقى الكثير من الرؤوس بعيدا عن المحاسبة، وكانت بداية محاكمة مبارك سببا
في ضبط نسبة الأدرنالين في دماء البعض استبشارا بأن أحدا لن يبقى فوق
الثورة، لنكتشف أن الحشرات تحت تمثال الغائط أقسى وأشد بأسا من المعبود
ذاته. هاجت مثيرة للبلطجة في كل مكان وأمرت ضباط الغستابو المصري بإعدام
الوثائق التي تخصها، ووسط هذا الجو، لم يكن ينقص مصر إلا سفير اليمن الذي
تم ضبطه في قضية تهريب آثار.
وكان السفير قد أبلغ عن تعرضه لعصابة من
البلطجية في أسيوط استولوا منه على ثلاثة ملايين ونصف المليون من الجنيهات
المصرية عندما كان في طريقه لدفع مصروفات المبعوثين اليمنيين في الجامعة.
ولأن
دفع المصروفات ليس مهمة السفير، ولأن الجامعة لم تكن تنتظره، ولأن العالم
فيه بنوك يتم تحويل مثل هذه الالتزامات من خلالها تعقب الأمن القضية ووجدها
فضيحة تهريب آثار، تجري تحقيقاتها الآن.
الطريف أن السفير اليمني، يمت
بصلة لمبدأ المحاكاة الساخرة للأسماء في نظام مبارك، الرجل اسمه (عبد
الولي) ويقرض الشعر أو يستكتبه، ويقيم الندوات على شرف الشعر والكباب في
مطعم عائم بالنيل. ومرة أخرى، كانت الثقافة شاهد زور، وإن تحولت إقامات
المثقفين على بحر الإسكندرية في رحاب السيدة الأولى إلى مائدة في عرض
النيل، في رحاب الشعرور السفير.
عبد الولي، كما نعلم رئيسه 'صالح'وذاك
المبعوث من تلك الأنظمة في حقبة عربية سوداء.