الثورة تضحك
عزت القمحاوي
2011-02-11
لا أعرف ما يمكن أن أقول اليوم، لعله المقال الأسوأ
في حياتي الذي أكتبه الآن، وسيشفع لي أننا قمنا بأعظم ثورة في تاريخ العرب
ولعلها الأعظم في تاريخ العالم.
أعرف أنها ليست فرحتنا نحن المصريين
فقط، هي فرحة 300 مليون عربي، وقد ناب عن كل مليون منهم شهيد. ولو كان
مبارك وعصابته مصريين مثلنا لما سقطت قطرة دم واحدة. النظام الذي فقد ضميره
فعقله فحياءه ظل حتى لحظة ذهابه إلى المزبلة متمسكا بالطوارىء على الرغم
من أن مصر عاشت طوال أيام الثورة بلا شرطة ولا قانون طبيعي أو استثنائي
وكانت هذه هي الأيام الأكثر أمنا في الحقبة غير المباركة.
هي الثورة
التي لن تعود منطقتنا بعدها إلى الوراء أبدا، وربما سيتعلم العالم الغربي
الذي لعب وناور طوال أيام الثورة ليحتفظ بنظام عسكري يجري بعض العمليات
لاستئصال أورام الفساد الاقتصادي، لكننا سنعلمه للمرة الأولى في التاريخ
بعد حقبة الكولونيالية السافرة والاستعمار عن بعد عبر وكلائه المحليين أن
التعامل مع شعوب حرة في المنطقة العربية أنفع وأجدى من التعامل مع العملاء
فاقدي الضمير والخيال والفهم.
انتصرت الثورة المصرية بالخيال والابتسام،
هي الثورة الضاحكة الأولى في تاريخ العالم. انتصرت على رئيس كان مبارك
مدهشا للجميع في المرات الثلاث التي خرج خرج فيها على الشعب بالإيقاع
التنغيمي الفاقد للحياة'في صوته منذ بداية حكمه، لا يغيره في احتفال أو
كارثة وطنية.
في خروجه الأخير كان في الحالة نفسها، يتحدث بثقة عجيبة
وتفوته كياسة طالما فاتته طوال ثلاثين عاما. هل هو التصعيد النفسي الذي يصل
بالدكتاتور إلى الإحساس بالألوهية أم هو انعدام الإدراك؟
مرتين يخرج
على الناس وينسى الاعتذار عن الدماء وفي الثالثة، بعد أن يسمع عشرات
الانتقادات عن هذا التجاهل يشير إلى حزن لا يبدو عليه، لا اعتذار ولا تسمية
الجريمة باسمها، لكنها في رأي الرجل العجيب 'تجاوزات'.
السؤال عن
الحياء السياسي سألته هنا مرارا وفي مقالاتي بالصحف المصرية، بشأن العصابة
الحاكمة لمصر خلال سنوات كانت الساحة المصرية تحبل فيها بالفهم والغضب. كان
أمر العصابة مدهشا بشكل يدعو إلى نقل السؤال من مجال السياسة والاقتصاد
إلى المجال النفسي: لماذا يقدم على مزيد من النهب من صنع ملياره الأول؟!
لا
حدود للمليار الذي يزيد على حياة شخص أو حياة أسرة من جيلين وثلاثة أجيال؟
لماذا يكنزون ما سيصل إلى أجيال لا تمت إليهم بصلة قرابة؟!
على أية
حال، وصلنا إلى النهاية، وأنجزنا مهمة هي الأصعب وتمكنا من خلع ضرس نخره
السوس؛ كان يتفتت تحت يدي الطبيب تاركا جذوره الضاربة في الفك.
هذا كان
النظام المصري الذي واجهناه وأسقطناه بينما كان يصر بجذوره العفنة على
البقاء ليضع الشباب، الذي أبهر العالم بتحضره،'أمام خطر الإقدام على جراحة
دون تخدير في فم الوحش الجريح.
واسمحوا لي أن أفخر بشباب مصر، لأن ما
يراه الإعلام من نظام ويقظه ووعي وحفاظ على الممتلكات والأرواح وقدرة على
تنظيم إعاشة الجموع المليونية في ميدان عام لا يعكس قدر التسامي الذي تجلى
ضد عدو يستهدف حياة الشباب مباشرة.
قبل أن تختفي الشرطة فجأة مساء
الجمعة 28 كانون الثاني/يناير. كان حراس العفن يقاتلون معركتهم الأخيرة
لمنع مسيرات الاتجاهات الأربعة من الالتحام معا في ميدان التحرير، قنابل
ورصاص مطاطي فرصاص حي، وشهداء يسقطون من كثافة الغاز المفتت للرئتين ومن
الرصاص، وفجأة تنهار الشرطة وتترك وراءها فلولا، كان التصرف الإنساني
الطبيعي هو الفتك بها، لكن هذا لم يحدث.
كان نقيب أمن ونحو عشرة من
جنوده ينسحبون بالرعب والعار الذي رأيناه على وجوه الأسرى الإسرائيليين في
حرب أكتوبر 1973. يجرون أقداما لا تحملهم ملتصقين بجدار نادي السيارات في
شارع قصر النيل بالقرب من ميدان التحرير، وبدون ترتيب تشابكت أيدي الثوار
الذين لم تتخلص صدورهم بعد من غاز ربما أطلقه هؤلاء الجنود أنفسهم، وشبكوا
أيديهم لحمايتهم من اعتداء أي حانق، مذكرين أنفسهم بالصيحة التي صارت بعد
ذلك عنوان التهدئة كلما وقع أسير في أيدي الثوار: سلمية ..سلمية!
طوال
ليل الأربعاء الدامي، لم تتوقف هذه الصيحة في ميدان التحرير الذي بدأ بلقطة
الجمل والخيل الفلكلورية التي كشفت في ثوان على الشاشة ثلاثين عاما من
الإجرام.
إجرام تبدى على حقيقته بعد هذا الدخول الفلكلوري سحابة نهار
وليلة كاملة، وكلما أسر الشباب مجرما من المهاجمين، صاحوا ليذكر أحدهم
الآخرين: سلمية..سلمية.
من يريد أن يعرف حجم التسامي الصعب في تلك
اللحظة كان لا بد أن يكون في الميدان؛ ليرى كيف يلتقط الشباب شهداءهم
وجرحاهم ويجرون بهم إلى المستشفى الميداني وكيف يحافظ آخرون على حياة أسير
مجرم مأجور جاء بقصد قتلهم.
معجزة أن يحتفظ حشد كبير تحت ضغط نفسي مستمر
لأربع عشرة ساعة بتسامحه مع الأعداء ولا يقدم على قتل أسير، وأن يحتفظ
بوعيه بأن من يهاجمونه ضحايا الفقر وتزييف الوعي.
ولا يدرك ثوار مصر
طبيعة الأدوات التي يستخدمها النظام فقط، بل طبيعة النظام نفسه، بوصفه
نظاما من طبقتين؛ حيث تعانق الاستبداد القديم متمثلا في شخص الرئيس وشرعيته
المزعومة المستمدة من الجيش مع الاستبداد العولمي متمثلا في شخص ابن
الرئيس وعصابته من المستشرقين حملة الجنسيات المزدوجة الذين اختطفوا
الاقتصاد المصري.
وكل من الرئيس وابنه له حاشيته وشيعته وبين هذه
الحاشية من يجمع خدمة السيدين في قلبه وكل منهم يحارب معركته الشخصية لأن
السيدين لم يتركا أتباعهما بلا مكاسب.
هذه التشبيكة العجيبة تفسر
الإشارات المتضاربة التي كانت تخرج من النظام حتى حتى صباح الجمعة، وهي
التي تجمع الأمن بالإعلام، وتجمع من سقط بمن لم يسقط، من أفسد بمن جاء بزعم
الإصلاح، في منظومة تبدو إحداها قد سقطت أو تابت لنكتشف بعد لحظة أن ما
حدث كان مجرد تقهقر إلى خط دفاع ثان.
تسقط الشرطة في مدينة لتظهر في
واحة بالإرهاب القديم نفسه، يتراجع الإعلام عن الأكاذيب الكبيرة، فيعترف
بنصف الأعداد وينقلب من تخوين الثوار إلى تملقهم، لينطلق من هذا إلى محاولة
إقناعهم وإقناع الجموع التي تنضم يوما بعد يوم بأن ما تحقق أكثر من كاف،
مع أن كل ما حدث هو بدء تحقيقات مع بعض الفاسدين وإقصاء أحدهم من موقع
والإبقاء عليه في مواقع؛ مثل صفوت الشريف، لغز المرحلة الذي أقصي من الحزب
الوطني وظل رئيسا لمجلس الشورى والمجلس الأعلى للصحافة!
المراوغة في
الأفعال تختلط بمراوغة الأقوال. تعهدات بحماية المتظاهرين ثم غض الطرف عن
عدوان البلطجية، أنباء عن بدء تحقيقات حول استخدام الرصاص الحي ثم العودة
إلى استخدامه في ظل الوزارة الجديدة. أحاديث عن التفهم ثم التهديد باللغة
القديمة نفسها وكأن شيئا لم يحدث في مصر، حتى أن الرئيس الذي بات محاصرا من
شعب بكامله ظل يتعهد بعدم ملاحقة الشباب، بدلا من أن يطلب الحماية.
لا
نعرف، إن كان للأمر علاقة بالحياء أو بالقدرات العقلية أو بالثقة في
الحماية الأمريكية التي كانت مسبغة عليه من دون أن يطلب، أم هي الثقة في
ضغوط الحليفين السعودي والإسرائيلي على الإدارة الأمريكية، لإنقاذ نظام إذا
تهاوى تداعت معه منظومة الاستبداد العربية التي أوجدت الحاجة إلى إسرائيل
وحمت وجودها حتى هذه اللحظة.
المهم في النهاية أننا انتصرنا وندرك أننا
أمام عمل كبير لإقرار نظام ديمقراطي لا يتأله فيه رئيس، وهذا سيتطلب نسفا
لمنظومة القهر القانونية من الدستور حتى لوائح الشركات والمصانع. وسنفعل
هذا بأوسع ابتسامة؛ فبالابتسام انتصرنا وبروحه ستجتاز مصر التحول الصعب.