عزت القمحاوي
2011-06-03
كلما دخل الرجل الطارىء المطعم وجد مجموعة كبيرة من
الرجال السمر على موائد متقاربة، ليس في صحونهم الكثير من الطعام. زاهدون،
مثله، في طعام اللا أحد. لكنهم لا يملون الكلام، يتناقشون بصخب وكثيراً ما
تعبر القضية من مائدة إلى أخرى؛ فيتكسر الكلام ويتناثر حول الطاولات.
يدور
العابر بصحنه بحثا عن طاولة فردية مصمماً على إيجادها، حتى لو وجد
العـــــديد من الطـــــاولات الخـــــالية التي تتسع لأربعة أو ستة،
يتــذكر الطارىء أنه كان في أزمنة أخرى طارئاً ضمن جماعة، وأنهم كانوا
يزغرون لأي طارىء فرد يحتل طاولة جماعية في مطعم مكتظ. طارىء كهذا لا
يُنظر إليه إلا بوصفه قليل الحساسية تجاه البشر.
كان الدوران، الذي يرجو
من ورائه رضى البعض، يكلفه أحياًناً ارتياب آخرين أو انزعاجهم؛ فالناس لا
تنظر دائماً للأمر الواحد من الزاوية نفسها. وبسبب اختلاف أنواع ودرجات
الحول في النظرة البشرية، لا يستطيع الطارىء إجراء حسابات الربح والخسارة،
من وراء دورانه المجهد. الشيء الوحيد المؤكد أنه يكلفه الكثير من الوقت، مع
ذلك لا يتنازل عن الانكماش على طاولة تكفيه بالكاد. ولكي يكفكف الطارىء
تفكير عينيه يجهد أذنيه في تلقيط فتافيت الكلام.
وليت الأمر ينتهي
بالعثور على الطاولة المأمولة؛ فعندما يستريح رجل ما أمام طبق في ركن لا
مرئي من مطعم، لا يمكن أن يترك ذات الانطباع لدى كل العيون التي قد تصفعه
قصداً أو تلمس وجهه برهافة فراشة سرعان ما يتعثر رفيفها ويضطرب بعد التلامس
غير المقصود بين جناحها ووجه الطارىء.
منظوراً إليه من عين فراشة طارئة
أو فراشة نادلة؛ فالطارىء الذي أعطى وجهه للبحر قد يكون رجلاً رومانسياً
يصلح للصيد، وربما يكون صياداً ماهراً، اختار الركن البعيد لصق الواجهة
الزجاجية لكي يستدرج فراشة خرجت من شرنقة دودة مهملة، لم تعلمها أن الزجاج
الساكن بلؤم يُسرب النور، لكنه يقتل فراشة مندفعة.
عين الطارىء الذكر
تختلف بطبيعة الحال، وتتباين علاقتها مع وجه الطارىء من اللكم إلى التربيت
الخفيف؛ ربما يفكر الطارىء بالطارىء أنه لم ينعزل بالقرب من الزجاج إلا من
أجل الإيقاع بفراشة تخصه هو، وربما يظن الطارىء الأحدث بالأقدم ظنه بنفسه؛
متصوراً أنه لم يزل يشتهي طعام اللا أحد، ولم ينزو هذا الانزواء إلا ليفرغ
محتويات طبقه الأول بأقصى سرعة ممكنة، لكي يتمكن من جلب الطبق الثاني
والثالث. وهذا ليس معناه أن كل الطارئين الذكور مبتلون بسوء الظنون. هلبتَ
من وجود طارىء حزين، يقدر حزن طارىء آخر، ويتفهم رقة انكبابه على عزلته،
حماية لوجوه الآخرين من طيش نظرته الحزينة.
وغالباً فإن الرجل الطارىء، الذي جلس حالاً على طاولة مفردة ليس أياً من الرجال الذين قد يخطرون لخيال عين فراشة أو صقر.
قبل أن يجلس، تركت يدا الطارىء الصحن لرحمة الطاولة، لكن رأسه لم يتخل عن كسر الكلام.
ـ هذا معناه أنك تمنحه شرعية لايستحقها.
ـ إذا كنت تتكلم عن أمانة عامة يعني ضروري تكون عندك لجان فرعية.
ـ دا كلام بطّال لايقبله أحد.
لا
يذكر الطارىء أنه تلقى في طفولته تأنيباً على طبق كسره، ذلك لأن صحون
دارهم كانت من النحاس تُفني الآكلين ولا تفنى. كانت إذا هرمت تخضرّ فحسب؛
مثل أسنان البشر عندما يهرمون. وكانت أيادي أسرة النحاسين، التي تأتي
لتُخيّم في أوقات معلومة من السنة، تتولى رفع طبقة الزنجار بقليل من
القصدير والنار، ولا ترحل إلا وقد أعادت كل نحاس القرية إلى شبابه.
لم
يكن هناك سوى الفخار الرخيص والنحاس، ولم تدخل الأواني القيمة القابلة
للكسر إلا بعد أن فات زمن العقاب. كانت أمه قد آخته عملاً حرفياً بالحكمة
الموروثة، وكان إذا كسر طبقاً يحاول إعادة تجميع أشلائه بفضول لا يخالطه
أسف أو خوف. وعندما تغيرت حياة الرجل العابر وصار أباً، اكتشف أن هناك
ألعاباً مخصوصة من الكرتون والخشب والمعدن، ألقى بالكثير من عُلبها في
أسرّة أولاده لتجفيف كل قطرة فضول قبل أن ترشح من ملاحفهم.
بذات الفضول
النقي الذي عرفه عند تكسير الصحون وعرفه أولاده عند تركيب ألعابهم
وتفكيكها، يجلس الطارىء الآن، يحاول تجميع كسر الكلام لمعرفة أصل المشكلة
وفصلها، متى؟ ومن أين جاء الطارئون الذين طرأ على جمعهم.
وبمرور الوقت
عرف الكثير عنهم، وصار يتقصد السير بين طاولات الطارئين السمر، بالاستثارة
التي يمكن أن يحسها طفل مشاغب كلما نجت قدماه العاريتان من كسر زجاج منثور
عبر فوقه متعمداً.
جاء المفاوضون من بلد ضاق بهم، على الرغم من أن
المسافة بين مشرقه ومغربه تكفي لاستيعاب أهله وكل الطارئين على هذه الدنيا،
لكن شاءت الظروف أن تستوطن حية قلبه.
التفت الحية بالضبط في المركز،
حيث تتعامد الشمس على أرضهم، وفي نوبات هياجها تنقض لتلدغ المشرق أو
المغرب. لا رأفة للحية بهم أو حتى بنفسها؛ لدرجة أنها عندما أحست بعبء
ذيلها على رأسها السام قطعت الذيل.
في تليفزيون غرفته، رأى الطارىء
الحية تلتف لتتحرش بالذيل المقطوع الذي تخلت عنه طواعية. وعبثاً حاول
الطارىء، في أوقات الوجبات الثلاث على مدى أيام، أن يتصيد من بين الموائد
كسرة أو شظية كلمة عما تفعله الحية بالذيل ولم يفلح. جلس؛ بتدبير يبدو
عفوياً، على طاولة مفردة بين الطاولات التي تتقاذف الكلام. استأذنهم في
التطفل عليهم ليشبع فضولاً لديه.
استمع إلى وجهة نظر البعض منهم فيما
تفعله الحية بالذيل. وهؤلاء هم الكبار الذين لا يزالون يتذكرون بظل خفيف من
الأسى كل مواضع اللدغ في بلدهم مترامي الأطراف، لكنهم في النهاية معنيون
بما جرى لهم أنفسهم، ولم يزل من تركوهم وراءهم مهددين بسم الحية عندما تميل
برأسها مع الشمس. البعض الآخر ليست لديه وجهة نظر محددة في نزاع الرأس
والذيل، وهؤلاء هم الشباب الذين ولدوا في هذا الفندق، ولا يعرفون إلا
اللدغة التي نزح آباؤهم بها، وجاءوا إلى هنا للتفاوض باسمها منذ كانت صحون
هذا الفندق من النحاس.
ولأن الحية لا تغلق طريقاً للسلم ولا للحرب؛ عاش
الطارئون السمر منذ ذلك الزمن الغابر، بوصفهم مفاوضين، في هذا الفندق
والفنادق المجاورة.