الثورة بارتي!
عزت القمحاوي
2011-09-30
ليس
الرصاص فقط ما يهدد الثوار، والقوى القديمة التي في الحكم أو في الحبس لا
تحاول سرقة الثورات بتعمد إفلات الأمن والالتفاف على المطالب الثورية فحسب؛
بل تفعل ذلك من خلال الاحتفال بالثورات!
عندما فاجأت الثورات كارهيها
وجدوا لزاما عليهم الانخراط في الاحتفال بمولدها، ربما كان فرحا حقيقيا في
البداية وفاء لعادة عربية قديمة، حيث كانت العرب تحتفل بمولد صبي أو حصان
أو شاعر قبل أن يصدر عن الصبي أو الحصان أو الشاعر علامة تثبت جدارته
بالاحتفال.
انخرط الجميع في الاحتفال بالثورات قبل أن تثبت أقدامها أو
تظهر عليها أعراض نجاح، ثم اكتشفت القوى المعادية للثورة أن تقنية الاحتفال
تصلح لتشويه الثورات والنيل من شأنها.
أمسيات عديدة، أفراح وليال
ملاح، شهدتها العواصم العربية، بل والأوروبية وأمريكا. ولم يخل برنامج معرض
من معارض الكتب التي انطلق موسمها الجديد من برنامج احتفائي بالثورات
العربية، تستوي في ذلك بلاد الثورة نفسها والبلاد العربية الخائفة من
الثورة والبلاد الأجنبية التي لا يمكن أن تكون الثورة في صالحها.
وقد
شملت نعمة الاحتفال مدوني الثورة ومطربي الثورة ومنظري الثورة بأقل مما
شملت المناوئين للثورة الذين يذهبون إلى العواصم الخائفة من الثورات
باعتبارهم ممثلين للثورات في بلادهم، في نوع من التواطؤ بين الضيف ورب
المنزل طعنا في الثورة التي قامت وإجهاضا لثورة محتملة في البيت.
' ' '
لن
نستغرب إذا ما خصص معرض الرياض القادم للكتاب برنامجا للاحتفال بالثورات
العربية، كما لم نستغرب احتفاء مسؤولي الثقافة بالجزائر بالثورة المصرية من
خلال توجيه الدعوة لبعض ثوار التحرير مع فلول النظام السابق، وبينهم الرجل
الذكي جابر عصفور، وقد نشر مراسل صحافي تقريرا في صحيفة خليجية كال فيه
الإكبار والإجلال لمن وصفه بـ: المتألق كالعادة، المثقف التنويري كالعادة،
المبهر كالعادة، والصريح كالعادة!
ولن نتوقف كثيرا أمام تقرير عن ندوة
في معرض كتاب، فتنويرية وصراحة وثقافة جابر عصفور واضحة للمصريين وللكثرة
الواعية من العرب بما لا يدع مجالاً لاستزادة. وليس في الأمر ما يستحق عناء
الشرح، لكن الحالة تدعو للغيظ، لأن الثورة المصرية التي من المؤكد ستتأجج
مجددا في القريب تتعرض لسرقة خشنة في وضح النهار، حيث لم يتحقق مطلب واحد
للثوار حتى الآن باستثناء الظهور الرمزي لمبارك وبعض الرموز في قفص
الاتهام.
الثورة التي تتعرض لعملية قطع طريق لا تنقصها السرقات
الناعمة، التي يكيل فيها فلول الدول الخائفة من التغيير المديح لبقايا
الأنظمة التي ترفض السقوط، لتتحول الثورة إلى حالة صورية على منصات
الاحتفال وليس في الواقع.
ولا تذكرنا حالة الكذب الاحتفالي بالثورات،
إلا بحالة 'حوار الحضارات' الكاذبة التي ولدت بعد أحداث الحادي عشر من
أيلول (سبتمبر) كأوسع عملية تدليس بين بلدان ـ وليس حضارات ـ تتكاره عمليا
وترتكب كل ما يؤجج الصراع وتقيم المنصات شرقا وغربا للحديث حول حوار،
نتيجته الوحيدة المؤكدة هي رواج قطاع النقل الجوي وقطاع الفنادق.
' ' '
الثورية
عمل، والاحتفال قبل العمل حالة غير ثورية، بل هو تقنية الكذب التي أرستها
الأنظمة القائمة التي لم تسقط بعد (حتى في مصر وتونس). ولم يتعظ المحتفلون
اليوم من المصائر البائسة للمحتفلين من دون إنجاز.
تقلد الطغاة الصغار
مقاليد الحكم في بلاد كان لديها ما تعتز به من الإنجازات، وما يستحق
الاحتفال حقًا. وعملوا خلال سنوات ليلهم الطويل على ضرب كل إمكانية
للإنجاز، ومع ذلك كانوا يحتفلون من دون خجل.
عيد للعلم في بلاد صائرة
إلى الجهل، عيد للفلاح في بلاد تأكل من قمح الأمريكيين والروس وعيد للصحة
في بلاد الأمراض المتوطنة، وعيد للشرطة في بلاد تحرسها عصابة.
كان الزعماء السماسرة يتحركون بين رعية سعيدة مصنوعة ومختارة، وكانت الحوارات مع الرئيس مخططة دائما، والكلمات تلهج بمديحه.
لم
يفرق حاكم بليد مثل مبارك بين الواقع ولوكيشن التصوير السينمائي، وكانت
هناك فضائح كشفتها الصحافة في وقائع مثل واقعة زيارته لفلاح يقيم في كوخ
على شاطئ النيل، يعد كوب شاي صعيدي للرئيس، فإذا بالصحف تكشف أن الكوخ
أقامته الشرطة وأن الفلاح المزعوم هو أحد مجنديها النظاميين!
وقد انكسر
الفاشلون المحتفلون مثل ضروس أكلها السوس وتركوا لنا جذورهم تمارس التقنيات
ذاتها ومنها تقنية الحفلة، حتى صار الاحتفال بـ 'الربيع العربي' أكبر من
ربيع عربي يأكله خريف المتمسكين بسلطة بائدة، الذين أخرجهم الثوار من الباب
فعادوا من النافذة يحكمون كما حكم من هلك قبلهم، ويحتفلون كما كان يحتفل.
وإذا
كانت قوى الثورة في بلاد مثل مصر وتونس تواصل نضالها بدأب لتثبيت الثورة،
فإن على هذه القوى أن تنتبه إلى فخاخ 'الثورة بارتي' المنصوبة في كل مكان،
وأن تتجنبها، حتى لا يبقى على منصات وفنادق الربيع العربي الكاذب إلا
المخبرون المفكرون النظاميون