بن عبد الله مراقب
التوقيع :
عدد الرسائل : 1537
الموقع : في قلب الامة تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | ممّا لاشكّ فيه أنّ العقل المفكّر بالعربيّة بعيد للغاية – إلا ما ندر – عن التيارات الفلسفيّة الحديثة في الغرب، سواء تلك التي تعبّر عن إعادات نظر نقديّة لمنظومات فلسفيّة معرفيّة سابقة، أو تلك التي تحاول أن تثبت أقدامها في نوع من الاستقلاليّة عما عداها. وإ | |
ممّا لاشكّ فيه أنّ العقل المفكّر بالعربيّة بعيد للغاية – إلا ما ندر – عن التيارات الفلسفيّة الحديثة في الغرب، سواء تلك التي تعبّر عن إعادات نظر نقديّة لمنظومات فلسفيّة معرفيّة سابقة، أو تلك التي تحاول أن تثبت أقدامها في نوع من الاستقلاليّة عما عداها. وإذا كانت فلسفة العلم قد صارت صرحاً هائل البنيان في الغرب، خاصة الأنغلو-ساكسوني، بعكس ما تمنّى الفيلسوف الإيطالي الأغوستيني فدريكو شياكّا قبل أكثر من نصف قرن، فإنّ الفلسفة بكافّة أشكالها تراجعت إن لم تكن سقطت في العالم الناطق بالعربيّة. ولهذا أسبابه الموضوعيّة وربما الذاتيّة: 1 – تفشّي منطق السببية الماورائيّة ( أو اللاسببية المنطقيّة ) في أوساط العامّة، ومعظم الخاصّة، مقابل تحجيم العلم، بمعناه الابستمولوجي لا الشعبوي؛ والدارونيّة التي نحن بصددها اليوم، هي أفضل من حاول إعادة تفسير المفسّر ما فوق طبيعيّ بالطبيعي. 2 – عزوف العرب، لأسباب صارت أكثر من معروفة، عن المعارف المكتوبة، مقابل الانتشار السرطاني للمعارف ( إن صحت التسمية ) البصريّة؛ هذا يعني اكتفاء المواطن العربي عموماً بدور المنفعل-المتلقّي عوضاً عن دور الفاعل-المعطي. وهذا يتناسب بالكامل، رغم التناقض الظاهري، مع الثقافة الإسلاميّة التي ترفض معرفة تفعيل العقل. 3 – رفض العقل المفكّر بالعربيّة لأيّ نوع من المنطق يتنافى أو يتناقض وإن جزئيّاً مع مسلماته. ولأنّ هذا الصنف من التفكير يرفض تفعيل طبقاته الإدراكيّة عبر آراء جديدة خوفاً من سقوط ركامه المعرفي، فهو بالتالي يختار تجاهل الآخر المخالف، كنوع من آليّة الحماية الذاتيّة. مع ذلك، فنحن لا نستطيع غير المساهمة في هذا الألق العالمي المحتفل بدارون. ولهذا أيضاً أسبابه. فقد حاول رجال الدين، من كافة الأصناف، تسفيه الدارونيّة وتبسيطها حتى السخافة، وإظهار – وكأنهم فعلاً يعرفون – أنها صارت من مخلفّات الماضي الغربي البائدة. – هذا كلّه، لأنّ جوهر الدارونيّة ينقض أسس التفكير الديني. مع ذلك، فكما سنلحظ بالوثيقة، الدارونيّة بأشكالها المتعددة، تعرف توهّجاً لا انطفاء له في الغرب؛ رغم أنّ وصول لمعة منها إلى الشرق الإسلامي أمر صعب بمكان، لأنّ الإدراك الإسلامي، الذي هو نتائج عمليّات تكيفيّة مع بيئة لا تخلو من المستحاثيّة، غير قادر بشكله الحالي على فهم تبصّرات الدارونيّة أو الدارونيّة الجديدة أو ما بعد الدارونيّة الجديدة، فكيف بتمثّلها؟ هذه المقالة، المكونة من جزأين اخترناهما بعناية من ضمن منظومة معارف دارونيّة ضخمة، تسير كما يلي: جزء يهتم بتقديم الفلاسفة الدارونيين الأشهر عالميّاً؛ وجزء يركّز على الابستمولوجيا الارتقائيّة، التي تعرف اليوم امتدادات غير مسبوقة في حقل نظريّة المعرفة في الغرب. مدخل سريع: قبل أكثر من عشر سنوات قدّّمني الصديق البروفسور الألماني ميشائيل موترايش، الذي عمل معي في أكثر من بحث، إلى الفيلسوف-العالم الألماني أيضاً، غيرهارد فولمر. وبعد بضع مراسلات تعريفيّة مع فولمر، أرسل لي الرجل عمله الإبداعي الهامّ، الإبستمولوجيا الارتقائيّة، الذي يعتبر بحقّ تحفة معرفيّة عزّ نظيرها هذه الأيام. وبسبب ما رأيته من أهمية فائقة للعمل، ولأنّ المكتبة العربيّة تفتقد كثيراً النتاج الإبستمولوجي عموماً، تجرّأت على ترجمة العمل الصعب إلى العربيّة، وأرسلت النسخة المترجمة إلى فولمر، الذي أخبرني أنّ لديه من يحسن قراءة العربيّة؛ وبعد فترة، أعاد فولمر الدراسة إلي مع التمنّي بنشرها بأفضل ما يمكن. وبما أن اسمي ممنوع عن النشر في سوريّا، قدّمت الدراسة الهامّة باسم مستعار؛ وحظيت بالموافقة فوراً – أشكّ أنّ أحداً قرأها أو فهمها إن قرأها. مع ذلك، وجدتني أرفض نشر الدراسة رغم الموافقة، أقلّه أنه من الخزي أن أضطرّ لتقديم عمل بهذه الأهميّة باسم مستعار؛ بغضّ النظر عمّن سيقرأ بحثاً كهذا في وقت وصل العقل العربي إلى الحضيض. لكنني قدّمت العمل إلى أحد الأساتذة في كليّة الفلسفة-جامعة دمشق، حيث يقوم بالتدريس منه في مجال الإبستمولوجيا. واليوم ها هي الفرصة تسنح في أن أقدّم شيئاً عن فولمر إلى قرّاء العربيّة وعن الدارونيّة والفلسفة، وبخاصة الابستمولوجيا الارتقائيّة. ولد غرهارد فولمر Gerhard Vollmer في شباير عام 1943. درس في ميونيخ وبرلين وهامبورغ. بعدما أنهى دراسته في الفيزياء عام 1968، درس الفلسفة والألسنيّات في فرايبورغ. عمل فولمر كمتدرب في Deutschen Elektronen-Synchrotron هامبورغ. وفي فرايبورغ حصل على الدكتوراه في الفيزياء النظرية عام 1971. كذلك حصل فولمر على دكتوراه أخرى في الفلسفة. وعام 1975 شرع فولمر في التدريس في جامعة هانوفر. وبعدها بستة أعوام راح يحاضر في جامعة غيسن في موضوعة فلسفة البيولوجيا. منذ عام 1991 كان يعلّم الفلسفة في TU Braunschweig. كان يحاضر في مواضيع فلسفيّة شتى كالمنطق، الإبستمولوجيا، فلسفة العلوم، الفلسفة الطبيعيّة، والذكاء الاصطناعي. العلاقة بين الدارونية والفلسفة: في آذار – مارس عام 2001، عقد مؤتمر في جامعة نوتردام، إنديانا، الولايات المتحدة، حول مسألة محددة هي العلاقة بين الدارونية والفلسفة. وقد قام الباحثان فيتّوريو هويزله وكريستيان إيلّيس بنشر المداخلات الهامة التي قدّمت في ذلك المؤتمر، والذي يمكن اعتباره إحدى أهمّ الخطوات الجديّة لرسم خطوط العلاقة بين الدارونية والفلسفة. ثمّة اعتقاد ليس غير واسع الانتشار، أنه مع بروز نظرية دارون المتعلّقة بالاصطفاء الطبيعي، حدث للفلسفة شيء هامّ للغاية – شيء شظّى أساسيّاً الفهم الذاتي الفلسفي التقليدي بطريقة أجبرته على التخلّي عن كثير من اليقينيّات وقلبت جذريّاً معظم ادعاءاته الأصليّة. هذا لأنّ النظريّة الدارونية، في وصفها العام للعالم، تتضمن البشر، أي الكائنات التي تمارس فعل التفلسف. البشر، وبالتالي العقول البشريّة القادرة على التفلسف، هم نتاج الاصطفاء الطبيعي. رغم ما قيل سابقاً، ليس ثمة إجماع حول النتائج الدقيقة للدارونيّة فلسفيّاً؛ مع ذلك، يتوضّح على نحو متزايد أن النظريّة الدارونية ليست بيولوجيّة فحسب. فبعضهم يرى أن الدارونية نظريّة فلسفيّة، ذات بعد ميتافيزيكي أو أنطولوجي، كونها تهتمّ بالواقع ككلّ، أي، " بالوجود عموماً ". إذن، للدارونيّة تداعيات أنطولوجيّة، عقائد معيّنة فيما يخصّ بنية الواقع، وإذا ما اعتبرنا الدارونية صحيحة، وهنالك على الدوام من الأسباب المتزايدة ما يدفعنا لأن نعتقد بذلك، فإنّ آثاراً بعيدة المدى على الفلسفة لابد أن تعقب اعتقادنا. لا شكّ أن فلسفة البيولوجيا هي الحقل الأبرز الذي تدور فيه رحى المعارك حول الآثار الفلسفيّة للدارونيّة. وفلسفة البيولوجيا، كما هو معروف، مسيطر عليها من قبل الفلاسفة الأنغلو-أمريكان إلى حدّ كبير. مع ذلك، ثمّة أسماء ألمانيّة هامّة للغاية في هذا الحقل؛ منها: روبرت ريدل، ديتر فاندشنايدر، مارسيل فيبر، بيرند غرافرات، فيتوريو هويزله، وباحثنا غرهارد فولمر؛ كذلك يمكن أن نذكر الهولندي كريستيان إلّيس والفرنسي جان غايون. يلقي الفيلسوف الألماني المثالي ديتر فاندشنايدر الضوء على سمات للارتقاء البشري لا تؤخذ بعين الاعتبار كثيراً في التقليد الأنغلو-أميركي. وهو يؤكّد بشكل خاصّ على أهميّة الوعي، التكنولوجيا والثقافة في الارتقاء البشري، والتي عبرها في نهاية الأمر يتسامى الإنسان على الطبيعة. من ناحيته، يتساءل بيتر ماك-لفلين عما هو حديث في العلم الحديث حصريّاً، وذلك عبر تأمل أفكار الفعليّة actualism والماديّة والعلاقة بينهما. يرى هذا الفيلسوف أنه لا نظرية الارتقاء الدارونية، التي هي نظريّة اختباريّة، ولا وقائع الفيلوجينيا phylogeny ( فرع من علوم الحياة يتناول دراسة العلاقات الارتقائيّة بين الأنواع المختلفة أو تعداد العضويّات، من خلال معلومات جزيئية متتالية )، وهي إعادة بناء تاريخيّة، لهما متضمنات ميتافيزيكيّة بحدّ ذاتيهما. هذا يحدث فقط حين تجمعان من افتراضيات مثل المادية ( أو الطبيعيّة ) والفعليّة شريطة أن تؤخذا بمعنى ميتافيزيكي، ليس فقط طرائقيّاً، كما هو متطلّب من قبل التحري العلمي. وبلغة أكثر تعميمية، التفسيرات الدارونية تعطي العلل الطبيعيّة للظواهر المفسّرة حتى ذلك الزمن بالعلل ما فوق الطبيعيّة نظرة عالميّة Weltanschauung طبيعيّة لا تخلو من فائدة. يناقش المؤرّخ ديفيد أولدرويد الترابطات بين الدارونية والبالنتولوجيا ( دراسة الحياة ما قبل التاريخيّة، بما في ذلك ارتقاء العضويّات والتفاعلات بين العضويّة والعضويّة وبين العضويات والبيئة المحيطة ) والميتافيزيك، ثم يحاول البرهان على أن فعليّة ليل lyell، التي هي المنافس لكارثيّة catastrophism كوفييه ( اعتقد كوفييه أنّ معظم المستحاثات الحيوانيّة التي فحصها، إن لم يكن كلّها، كانت بقايا لأنواع هي الآن منقرضة، " دمّرتها كارثة " )، كانت شرطاً نظريّاً أساسيّاً لا بدّ من الوفاء به أولاً إذا ما أريد لنظريّة الاصطفاء الطبيعي الدارونيّة أن تعمل ( كونها تحتاج إلى أزمنة ضخمة ). البالنتولوجيا، بل والبيولوجيا عموماً، يمكنها أن تمضي دون عراقيل، بلا ميتافيزيك، وفقاً لأولدرويد، الذي يعتقد أن المعضلة الميتافيزيكيّة الوحيدة الباقية هي أصل الكون. يحلّل الفيلسوف الهولندي كريستيان إلّيس بنية التفاسير الاصطفائيّة. فيقول إن مبدأ الاصطفاء الطبيعي يمكن النظر إليه بطريقة أبريوريّة مظهراً إن مبدأه الجوهري – " الوجود المسبق لأية كينونة يعتمد على بيئتها وعلى صفاتها الخاصّة " – ليس حشويّاً tautological، كما يجادل بعضهم أحياناً، لكنه تفسيريّ أساساً. إن مبدأ الاصطفاء الطبيعي صحيح أبريوريّاً لأنه يمكن استنتاجه من مبدأ سبب كاف، شريطة وجود شروط بعينها. يتقصّى مايكل روس العلاقة بين الدارونية والطبيعانيّة ليجادل من ثمّّ، عبر تأمّل في مقولات العجائب، أنّ مسألة وجود الله، الديانات الموحى بها، ووجود الإنسان، ملزمة بالضرورة داروينيّاً بالطبيعانيّة الطرائقيّة لكن ليس بالطبيعانيّة الميتافيزيكيّة ( تفهم كإلحاد مادّي ). يتقصّى ديفيد ديبو المعاني المتبدّلة لما يسميّه " الدارونيّة الأيقونيّة "، أي، ذلك النوع من الصور الشعبيّة للدارونيّة الذي يتمّ تداوله عند جماعات علميّة وفي حقل العامّة على نطاق واسع. يحذّر ديبو من أخطار أن يصبح المرء أسير ما يسمّى " بالأوهام المتسامية " ( بالمعنى الكانطي ) حين تُفصل الإطارات التفسيريّة الكبيرة، على يد فلاسفة مثل دانييل دنّيت، عن أصولها في الكشوفات التجريبيّة وتحوّل إلى ميتافيزيكيّات ومن ثم تستخدم لتبرير الاستدلالات الواسعة – ما يدعى " مضامين الدارونية " – في مسائل السلوك، الفكر، الثقافة، المجتمع، الدين،الفلسفة، إلخ. يقول ديبو، " إنّ استدلالات كهذه هي على الدوام عمل مخططات تفسيرية مفضّلة "، أي، تفضيل تفسير ما على حساب بدائل ( ذات معقولية مكافئة ). ينافح ديبو عوضاً عن ذلك عن تعددية في استخدام مخططات مفاهيميّة ويؤكّد على الحفاظ على " مساحة حواريّة " من أجل وزن المخططات المختلفة، بل المتنافسة، لتفسير الدراوينيّة. ليصل من ثم إلى نتيجة مفادها، " أن نُسَخ الطبيعانيّة التي تنقص هذه المساحة عبر مطالبة بكثير جداً من الاستمراريّة بين العلوم والأحاديث التأمليّة حولها تبدو بالخطورة ذاتها التي لنسخ الفلسفة التي تعزل الفرضيات الميتافيزيكيّة، الإبستمولوجيّة، والمعياريّة عن التبصّرات العميقة للعلم الارتقائي ". وكطبيعانيين على وجه الدقة، على الداروينيين " رفض أن ينهار الموقف الطبيعاني إلى طبيعانيّة علميّة وميتافيزيكيّة ". في نهاية المطاف، إن الفضيلة الأهم للطبيعانيّة، هي معارضتها العنيدة لأي صنف من أصناف الأبريوريّة. وديبو يتقصّى بعض النقاط المتنازع عليها في الدارونية المعاصرة ( بشكل خاص: التقدّم والواسطة ) مظهراً أن الدارونية مصطلح لا بدّ من قراءته بلغة الجمع. يقدّم روبرت ريدل مناظرة حول " منظومات نظريّة الارتقاء "، نظريّة قدّمها للمرّة الأولى في كتابه، نظام الحيوات: منظومة شروط الارتقاء، الصادر عام 1975. إن أبرز سمة في نظريته المتعلّقة بتعقيد الارتقاء هي مركزية فكرة " السببية المتكرّرة-إرتجاعيّاً " أو " السببية الاسترجاعيّة " – " فكرة أن كل تأثير بيولوجي في المنظومات الحيّة، بطريقة أو بأخرى، يتغذّى ارتجاعيّاً من علّته الذاتيّة ". يمكن لمفهوم السببية المتكررة-ارتجاعيّاً أن يفسّر ظواهر عصيّة على التفسير عبر سببية خطيّة واضحة، أشياء تشبه التكيّفيّة المتواصلة للمنظومات المعقدة، كافة أنواع الإكراهات التطوّريّة، والظواهر الارتقائيّة الكبيرة macroevolutionary مثل الارتقاء المتوازي، التكوّن التقويمي [ نظرية تقول إن التنوّع في الأجيال المتعاقبة يسير وفق نظام معيّن لا يتأثر بالعوامل الخارجيّة ] والـ typogenesis [ يمكن للمرء أن يميّز بين مستويين ( ومرحلتين ) من الصيرورات الارتقائيّة الكبرى: الدنيا ( الماكروجنيسس ) والعليا ( التايبوجنسس ). تمثّل الماكروجنيسس التبدلات الارتقائيّة الكبرى للبنى المنفصلة؛ التايبوجنيسس هي تكوين الباوبلان ( نمط إحدى المنظومات ) العام من عضوية كبيرة macrotaxon جديدة على أساس من ماكروجنيسس بدئيّة ].. ويعتقد ريدل أن إدخال مفهوم السببية الاسترجاعيّة ضمن تيار البيولوجيا الرئيس يحتلّ أهميّة فائقة. بل إنه يراه، على المستوى البعيد، حيويّاً بالنسبة لبقائنا كنوع: التركيز الحصري على السببية الخطيّة هو " العلّة الرئيسة للمعضلة البيئويّة، بجانب الطمع ". ظاهريّاً، الوعي الصريح للتعقيد السببي للمنظومات الحيوية لا يمنع المرء عن التفكير أحادي السببية – أو في هذه الحالة: ثنائي السببية – في الحقل الثقافي-التاريخي. مع ذلك، يبدو الأمر وكأنه فرضيّة معقولة. يركّز ر. سلوان على مفهوم دارون للطبيعة، الذي هو ليس طبيعانيّاً بالكامل، كما يقول في ردّه على روبرت ر. ريتشاردز. تقول فرضيته إن دارون امتلك " فلسفة طبيعة شكلانيّة أصليّة "، فهم معقّد للطبيعة تأثّر إلى حدّ كبير بتقليد فلسفة الطبيعة الألماني، خاصة عبر كتابات ألكسندر فون همبولدت. ومع أن نظرة دارون للطبيعة لم تكن غائيّة تماماً بالمعنى الأرسطوي للكلمة، فهي لم تكن ميكانيكيّة و"عدميّة " بالكامل أيضاً. ويقول سلوان، إن رأيه في الطبيعة يمكن أن يساعد في تلطيف الهوّة بين ما هو " كائن "، وما " يجب " أن يكون، أي، في إعادة النظر في وضعيّة ما يسمّى بالمغالطة الطبيعانيّة. يتناول روبرت ج. ريتشاردز موضع مفهوم " الفكر " في الدارونيّة. ومن ثم يسعى للبرهنة على أنّ القواعد المفاهيميّة للنظريّة الدارونيّة إنما هي تجسيد لنوع معين من الميتافيزيك، بقايا لأفكار موجودة في أعمال ألكسندر فون همبولدت بل إنه متأثر بآراء مفكّر تأمّلي ومثالي من نمط فريدريش شيلر. يحاول ريتشاردز الدفاع عن الرأي القائل إن نظريّة دارون قامت على أسس لشيء " يشبه مفهوم الفكر المطلق ". فيكتب أنه " منذ بداية تنظيره، استخدم دارون الفكر كأنموذج لفهم صيرورة الارتقاء ". كان مفهوم الفكر مفيداً في تشكيل نظريّة دارون بمعنى نقل القوى الإلهيّة – كليّة العلم، كليّة القوّة، الخير، الخلق، والحكمة – إلى الطبيعة ذاتها، أي إلى الاصطفاء الطبيعي، وهو ما يمكن التعبير عنه بكلمات ريتشاردز، " بأنه [ دارون ] صار يتخيّل الطبيعة كما لو أنها تمتلك شيئاً يشبه الفكر المطلق ". وهكذا فالفكر، الفكر المطلق، سوف يكون أنموذج دارون لفهم الارتقاء. لقد فكّر في الاصطفاء ليس كقوّة آليّة عمياء بل كنوع من الذكاء، كصيرورة فكريّة ومتعمّدة. نعم، إنّ فكرة دارون الأصليّة عن الارتقاء كانت ذات صفة تقدميّة وهدفيّة وميتافيزيكيّة بحدّ ذاتها تماماً. لاحقاً فقط، بضغط من نقّاده، تخلّى عن افتراضاته المثاليّة التي قادت تنظيراته. وفكرتنا الآليّة الصافية حول الاصطفاء الطبيعي لم تكن من عندياته. فدارون لم يكن قد صار بعد دارونيّاً جديداً. يفحص المؤرّخ والفيلسوف الفرنسي جان غايون المضامين الميتافيزيكيّة للبيولوجيا الارتقائيّة الدارونيّة، عبر استخدام معنيين مختلفين للميتافيزيك، الأوّل " سلبي " مأخوذ عن كونت ( الميتافيزيك بوصفه: معرفة " قائمة على التجريد اللفظي المجرّد ")، والآخر " إيجابي " مأخوذ عن كانط، الذي يحتوي عمليّاً أربعة فروع للمعرفة: المعرفة المتسامية المتعلّقة بالشروط الأبريوريّة لأية معرفة، الميتافيزيك الخاص أو المعرفة المتعلقة بالأمور التي تفوق التجربة ( كليّة العالم، الله، النفس )، ميتافيزيك الطبيعة، وميتافيزيك الأخلاق. وحين يأخذ هذه الأفكار المتعلّقة بالميتافيزيك كحالة اختبار، يكون قادراً بالتالي على إظهار أنه ليس ثمة مضامين ميتافيزيكيّة واضحة عديدة للدارونيّة. مع ذلك، ثمّة مضامين فلسفيّة واضحة كثيرة للدارونيّة. هذا بسبب السؤال الفلسفي المركزي، كما يقول كانط، " ما هو الإنسان؟ ". وإذا ما أخذنا هذا السؤال بعين الاعتبار، يصعب على الفلسفة تجاهل دارون. في مقالته التي تحمل عنوان، " في مشكلة التوجّه والهدف في الارتقاء البيولوجي"، يقدّم الفيلسوف الألماني ديتر فاندشنايدر نصّاً هامّاً. يتساءل فاندشنايدر ما إذا كان هنالك ميل نحو تطوّر أعلى في الارتقاء، وإذا كان الأمر كذلك، هل يمكن اعتبار الإنسان هدف الارتقاء. بل يتساءل حول دور الفكر في هذا الميل. وينهي تأملاته بتفكّر في المضامين الأنتروبولوجيّة والميتافيزيكيّة للأجوبة على هذه الأسئلة. يميّز فاندشنايدر بين الارتقاء الأفقي، عمل المحيطات الحيويّة المتاحة، والارتقاء العمودي، إبداع محيطات حيويّة جديدة، ومن ثم يسمّي الأخيرة " الترقّي-الذاتي للطبيعة ". يصوّر هذا " الترقّي-الذاتي " باتجاه تعقيدات أكبر نوعاً معيّناً من التوجهيّة-نحو-هدف متضمنة في البنيان المثالي للارتقاء الداروني. يتضمّن التطوّر باتجاه تعقيد أعلى توجهين مبدئيين أساساً: الإدراك المعرفي والـ self-thematization [ فعل جعل تجربة أو شعور موضوعة تفاعل داخلي ذاتي]. مع ظهور الوعي-الذاتي في البشر، ظهور الفكر البشري، يصبح تطوّر التكنولوجيا ممكناً، فمن ناحية تحرر الإنسان من الكوابح الطبيعيّة، واتخاذه ذاته مرجعيّة في الوقت ذاته. ومن ناحية أخرى تفتح الباب أمام إمكانيّة معارضة الطبيعة. هذا يعطي الثقافة طبيعة ثانية، اصطناعيّة، ناتجة عن انفصال الإنسان عن الطبيعة. هذا ينتج كينونة، إنساناً، حرّاً أساساً من الطبيعة ومن ثم يمكن القول إن الإنسان هو النهاية، تأليه الارتقاء الطبيعي. إنه، بمعنى ما، " تاج الخليقة " ( الاصطفاء الطبيعي هو الخالق هنا). من الآن فصاعداً، يأخذ الاصطفاء الثقافي محلّ الاصطفاء الطبيعي. يصبح الإنسان حيواناً مدجّناً-ذاتيّاً. في هذه النقطة، يمدّ الهيغلي في فاندشنايدر رأسه. فيسأل: " إذا كان هدف الاصطفاء الطبيعي هو ارتقاء الفكر، وإذا كان الفكر هو نفي الطبيعانيّة، أليس إذن هدف الارتقاء الطبيعي هو نفي الطبيعانيّة؟". ووفقاً لفاندشنايدر، هذا حقيقي طبعاً.مع الإنسان كحيوان عاقل، أنتجت الطبيعة كينونة قادرة على مساماة الطبيعة، فهمهما، وتغييرها على أساس من هذا الفهم. يكتب فاندشنايدر، مستشهداً بشلنغ تقريباً: " يمكن القول إنه مع الإنسان، إذا صحّ التعبير، تكسب الطبيعة وعياً من ذاتها". إذا لم يكن ذلك مثالية، ما عساه يكون إذن؟ الفكر البشري ليس فقط غير طبيعي، بل إنه كينونة ما فوق طبيعيّة تمتلك على حد سواء إمكانيّة إكمال الطبيعة والارتقاء بها. تحرّر الإنسان من الطبيعة يتضمن أنتربولوجيّاً أنه قادر على الخطأ، بمعنى أن غرائزه لم تعد تهديه، وعلى الإثم: بفقدان الغريزة، لا يعود السلوك البشري صحيحاً آليّاً. يختار فاندشنايدر الرأي القائل إنّ قوانين الطبيعة تملك شخصيّة مثالية وهذه المثاليّة، هذا المنطق، يشكّل أساس كلّ الكينونات الطبيعيّة. إنّه منطق بحيث نحن البشر قادرون على المعرفة. ثم يصل فاندشنايدر إلى نتيجة مفادها، " أنّ هذا يشير بالكامل إلى أنطولوجيا مثاليّة ( موضوعيّة ) للطبيعة. أذكّركم: موضوعي تعني هنا مثالية من النوع الهيغلي لا البريكلي، الذي له، كما أعتقد، أسباب طيّبة والذي ندين له ربما بمعظم مفهوم الطبيعة الفلسفي المتدبّر به جيداً الذي أوجدته الفلسفة الغربيّة ". الدارونيّة تميط اللثام عن المنطق المحايث للطبيعة، الذي تعتبر الدارونيّة ذاتها نتاجاً له. وهكذا فالدارونيّة والمثاليّة ليستا فقط متناغمتين بل أيضاً مترابطتان جوهريّاً. يتقصّى الهيغلي الألماني فيتوريو هويزله الانسجام بين الدارونيّة والمثاليّة الموضوعيّة ومن ثم يتساءل عن الشخصيّة الطبيعانيّة للدارونيّة. وبالنسبة له، ليس فقط من " الممكن منطقيّاً " أن يكون المرء دارونيّاً وأفلاطونيّاً أو مثاليّاً موضوعيّاً في آن، " بل إنه خيار حكيم " أن تكون كذلك. يرغب هويزله في إظهار أن نظرته إلى العالم المثالية-الموضوعيّة – مستوحاة من هيغل – تتناغم تماماً مع كل ما أخبرتنا به البيولوجيا الارتقائيّة الدارونيّة بشأن العالم الحيّ. ما يفعله في الواقع هنا، هو إظهاره أنه " ما من شيء في الدارونيّة يدحض موقفاً موضوعيّاً-مثاليّاً بالنسبة لأفكار الحقيقي، الخيّر، والجميل". بل يعتقد أنه يمكن للابستمولوجيا والأخلاق والجمال أن تكسب كثيراً عبر تمثل استبصارات نظريّة الارتقاء الدارونيّة، لكنه لا يبدو مقتنعاً أنه يمكن لإبستمولوجيا ( أو علم أخلاق أو علم جمال ) ارتقائيّة، جديدة، أن تحلّ محلّ المفهوم الحقيقي الوحيد لطبيعة الحقيقة والخير والجمال، المثاليّة الموضوعيّة. يمكن للإبستمولوجيا الارتقائية أن تعلّمنا كثيراً حول كيفيّة إحراز المعرفة بالفعل، لكنها لا تساعد كثيراً في الإجابة على السؤال المعياري المتعلّق بسببيّة كون مزاعم-بالحقيقة حقيقيّة. يقول هويزله، مردداً أصداء فاندشنايدر، إن عظمة دارون تكمن في اكتشاف " الميكانيكيّة العقليّة بالذات " للعالم الحيّ" ما بعد المبدأ metaprinciple الذي هو جذر كل التكيّفات العينيّة ". نصل الآن إلى الإبستمولوجيا الارتقائيّة، رغم آراء هويزله آنفة الذكر. ونبدأ بالفيلسوف وعالم البيولوجيا الأمريكي، مايكل ت. غيزلين، الذي يلخّص نظريته الشهيرة بأن الأنواع، المتخيّلة دارونيّاً، هي أفراد ( لا أصناف ). إن الشخصيّة الثوريّة لنظريّة دارون تكمن تحديداً في إظهارها الأهميّة الحاسمة للفرد من أجل فهم ماهيّة الحياة. من وجهة نظر أنطولوجيّة، الأنواع أفراد وهذا يعني أنها لا تمتلك جواهراً. وهذا يعني أيضاً أن " قوانين الطبيعة " لا تنطبق عليها. تلعب القوانين الفيزيائيّة للطبيعة دوراً هامّاً في صيرورة الارتقاء لكن وجود الأنواع وهويتها لا يمكن أن تفسّر غير تاريخيّاً. ينتقد غيزلين الفكرة الحسابيّة، البانغلوزيانيّة Panglossian [ التفاؤل الأعمى أو الساذج ] عند دينّيت، المتعلّقة بالارتقاء التكيّفي بسبب عدم الإقرار بهذه الحقيقة العامّة. ويتهمها بأنها تملك مفهوماً للتكيّف زائفاً، لا تاريخي، كما لو أنه يمكن استنتاج التكيّف من المبادئ أو القوانين العامة تقريباً. بل إن رأياً كهذا لا يعدو كونه غائيّة سريّة. وينتقل غيزلين إلى المجادلة بأن المنظور الداروني للمعرفة، يرفض بحسم المثاليّة والثنوية الصارمة بين الذات والموضوع التي تأتي في أعقاب المثاليّة، لأن الدارونيّة تدمج الذات العارفة بقوة ضمن العالم المادي "الموضوعي ". ويدعو موقفه هذا بالأحدي monistic، وهو ما يتضمّن التأكيد على وحدة الكون ووحدة المعرفة. فهو يكره التعددية – التي يعيد تسميتها بالتوفيقية – في مسائل الفلسفة. وينفر غيزلين على نحو خاص من الكتّاب الذين يواصلون الادعاء بأن الأنواع " مجموعات " على أساس من التفكير المنطقي وحده: " الجهاز المنطقي الذي يعمل كأساس ميتافيزيكي لأبستمولوجيتهم يُعامل كما لو أنه أخبرنا شيئاً عن الأنطولوجيا ". في مقالته التي تحمل عنوان، " الدارونيّة كنظريّة للكينونات المتناهية "، يتأمل مارسيل فيبر موضوعة المكانة النظرية للفرصة – أو الامكانيّة – والجبريّة في نظرية الارتقاء عند دارون. وسؤاله المحوري هو: " هل يستخدم البيولوجيّون مفهوم الاحتماليّة لأنها عناصر إدراكيّة متناهية أو لأن الصيرورة الارتقائيّة احتماليّة أساساً؟ " يجيب فيبر، بعد أن يراجع السياقات الارتقائيّة المختلفة، التي تظهر فيها الفرصة والاحتماليّة، وبعد تخمين نقدي للأوصاف الذرائعيّة ( ألكس روزنبرغ ) والواقعيّة ( روبرت براندسن وسكوت كارسن ) المتعلّقة بالطبيعة الإحصائيّة لنظريّة الارتقاء يقترح من ثم بديلاً من عندياته، يستند على أساس من المعرفة الحاضرة. إن موقفه الأخير في مسألة الجبريّة مقابل اللاجبريّة في الارتقاء هو بالتالي لا أدري. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار لا موثوقيته الأساسيّة، فإن أي وصف للطبيعة الإحصائيّة لنظريّة الارتقاء هو غير كامل بحد ذاته. ولا يمكن لأي تقص ميتافيزيكي إضافي أن يكون مفيداً هنا. فقط الكشوفات التجريبيّة يمكن أن تدفع بنا إلى الأمام في هذه المسألة. بافتراض الجبريّة، علينا الاعتراف أن الطبيعة الإحصائيّة لنظريّة الارتقاء هي انعكاس لحدودنا الإدراكيّة. لكن هذا لا يديننا بالذرائعيّة لأن هنالك تفسيرات موضوعيّة ممكنة للإحتماليّة تنسجم مع الجبريّة. في نهاية المطاف، نظريّة الارتقاء تكشف الطبيعة المتناهية للإدراك البشري في استخدام مفاهيم مثل فرصة واحتماليّة، لكننا لا نعرف بدقة المعني بتلك المفاهيم. بحث ليس أقل أهمية مما سبق، هو ذلك المتعلّّق بموضع الإنسان في المنظور الداروني. يبرز هنا عالم الاجتماع والبيولوجيا، ريتشارد د. ألكسندر. يتحدّث الكسندر مطولاً عن إمكانيّة التفسير البيولوجي لسمات بشريّة على نحو مستفرد، خاصة الفن. فإذا كانت سمات بشريّة مثل السلوك الفني مستفردة في العالم الحي فإن هذا لا يعني أنه ليس لها تفسير بيولوجي ممكن أيضاً. ومنذ دارون فالتفسير البيولوجي تعريفاً هو تفسير اصطفائي. لكن هل من الممكن فعلاً أن النجاح التوالدي، الشيء الأوحد الذي يهم في الارتقاء، هو المبدأ الأوحد الذي تقوم على أساسه كل أنماط السلوك التي تدهش بتعدديتها وغريبة بما لا ينتهي الذي يميّز فردانيّة النوع البشري؟ هل ثمة ارتباط فعلاً بين تحريض توالدي أساسي وبين الكاتدرائيّات ذات السحر الثقافي التي ولدت عبر التاريخ البشري، يسأل ألكسندر. إنه يفكّر على هذا النحو قطعاً. إن ما يحاول إظهاره في تحليله التفصيلي هو أن كلّ الآليّات الانتقائيّة الاجتماعيّة الارتقائيّة، بما في ذلك ما يسمّى بالاصطفاء النيبوتستيك nepotistic [ تعامل تفضيلي أو انحيازي ] والاصطفاء التبادلي والمشترك، ربما تكون " آخر مجموعة هامة من الآليّات المطلوبة لربط سمات معقدة لظواهر ثقافيّة، مثل الفنون، بحياة قائمة على الانتخاب الارتقائي عبر تفضيل النجاح التوالدي ". وألكسندر يعتقد أن المشكلة بالنسبة للتفسير الاجتماعي البيولوجي ليست افتقاد آليّات ممكنة لمقاربة سلوكاتنا الخاصّة بل تجاهل كيفيّة استخدام تلك الآليّات. يهاجم الباحث الأمريكي لنّي موس ما يسمّيه " بالدارونيّة السوقيّة "، وهي نوع من الدارونيّة يصف نوعاً من اللوغاريتميّة الجينيّة – منطق المضاعف ( نتذكر داوكينز ودينيت ) – كأساس للديناميّة الارتقائيّة في حين تنكر أي توسّط للعضويات ذاتها، تماماً كما اعتاد الماركسيون السوقيّون إنكار أهميّة الفعل الفرداني لصالح " القوانين الحديديّة " للماديّة الدياليكتيكيّة مفترضين جدلاً تحكّم مسار التاريخ. ووفقاً للدارونيّة السوقيّة، تحدث عمليتا الارتقاء المركزيّتان، التبدّل والاصطفاء، باستقلاليّة تامة عن العضويّة. ويعتقد أن الجينات وحدها تتصرّف كعناصر فاعلة، في حين تظهر العضويّات كوسائل حمل منفعلة تصوغها الجينات والبيئة ( داوكينز ). يظهر موس أن هذه النظرة التي تدور في محور الجينات غير صحيحة. وحين يفعل موس ذلك، فإنه يقدّم لنا تمييزاً مفيداً للغاية بين نوعين من الجينات، يلعب كل نوع منهما دوراً تفسيريّاً يختلف بالكامل عن النوع الآخر. إن الجين P هو " جين لـ X " ويشير إلى ما يدعوه موس " متنبئ فينوتايب phenotype [ أية سمة قابلة لأن تكون ملحوظة في العضويّة ]". P يرمز إلى " من يؤمن بالتخلّق السبقي [ نظريّة تقول إن كل أعضاء الجنين موجودة مسبقاً في الجرثومة ] لكن بمعنى " كما لو أن "، كما لو انه مسئول، كلّ بذاته، عن إنتاج بعض سمات الفينوتايب X. مثال لهذا هو " الجين المسئول عن العيون الزرقاء "، التي بالطبع لا تتواجد بمعنى معطي عينين زرقاوين مستقلّ بذاته بل فقط كمتتالية دقيقة مطلوبة في الطريق البيوكيميائيّة التي تقود إلى إنتاج العيون البنيّة. إن غياب جين العيون الزرقاء P هذا، المشفّر من أجل صبغي محدد، ينتج عيوناً زرقاء. لكن الجينات D هي متتاليّات جزيئيّة خاصّة تعمل كمصدر تطوّري لكنها غير نهائيّة فيما يخص الفينوتايب. تستخدم D في التفاسير التخلقيّة التعاقبيّة [ نظريّة تقول إن الجنين يتكوّن بسلسلة من التشكّلات المتعاقبة ]، أي، في وصف الطرق البيوكيميائيّة المعقّدة التي تقود إلى الفينوتايب. ويتابع موس ليظهر أن " معنى " التحولات في الـ DNA ليس محدداً بمتتاليّة الـDNA بحد ذاتها بل بالقوة الكامنة للتطوّر التكيّفي في العضويّة، وهو ما يعني، في نهاية الأمر، أن العضويّة ذاتها، لا الجينات، هي التي تحتل " كرسي القيادة الارتقائي". يتحدّث الفيلسوف الألماني بيرنت غرايفرات عن أثر الدارونيّة على تفكيرنا في مسائل الأخلاق والمعياريّة. ويرى غرايفرات أنه في حين يمكن للبيولوجيا الارتقائيّة أن تفسّر السلوك البشري، فهذا لا يعني أنها تبرّر أيضاً ذلك السلوك. هنالك فرق جوهري بين التفسير والتبرير. نحن لا نستطيع أن نتابع من " يكون " إلى " يجب " دون تسويغ إضافي، أي، إذا كان علينا تجنّب ما يدعى " بالمغالطة الطبيعانيّة ". لكن إذا كانت التبريرات قائمة على " البديهيات الأساسيّة "، كما يقول جون رولز، لماذا على تلك البديهيّات أن تكون، في التحليل الأخير، نوعاً من " المشاعر " تسببه الصيرورات الارتقائيّة وهو قابل لأن يفسّر بالتالي عبر البيولوجيا الارتقائيّة؟ إذا أمكن لنا أن نظهر أن ميولنا الأخلاقيّة هي إلى حد ما مشتقة من تركيبة شعوريّة تطورت بالاصطفاء الطبيعي، فلهذا حتماً نتائجه بالنسبة للوضعيّة الأخلاقيّة الخاصّة بها، كما يقول غرايفرات، مستشهداً بجفري مورفي. يستمر الباحث في الحديث عن الدارونيّة أخلاقيّاً فيشير إلى أن الرؤيا الدارونيّة التي تؤكّد على الاستمراريّة بين الإنسان والحيوان يمكن أن تغيّر علاقتنا بالحيوان إلى الأفضل. فإذا كنّا نفكّر بالألم، أو بالقدرة على الإحساس عموماً، كعنصر ذي علاقة بالأخلاق، لماذا ننكر إذاً هذه الصفة الأخلاقيّة على الحيوانات؟ لم لا " نوسّع دائرة " اهتماماتنا الأخلاقيّة على هذا الأساس؟ | |
|