نعود مرّة أخرى إلى قضيّة الكتاب الذي نشره أونفراي عن فرويد والتي أسالت
حبرا كثيرا. ونورد نصّا للمحلّل النّفسيّ ألان فانييهAlain Vanier هو من
آخر ما نشر بفرنسا عن هذا الموضوع، وتكمن طرافته في تركيزه على طابع
المحافظة الأخلاقيّة لأونفراي، رغم أنّه ينتسب إلى الفكر النّيتشويّ ويعتبر
نفسه متمرّدا على الأصنام وعلى القيم السّائدة. فأونفراي بالإضافة إلى
شتّى التّهم والشّتائم السّياسيّة التي يكيلها لفرويد، يتعرّض إلى أمور
تتعلّق بحياته الجنسيّة الخاصّة، بما لا يليق بأيّ مفكّر أو فيلسوف.
اعتذرنا عن نشر بعض المقالات التي تنتصف لميشال أونفراي ضدّ فرويد لأنّها
تردّد أخطاء ومبالغات تاريخيّة وقع فيها أونفراي، ولا تستفيد من ردود
المؤرّخين الموثّقة عليه، ومنها ردّ مؤرّخة التّحليل النّفسيّ أليزابيت
رودينسكو
ولم نستطع نشر أي نصّ له لخلوّ مداخلاته من أيّ محتوى فكريّ، ولخلطه بين
النّقد والنّميمة الثّقافيّة، وبين الفكر والدّعاية الإعلاميّة…
كانت هناك أشهُر مايو أفضل من شهر مايو 2010. والانفعال الذي ساد في شهر
مايو المنصرم بدأ يتضاءل وبدأت تطوى معه صفحة الجدل الذي أثاره كتاب
أونفراي، وهو نيتشويّ قليل الزّاد من نيتشه، هاجم فرويد بالمطرقة اللاّسعة.
النّقاش الفكريّ والإعلاميّ مضى الآن إلى فضاءات أخرى.
قيل كلّ شيء وبطريقة متميّزة على الجهل الحماسيّ الذي كان مبدأ هذا
الكتاب، ولهذه الصّورة التي رسمها عن فرويد، باعتباره يمثّل عند أونفراي
تجسيدا للشّرّ، وللمتعة التي لا حدود لها، ويستحقّ تبعا لذلك
ضربات أخلاقيّة صارمة أراد أن يسدّدها إليه. ما يبقى مدهشا هو الاستناد
الضّمنيّ لكلام أونفراي إلى الإجماع المائع للأخلاق المتمدّنة المعاصرة،
بما أنّ جلب أونفراي لتأييد القرّاء كان باسم الأفكار المسبقة الأكثر
رواجا. فما يدافع عنه أونفراي، وهو يعتقد أنّه يكسر شوكته، هو الخطاب
المهيمن في وجهه الأشدّ ظلمة. ولذلك فإنّ تحيّة الاحترام الفائق الذي
يبديها له أمثال برونو قولنيش-هل يمكن للأفعال أن تتخلّص من عواقبها؟- ليس
من الغريب، بعد الهيجان الحماسيّ المواقع المضادّة للسّاميّة. مسكين نيتشه
مرّة أخرى، نيتشه الذي يفرض على الفيلسوف "أن يضع تحت أقدامه وهم الحكم
الأخلاقيّ". لكنّ "حماقة الأخيار لا قاع لها".
فالسّيّد أونفراي فعلا يريد أن يطلق أحكامه على كلّ شيء، بما في ذلك
ممارستنا للتّحليل النّفسيّ، محتقرا كلّ الذين غيّر التّحليل النّفسيّ
حياتهم، متجاهلا ما لا يمكن الاستغناء عنه من المنهج الذي استنبطه فرويد،
متجاهلا نتائجه حتّى في تغيير النّظرة إلى الأمراض النّفسيّة تغييرا جذريّا
وفي ثورة العلاج النّفسيّ في القرن الماضي، وفي كلّ ما لا تكفّ سياسة
الصّحّة النّفسيّة الحاليّة عن الرّغبة في تقليصه.
السّيّد أونفراي أراد ولا شكّ أن يفكّر بطريقة جيّدة، ولكن يتبيّن في
الأخير أنّه فكّر بطريقة محافظة. أمّا نحن، فلنحافظ على التّفكير السّيء،
وعلى الملعون، وعلى ما يتعثّر، وعلى ما يراد قوله ولا ينقال. هل ينبغي لنا
أن نصاب باليأس، إذا كان التّحليل النّفسيّ ولا يزال يظهر وكأنهّ فضيحة،
وإذا كان يظلّ حجر عثرة، ويظلّ تبعا لذلك عرضا من أعراض ثقافتنا؟