بالطبع لا نستطيع تعدادها كلها فهذا يتطلب مجلدات! ولكن يمكن أن نستعرض بعضها على سبيل الاستئناس والتسلية والمتعة أيضا. وهذا ما فعلته احدى المجلات الفرنسية مؤخرا من خلال عدد خاص وضخم. نحن نعلم أن الفلاسفة الكبار هم وحدهم القادرون على نحت المصطلحات الكبرى أو المقولات العبقرية التي تذهب مثلا وننسى بعدئذ من قالها أو اخترعها. فمثلا أطرح عليكم هذا السؤال فورا: من الذي قال العبارة التالية: لا عبقرية إطلاقا دون حبة جنون؟ قد تقولون نيتشه أو باسكال أو ميشيل فوكو الخ..والجواب الصحيح هو: أرسطو. نعم هذه العبارة معزوة للمعلم الأول أي لأكبر فيلسوف في تاريخ البشرية بحسب رأي ابن رشد.ولكن كاستورياديس قال لي عندما قابلته مطولا في منزله بساحة التروكاديرو بباريس بأن أكبر فيلسوف في التاريخ هو: أفلاطون.على أي حال فان كليهما كبيران وعظيمان. ولولاهما لما كانت الفلسفة العربية المتألقة ولما كان المعلم الثاني الفارابي.هذا ناهيكم عن عبقري العباقرة: ابن سينا.لكن ما معنى العبارة بالضبط؟ هل تعني أن كل العباقرة من أفلاطون وأرسطو الى شكسبير وديكارت وكانط وهيغل وعشرات غيرهم هم مجانين؟ أبدا لا.كل عبقري مجنون ولكن ليس كل مجنون عبقريا.بمعنى أن جرعات الجنون لدى العباقرة ليست ضخمة الى حد القضاء على عقولهم. وذلك على عكس المجانين الحقيقيين الذين تتغلب لديهم جرعات الجنون الى حد الغاء عقولهم تماما.وبالتالي فجرعة صغيرة أو متوسطة من الجنون قد تكون ضرورية جدا بل وتشكل حافزا على الابداع والابتكار العبقري.فالانسان العادي المتوازن تماما لا يمكن أن يكون مبدعا ولا عبقريا لأنه تنقصه جرعة الجنون هذه بالضبط.ولولا هذه الجرعة الجنونية المباركة لما تجرأ العباقرة على اقتحام المخاطر والصعاب وانما لنكصوا على أعقابهم صاغرين تماما كالناس العاديين.بهذا المعنى لا يوجد عبقري واحد بدون جرعة جنون معينة.انها ضرورية من أجل الاقتحام وعدم الخوف من العواقب والمجاهيل.
والآن أطرح عليكم هذا السؤال: من قائل هذه العبارة الشهيرة: المشكلة التي لا تقتلني تقويني؟ حتما تعرفون: إنّه نيتشه.هذه العبارة من شدة انتشارها في كل المجالات وعلى كل الألسنة والأفواه ذهبت مثلا. ولكن ماالذي يقصده نيتشه بالضبط؟ انه يقصد ما يلي: لقد مر صاحبنا بمحن رهيبة وأصيب بأمراض عديدة تفوق الوصف. ولا ننسى أنه عاش تجربة حب هائلة مع تلك اللعوب الفاتنة لو أندريا سالومي وكاد أن ينتحر من أجلها. ولكنه استطاع تجاوز كل ذلك في نهاية المطاف عن طريق كتابة نصوص خالدة يبلى الزمن ولا تبلى. وبالتالي فشكرا للمحن والأهوال! شكرا للمصائب والكوارث والنكبات! شكرا للفشل في الحب! فلولا كل ذلك لما كانت أعاظم الرجال.أما ذلك الشخص الذي تخور عزائمه من أول صدمة أو ينهار من أول نكسة فلا يمكن أن يكون عبقريا.عندما ندرس تاريخ العباقرة على مدار التاريخ نلاحظ لديهم جميعا هذه الصفة: القدرة على اقتحام العراقيل والخطوب والأهوال. فمثلا في هذه اللحظة بالذات أقرأ سيرة شارل ديغول. فماذا أكتشف؟ اكتشفت أنه تعرض لأكثر من عشر محاولات اغتيال حقيقية ونجا منها بأعجوبة. ولم تفزعه ولم ترعبه على الاطلاق. ولم تثنه عن تحقيق مشروعه السياسي الكبير. ومعلوم أنه أنقذ فرنسا مرتين: مرة ابان الحرب العالمية الثانية، ومرة ثانية ابان حرب الجزائر. وفي كلتا الحالتين واجه بكل شجاعة العواصف والزلازل والبراكين. وإلّا لما أصبح أعظم شخصية في تاريخ فرنسا المعاصرة. باختصار شديد: وحدهم أولئك الذين يتغلبون على الأزمات الكبرى والتحديات المستعصية يتحولون فجأة الى جبابرة.
والآن أطرح عليكم هذا السؤال ولا أعتقد مع احترامي لكم أنكم قادرون على معرفة الجواب. من الذي قال هذه العبارة العظيمة المدهشة: صِرْ من أنت! انه نيتشه ما غيره. قد يقول بعضهم وأنا من بينهم: العمى ما أغباه نيتشه! ألست أنا أنا فلماذا ينصحني اذن بأن أصبح أنا؟ ما هذا الهراء؟ ما هذا اللغو والسفسطة؟ ولكن الواقع هو أننا نحن الأغبياء وليس نيتشه. نيتشه فيلسوف عميق جدا على عكسنا نحن الناس السطحيين. وعندما يقول عبارة ما فانه يعرف ما يقول. وأحيانا يلخص بكلمتين أو ثلاثة قارة معرفية بأسرها.في الواقع أن نيتشه يموضع الكينونة داخل منظور الصيرورة.بمعنى لا يكفي أن أولد لكي أصبح أنا. وانما أصبح أنا من خلال الصيرورة: أي من خلال الانخراط في التجارب الحياتية الكبرى ومن خلال معاركة الوجود وكل الأعمال التي أنجزها أو لا أنجزها. وبالتالي فهويتي تتشكل تدريجيا وليست معطاة مسبقا وبشكل جاهز.وهذا يعني أنه من خلال مقارعة الحياة والفشل والنجاح أتوصل الى معرفة من أنا. مثلا نجيب محفوظ كان يعتقد في البداية أنه باحث اجتماعي أو مفكر أو فيلسوف على طريقة عباس محمود العقاد وطه حسين.وقد كتب العديد من البحوث والمقالات الفكرية في البداية. ولكنه اكتشف فجأة أنه يمتلك في داخله طاقة روائية هائلة وعبقرية. وبالتالي ففي البداية لم يكن يعرف من هو.وانما بعد الكثير من المعاناة وتجريب مختلف أنواع الكتابة عرف أنه روائي قبل كل شيء آخر.والكثيرون منا لا يعرفون في البداية من هم. فيضيعون وقتا طويلا في كتابة الشعر مثلا.ولكنهم يكتشفون فيما بعد أنهم لم يخلقوا للشعر أو قل لا يمتلكون الموهبة الشعرية الضرورية.فينصرفون عندئذ الى الترجمة وكتابة المقالات الفكرية. وعندئذ يكتشفون طريقهم ويصبحون “من هم” كما يقول نيتشه.
أنتقل الآن الى عبارة شهيرة من عبارات الفلسفة: كل ما هو عقلاني واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني. حتما تعرفون صاحب المقولة: انه هيغل. انها أشهر من نار على علم. كم حيرت هذه العبارة المثقفين العرب والفرنسيين على حد سواء، وربما الروس والانكليز والأميركان الخ..فماذا قصد هيغل يا ترى؟ فيلسوف ضخم في حجم هيغل لا يلقي الكلام على عواهنه.ولكن كيف يمكن أن نقبل بأن كل ما هو واقعي عقلاني؟ أليست المجازر الطائفية شيئا واقعيا؟ أليست الحروب العالمية شيئا واقعيا؟ أليست الكوارث الطبيعية شيئا واقعيا؟ فهل يمكن أن تكون عقلانية؟ هل ينبغي أن نرضى بها؟ في الواقع أن فلسفة التاريخ لهيغل تبرر كل المجازر وكل الشرور التي تحصل عن طريق القول بأنها ضرورية أو اجبارية لكي تتقدم حركة التاريخ الى الأمام. فالناس لا يتعظون الا بعد أن يدفعوا الثمن من كيسهم كما يقال. فمثلا أوروبا التي عانت من المجازر الطائفية كثيرا في السابق ما عاد بالامكان أن تمارسها لأنها تعقمت منها بها اذا جاز التعبير.كان ينبغي أن تمر بها مرة واحدة لكي تعرف مدى فداحتها ولا تعود تقع بها. ضمن هذا المنظور فان الجنون التراجيدي للتاريخ البشري منطقي وعقلاني ومفهوم ومبرر.وهذا ما ينطبق على تاريخنا في العالم العربي حاليا من سوريا الى العراق الى ليبيا..بمعنى آخر ينبغي أن تمر بالشر لكي تصل الى الخير أو بالأحرى الى خير أكبر. وهذا ما قاله المتنبي: ولا بد دون الشهد من ابر النحل.لماذا لا يمكن للشعوب الأوروبية أن تعود الى العصبيات الطائفية مرة أخرى؟ لأنها جربتها وعانتها واصطلت بحر نارها.ثم لأنها تعلمنت وتعقلنت وتطورت بفعل الحركة التنويرية التي تلت تلك المجازر كرد فعل عليها.لقد شفت أوروبا منها الى الأبد.لا يمكن لكاثوليكي فرنسي أن يحقد على بروتستانتي بعد اليوم لأن ذلك أصبح من مخلفات الماضي ولأن القضية أصبحت محلولة بعد انتصار المسيحية الليبرالية على المسيحية التكفيرية.ولهذا السبب نقول بأنه سوف تظهر قريبا في العالم العربي بل والاسلامي كله حركة تنويرية هائلة كرد فعل على الاخوان المسلمين وكل الحركات الداعشية وغير الداعشية. وهذا يعني أنه لولا الفظائع الرهيبة التي ارتكبتها هذه الحركات المتطرفة لما كانت هناك حاجة ماسة الى انبثاق حركة تنويرية عربية. أنا واثق أنه لولا فظائع داعش التي فاقت الوصف لما تجرأ أحد على طرح الأسئلة الراديكالية الحقيقية على التراث الاسلامي.هكذا تلاحظون أنه حتى داعش فيها فوائد! حتى الشر المطلق له فوائد. أعتذر عن ذلك ولكن أقصد ما أقول.الشر له وظيفة ضخمة في التاريخ. في الواقع أن هيغل كان يعرف أن عبارته المتهورة هذه ستثير الغضب والاستنكار لدى الكثيرين ومن بينهم تلميذه كيركيغارد.ولكن عبارته أعمق مما نظن للوهلة الأولى.فهيغل لا يريد تبرير كل شيء. وهو حتما يكره المجازر والشرور والمآسي الفاجعة التي تحصل في التاريخ البشري ويتمنى لو أنها لم تحصل أبدا. ولكنه بحدسه العبقري الثاقب يعرف أن التاريخ البشري يخضع لقوانين موضوعية تتجاوزنا كأفراد.وينبغي علينا أن نحدق في عين الشر وجها لوجه. وينبغي علينا بشكل خاص أن نستخلص القوانين الموضوعية التي تتحكم بمسيرة التاريخ البشري. وهذا ما فعله في كتابه العبقري: دروس في فلسفة التاريخ، أو العقل في التاريخ.
والآن أتحداكم أن تعرفوا من الذي قال هذه العبارة: الفلسفة الحقيقية هي أن تستهزيء بالفلسفة! انه باسكال ذلك العبقري الآخر الشديد العمق. وهو يقصد بذلك أن الفلسفة تتطلب روحا نقدية مستمرة.والا فسوف نقع فريسة للجمود والدوغمائيات المتحجرة.وهذا ما حصل للشيوعيين مثلا بعد أن اتخذوا الماركسية دينا نهائيا يحل كل شيء ويغني عن كل شيء.وأصلا لولا أن الفيلسوف اللاحق “استهزأ” بمن سبقه، أي نقده وعرف نواقصه، لما حصل أي تطور في تاريخ الفكر. كنا اكتفينا بفلسفة أفلاطون وأرسطو وأغلقنا باب الاجتهاد الى الأبد والسلام عليكم. ولكننا نعلم أنه بعد أرسطو ظهر ديكارت الذي تجاوزه. ثم بعد ديكارت ظهر كانط الذي تجاوز ديكارت.ثم بعد كانط ظهر هيغل الذي تجاوز كانط في بعض النقاط وهكذا دواليك..وعلى هذا النحو يتقدم الفكر وتحصل الكشوفات الجديدة في كل مرة. وبالتالي فالاستهزاء مأخوذ هنا بالمعنى الخلاق والايجابي للكلمة.
والآن اسمحوا لي أن أطرح عليكم هذه الحزورة: من الذي قال هذه العبارة الفلسفية الهائلة: السعادة هي أن نسعد الآخرين؟ انه القديس أوغسطين أحد آباء الكنيسة المسيحية الكبار ان لم يكن أكبرهم. وهو جزائري الأصل من جماعتنا. ومعلوم أنه كان أسقف مدينة عنابة الساحرة عروس البحر الأبيض المتوسط وجوهرة الوجود. متى سأشبع أنا عشقا وغراما؟ متى سأحظى بعروس حلوة من عنابة؟ كل حياتي ذهبت هباء منثورا:
يا ليت حظي من مال ومن ولد
أني أجالس لبنى بالعشيات…
لكن لنكف عن هذه الهلوسات الفارغة التي لا تسمن ولاتغني من جوع ولنعد الى صلب الموضوع. مامعنى عبارة القديس الشهير؟ معنىاها أنك تشعر بسعادة كبيرة عندما تصبح عندك امكانيات كافية لكي تسعد من تحب.فاسعاد من تحب أهم من اسعاد نفسك بالذات. أو قل بأنك تشعر بسعادة عارمة عندما تعرف أن من تحب أصبحوا سعداء بفضلك.انها سعادة ما بعدها سعادة. بل وهناك أغنياء كبار يوزعون المعونات والفلوس على المحتاجين ممن يعرفون أو لا يعرفون ويشعرون بمتعة عظيمة بفعلهم هذا.
والآن سأطرح عليكم حزورة جديدة: من الذي قال هذه العبارة الهائلة التي لا تكاد تصدق: الانتصار على الذات هو أول الانتصارات وأعظمها؟ لايقولها الا فيلسوف عظيم بل وأعظم فيلسوف في التاريخ: انه أفلاطون. وهي تعني ما يلي: الانسان يخوض معركتين من نوعين مختلفين: معركة ضد الخارج أو ضد الخصوم والأعداء، ومعركة ضد الداخل. وهذه الثانية هي، على عكس ما نظن، أصعب المعارك. فمن يستطيع الانتصار على نفسه؟ من يستطيع تغيير عاداته السيئة ونواقصه الشخصية؟ كلنا سجناء هذه العادات والنواقص ولا نستطيع منها فكاكا مهما حاولنا. لنضرب على ذلك مثلا عادة التدخين. من يستطيع أن يتخلص منها الا بشق النفس. نقول ذلك على الرغم من أن المدخن يعلم علم اليقين بأنها قد تسبب له مرض سرطان الرئة الذي قضى على المطرب الفرنسي الشهير مؤخرا: جوني هاليدي. ولهذا السبب قال الشاعر رامبو عبارة مشابهة: المعركة مع الذات أخطر من معارك الرجال. بمعنى أن المعركة مع نفسك أخطر من المعركة الحربية التي قد تخوضها ضد أعدائك في ساح الوغى. والسبب هو أن روحك تكون موحدة عندما تخوض المعركة ضد العدو الخارجي. ولكنها تكون منقسمة على نفسها عندما تخوض المعركة ضد ذاتك. فالعدو يصبح منك وفيك. من يستطيع أن يقاوم الاغراءات والشهوات التي قد تكون مهلكة؟ لهذا السبب يرى أفلاطون أن السيطرة على النفس هي المثال الأعلى الذي يطمح الى تحقيقه كل فيلسوف. الفيلسوف أو الحكيم تعريفا: هو ذلك الشخص الذي يستطيع السيطرة على نفسه. يضاف الى ذلك أن السيطرة على الذات تجعلك قويا جدا وتؤدي في نهاية المطاف الى الانتصار على العدو الخارجي. وذلك لأن الانتصار على الذات، على النواقص الداخلية ونقاط الضعف، يعطيك ثقة بالنفس وقوة هائلة لا تكاد تصدق.أما من لا ينتصر على نفسه فلا يمكن أن ينتصر على أي شيء. ذات الشيء يمكن أن يقال عن الدولة أو المجتمع. فالمجتمع المحصن داخليا والمتراص الصفوف يستطيع أن ينتصر على أعدائه الخارجيين. أما المجتمع الذي تنخره الانقسامات والفتن والحروب الأهلية الطائفية فيمكن لأعدائه الخارجيين أن ينتصروا عليه بكل سهولة. هكذا نلاحظ أن عبارة أفلاطون عميقة فعلا.
أنتقل الآن في رياض الفلسفة الى عبارة أخرى لفيلسوف آخر من نوع آخر. من الذي قال هذه العبارة المدهشة وغير المتوقعة على الاطلاق: الموت لاشيء، أو الموت لا معنى له. انه أبيقور مؤسس الفلسفة الأبيقورية القائمة على حب المتع والملذات. ولكن الخوف من الموت ينغص عيشنا ولا يدعنا نفرح بالوجود أو نستمتع بالحياة. ولهذا السبب فان أبيقور يريد شفاءنا من هذا الخوف أو من هذا القلق القاتل عن طريق القول بأن الموت ليس شيئا يذكر. فعندما يحصل لا نعود نشعر بشيء ولا نعود نتألم من شيء ولا نتعذب. ومادام لم يحصل بعد فلا وجود له على الاطلاق. وبالتالي فلا تعطوا للموت قيمة أكثر مما يستحق. بالمقابل لا ينبغي أن نشمت بموت شخص ما حتى ولو كنا نكرهه كره النجوس. فكلنا على ذات الدرب سائرون. قالت لي احداهن وهي تعتقد أنها تنتقم مني:
“متى سأرقص على قبرك ياهاشم؟ والله سيكون أسعد يوم في حياتي. العمى هلكتنا هلكاً بأركون والتنوير وكانط وفولتير. العمى ذبحتنا ذبحا بثرثراتك وغلاظاتك التي لا تنتهي الا لكي تبدأ من جديد. أوف! أوف! أوف! الحمد لله على السلامة. الآن نستطيع أن نتنفس الصعداء لأول مرة. أخيرا طلعت روحك وانتهى الأمر. أللهم أراح فاستراح. باي، باي أستاذ هاشم. ان شاء الله روحة بلا رجعة”..
قلت لها: هذا أجمل رثاء وأرقى رثاء يمكن أن أحلم به. شكرا لك وألف شكر. لا أريد جو الحزن والكوابيس السوداء بعد رحيلي. أريد الابتهاج والفرح والأمل بالمستقبل الباسم. هذا كل ما أريده. لتنتشر الأفراح اذن في الشوارع والزغاريد احتفالا بانتقالي الى العالم الآخر. والله هذا أجمل وداع.
أنتقل الآن الى مجال آخر أكثر خفة وانشراحا وسعادة وبه أختتم هذه الجولة الطويلة العريضة في رحاب الفلسفة. أنتقل الى مجال أبعد ما يكون عن الموت والرعب والخوف الذي قضينا عليه للتو قضاء مبرما. أسألكم: من الذي قال هذه العبارة: كلما زاد جنوننا زادت سعادتنا؟ لا تعرفون؟ انه ايراسم أمير عصر النهضة الأوروبية. وهو يشبه الى حد ما ما قاله شاعرنا العربي الكبير قيس بن الملوح:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم
ما لذة العيش الا للمجانين
ولكن بيت المجنون أجمل بكثير وله معنى مختلف تماما وأعتذر عن مقارنة كلام ايراسم به. فكلامه أقرب ما يكون بالأحرى الى بيت المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
باختصار شديد فإن المعنى العام هو التالي: كلما زاد علمك زاد غمك. وكلما زاد عقلك زاد همك. لماذا؟ لأنك تدرك عندئذ الأمور على حقيقتها وتعرف كم هي صعبة ومعقدة وعويصة. وعندئذ تحمل الهم والغم على عكس المجنون الذي لا يرى الا السهولة في الحياة والذي يعيش في متاهات الخيال والأحلام الوردية. فهنيئا له. من المعلوم أن ايراسم كان قد ألف كتابا صغيرا بعنوان: ثناء على الجنون. وفيه ينتقد الرهبان والمطارنة والخوارنة بل وحتى البابوات. كل رجال الدين يركز عليهم اللسان السليط للجنون بغية فضح تصرفاتهم التي هي أبعد ما تكون عن المثل العليا للدين. انهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا آخر ويتكالبون على الثروات والوجاهات الدنيوية التي نهى عنها المسيح والانجيل. ثم ينتقد ايراسم الدوغمائيات المتحجرة للاخوان المسيحيين في عصره. وكذلك ينتقد التعصب الأعمى للقرون الوسطى وظلامياتها. ولكنه يضع كل هذه الانتقادات الساخرة بل والجارحة على لسان الجنون لكيلا يتحمل هو أية مسؤولية. فالعملية خطرة جدا وقد تودي بحياته في أي لحظة. نقول ذلك ونحن نعلم أن الأصوليين المسيحيين شنوا عليه هجوما عنيفا وكالوا له بالصاع صاعين عندما وصفوه بأنه مجنون معاد للدين وليسوع المسيح والقديسين الخ.. ولولا عفو الله لأرسلوا اليه أحد المتعصبين المهووسين لطعنه بتهمة الخروج على الدين. ومعلوم أن ايراسم كان من أنصار الاصلاح الديني قبل أن يظهر لوثر. وكان يهدف الى تحقيق المصالحة بين الايمان والعقل أو بين الدين المسيحي والفلسفة اليونانية. كان من أنصار الايمان المستنير أو المستضيء بنور العلم والفلسفة. وهذا ما يرفضه الاخوان المسيحيون لأن الفلسفة في نظرهم وثنية كافرة.