-مقدمة:
من القضايا الأساسية التي يواجهها العلم في أيامنا هذه : هو تحدي الخرافة في جميع مستوياتها التاريخية والاجتماعية والمنهجية، والتي يمكن لأي مراقب لحركة تطور المجتمعات ملاحظتها في سياقات فكرية واجتماعية شتى. وكما هو معروف فإن المنهجية العلمية التي ننعم بإنجازاتها اليوم في شتى الميادين قد تبلورت على مدى أكثر من 300 عام، فمنذ عهد (غاليليه) و(نيوتن) تمت المباشرة في بناء الصرح في البحث والتجريب العلمي، ولقد أسس لهذه الطريقة في التفكير على يدي فرانسيس بيكون مطلع القرن السابع عشر، فكانت الثورة الصناعية في أوروبا، إضافة للمنجزات الإبداعية الصناعية قد مهدت السبيل لتحدي النظرة التقليدية للتفكير، وبعد النقلة التي خاضتها أوروبا في تأسيس العلمانية، والتي دعا من خلالها أباء الكنيسة بعد أن تبين لهم خسارة المعركة تجاه العلم في الميدان المعرفي، إلى فصل الديني عن الاجتماعي، والكف عن ملاحقة المفكرين والعلماء بدعوى الهرطقة والتجديف على الله. لقد أصبح النسق الفكري العلمي منذ تلك الآونة طليقاً فكانت الجمعيات العلمية التي شكلت بدورها تطلع النخب العلمية في تحالفها مع البرجوازية مساهمة في ذلك بإثراء البحث والتجديد الفكري في مجالات متعددة، ولم تعد هولندا فقط هي المقصد لهؤلاء من البحاثة والعلماء، بل أصبحت القارة العجوز أوروبا بأكملها ضالعة في هذا السباق. ودون الدخول لأبعد من ذلك في التأريخ، حيث يبدو جلياً تراجع النظرة الميتافيزيقية أمام المنهجية العلمية، ومنذ تلك اللحظة أصبح العلم سيد الموقف، وليس أدل على ذلك من نظرة (لابلاس) السببية، والتي أثرت في كثير من العلوم، فقد توالى العلماء في البحث عن الأسباب وراء الظاهرات المشاهدة، فكان القانون العلمي بمثابة الركن الأساسي للمعرفة العلمية الحديثة، وقد شجعت التيارات والمدارس الفلسفية منذ أيام ديكارت تلك النظرة، ومع مجيء (كانت) تعضدت النظرة العلمية بالنقد والذي سمح في ما بعد بالنسبة لِـ (هيجل) بتأسيس الفكر الجدلي. لقد ظلت فكرة القانون الهاجس الأساسي لِـ (ماركس) ولغيره من العقلاء والمفكرين.
-القانون العلمي والقانون النفسي:
إن هذا الإحلال أو الاستبدال للغائية الميتافيزيقية بالقانون العلمي كان هو المطلب المُّلح والأكيد في بناء صرح مختلف لا توجد فيه مسلمات غائية مسبقة، أو علل ميتافيزيقية بقدر ما توجد أسباب ونتائج تعضدها التجربة العلمية. لقد دأب العلماء في تدعيم المنهجية والرؤية للعالم بناءً على تلك الطريقة. وعلى وجه العموم يمكن تقسيم بنية القانون العلمي إلى مستويين: أحدهما مستوى نظري، والآخر امبريقي (تجريبي). وفي ذلك فإن (كارناب) يقسم القوانين العلمية إلى فئتين إحداهما نظرية والأخرى تجريبية. القوانين النظرية: هي فروض وصفية وتنبؤية تتمتع بشروط خاصة من حيث البنية الأساسية كالاتساق وقابلية الاستنتاج وأيضاً الاستدلال، وتكون على نمطين فهي إما تركيبية، تشمل مجموعة من الظواهر التي تتواشج وفق علاقة ما، كأن تتحلى شروطها بمجموعة من الحدود الأولية أو ما يسمى الشروط، ويضمن القانون العلمي هنا اتساق البنية الداخلية بحيث يفسر مجموعة الظواهر تلك وفق مجموعة الملاحظات والأرصاد المعطاة. طبعاً يفرض مبدأ الاستقراء البيكوني (فرانسيس بيكون) الحصول على نتائج علمية من الظواهر المعطاة، وبعد عمليات متعددة من الفحص والمقارنة من أجل الحصول على نتائج تتيح الاستقراء، ولا شك أن هذه الطريقة تعرضت للكثير من الانتقاد من قبل المدرسة الوضعية وغيرها، ذلك أن ما يفرض حدود التجربة هو التخمينات العلمية، وما يعطي إمكانية إجرائها هو : اقتراح نظري يقدم فيه العالم طرق اختبار النظرية من قِبله ومن قِبل أعضاء المجتمع العلمي من أجل تفنيد تلك الدعاوى يجب إجراء التحقيق التجريبي بأكثر من طريقة للتأكد من صوابية النظرية، والأخذ بتفسيراتها وتنبؤاتها مأخذ الجد وبشكل صارم. ودون الدخول أبعد من ذلك في السياق الايبستمولوجي (المعرفي)، فما يهمنا هنا هو كيف يجابه القانون العلمي – القانون (النفسي)؟ أي المعرفة الموضوعية في مقابل المعرفة النفسية في مستوييها الذاتوي والجمعي. من هذه النقطة ينفتح لدينا الكثير من النظريات في تفسير الواقع النفسي وارتقائه لمستوى العقيدة (الدوجما Dogma)، ونحن هنا أمام نمطين من الواقع على حد تعبير (يونغ) أحدهما موضوعي (واقعي)، والآخر هو واقع نفسي. ولا يغرب عن البال أن رسوخية الواقع النفسي على المستوى الجمعي أقوى وأعتى بكثير من المعرفة الموضوعية، والأمثلة من تاريخ العلم لا حصر لها، بل وحتى من تاريخ الفلسفة بحد ذاتها التي كانت تشكل الإنتاج العقلي الأرفع والتي أسست لعلم المنطق (الصوري والرمزي)، فنحن هنا بشكل من الأشكال أمام جدلية العقلاني في مواجهة اللاعقلاني. لقد ارتهن العقلاني بحيثية الواقع التجريبي بأكثر أنواع العُرى وثوقية، على العكس من اللاعقلاني فقد كان الجانب المظلم والداخلي من المعرفة الإنسانية، إننا هنا أمام قطبين أحدهما إيجابٌ وفعل، والآخر سلبٌ ونفي. وما بينهما من قوة توتر يجد الإنسان فيها فضاءً من الاحتمالات والوجود. ولا يغرب عن البال المساهمة المهمة لعلم نفس الأعماق في تحليل ذلك البعد وتلك العوالم التي وجد فيها الإنسان واقعاً مليئاً بالخيالات والصور والانطباعات وهو الأكثر حرية وتلوناً. إن الإغراء الناتج عن طرق التفسير والتأويل نفسية المنشأ تضمن في نسيجها الخبرة البشرية للفرد في مستواها النفسي وأيضاً خبرات الجماعة (يونغ).
-الحقيقة السحريّة:
ترتدي القوى في العالم الطبيعي البدائي هالات سحرية أخاذة وهي فائقة في انجازاتها حاضرة بكيانها الطقسي على الدوام لدى البدائي، ووجودها بهذا المعنى هو وجود بالفعل، ذلك أن الإنسان هو من أسند الدور لها ومجد سحرها وقوتها، ففي تلك الأزمنة السحيقة لم يتخط الإنسان كثيراً عتبة التفوق والسيطرة، وهو يحاول جاهداً استرضاءها والحصول على عونها في البقاء والنجاة من الأخطار، وهي بذلك أي تلك القوى قد امتلكت وظيفة نفسية وبذات الوقت اقتصادية، وما صور الفتش Fitch الأولى والطقوس الطوطمية Totem إلا طريقة طبيعية في محاولة البناء والبقاء وصيانة الذات والجماعة أمام قوى الطبيعة الطائشة. أمام هذه الحالة نكاد لا نستطيع أن نميز العقلاني عن اللاعقلاني، لنقل أنها كانت المحاولات الأولى للعقلنة بشكل من الأشكال، لقد كان الإنسان وقد امتلك أدوات الصيد المجهزة جيداً، وأنشأ الجماعات الأولى واكتشف النار وقام بالزراعة وأشاد المستوطنات الأولى، وقد غدت الثقافة منذ تلك الآونة هي سيدة الموقف وهي المسؤولة عن درجة تمايز أفراد الجماعة، فالساحر والطبيب والعارف قد اندمجوا في شخصية واحدة. يخبرنا الشامان مثلاً كيف لنا أن نتصرف أمام الأخطار وكيف نستجلب المطر وكيف يطرد الروح المسببة للمرض وفق حالات سرانية يقوم بها وطقوس محاكية لتلك القوى. وما هذه الحيازة في التأثير على القوى إلا لأنه قد امتلك قناع (البرسونا Persona) كما يسميها (يونغ) لهذه القوى وكان بذلك صلة الوصل بين الناسوت واللاهوت. يمكننا عند هذه المرحلة رؤية تصور الإنسان عن الوجود في مستويين، أحدهما واقعي حياتي دنيوي، والآخر قدسي ومفارق. سنتوقف هنا قليلاً عند ثيمة الساحر، حيث نجد أن هذه الشخصية لعبت دوراً كبيراً في معظم الديانات، وكانت ذات تأثير كبير في بنية الأساطير ، ولم تنسحب تماماً حتى في الديانات الشرق أوسطية، بل تم النظر إليها على أنها ممثلة لقوى الشر والدمار، وهي مغلفة بهالة تمتزج فيها الأعجوبة مع الخوف، فالخوارق التي يقوم بها الساحر تخلق انطباعاً مزدوجاً من ثنائية المشاعر بين الإبهار والخوف، ويمكننا الفهم على اعتبار أن الأفعال السحرية التي تخرق القانون الطبيعي مخيفة حيث أنها تهدد بنيان المعرفة والخبرة البشرية بنوع مختلف من القدرة فوق الطبيعية ما يتأدى عنه حالة من الانبهار والتعجب الممتزج بذلك النوع من الخوف المدهش، وطالما بقي هذا التأثير السحري، فإن المتلقي أصبح رهين الحقيقة المتولدة عن هذا العمل. ولا يغرب عن البال أن مبدأ الحس العام أو المشترك يكون في هذه الحالة أشد ارتباطاً وتوتراً من خلال الفعل السحري. لا بل وأكثر من ذلك فإن الحقيقة السحرية إذا شئنا التعبير غدت منذ هذه اللحظة مبدأً للمعرفة والحس. والسبب في ذلك هو التفوق الملاحظ لسيرورة القوى الطبيعية، ولكثافة الحضور السحري في تفسير الحقيقة الواقعية، وما يجري هو عملية إبدال عقلية للحقيقة السحرية بالحقيقة الواقعية بسبب تماهي الشخصية السحرية مع الثيمة القدسية. فالجَرحُ في معنى هذه الحقيقة هو من أشد الموبقات على المستوى الجمعي.
وفق ما تقدم نلاحظ أن المعارف السحرية هي معارف قدسية. لكن الأساسي هنا كيف يمكن خداع التجربة الحسية العقلية وبشكل مستمر مع تنامي وتراكم الخبرات الحياتية؟… يمكننا القول أن الخبرات الدينية قد دعمت هذا النوع من المعرفة فقد استمدت منه سلطانها وفق أحوال محددة. جميعنا يعلم أن صغار السن والبسطاء هم الأشد تأثراً وأكثر قابلية للإيحاء من باقي الأفراد. سنحاول المضي أبعد لمعرفة سر عملية إبدال المعرفة الحسية العقلية بالمعرفة السحرية.
من المعلوم أن الخبرة البشرية في مبتداها كانت مليئة بالتجارب الفاشلة إلى أن نجح أحدهم مرة سواءً في اكتشاف النار أو في صناعة الأدوات من أجل الصيد أو الهروب من الضواري وإعداد خطط من أجل حيازة الحيوانات وحتى في ابتكار الزراعة في ما بعد، المهم هنا أن الأفراد الذين تمكنوا من النجاح نهاية المطاف قد ساعدوا بنقل تلك الخبرة إلى الآخرين بشكل مباشر وغير مباشر، حتى تتمكن الجماعة من تحقيق الغرض المطلوب من أجل البقاء. وبذلك كانت تتنافس الجماعات البدائية في تحسين شروط بقائها وتكيفها وفق البيئات التي عايشتها، ولا يغرب عن البال أن مجموعة محددة من الحيوانات قد تفردت بالمكانة عن غيرها لدى صيدها واستئناسها، وشكلت في ما بعد رمزاً طوطمياً قدسياً، لقد حاز الأفراد الذين (جسّدوا) روح الطوطم بمكانة فريدة لدى العشيرة، ومنذ تلك اللحظة كانت القوى الطبيعية يمثلها الطوطم رمزاً لقوى الطبيعة القدسية.
-فخّ التناقض:
على ما تقدم يظل السؤال المهم.. ما هي الآليات التي يصبح بمقتضاها الفكر واقعاً في ظل التناقض الصارخ بين ما تمثله التجربة من خبرة يمكن بواسطتها تحليلها تحليلاً منطقياً، وبين مصادرة تلك المعرفة التجريبية أو توقيفها لحساب المعتقد ذي المنشأ النفسي؟..
لقد رأينا كيف أن المعرفة السحرية تمتلك أسانيد نفسية تعزز بقائها وتصونها من عبث الدخلاء وتغدو مركزية بالنسبة للفهم العام، وفي المقابل من الناحية العقلية وبالنسبة لبعض الأفراد فإن سوق الجميع لمستوى واحد وموحَد من الفهم والإيمان يغدو عسيراً وصعباً. لذلك وفي هذا المقام فإن بذور التمرد العقلي لابد ستبرز بسبب من بعض المقولات والسيرورات العقلية. إن الموضوعة الأهم هنا هي: الفهم، وكيف تحدث تلك الأشياء (الأفعال السحرية) وبمستوى فائق من التناقض الحسي، أشرنا سلفاً إلى مبدأ الحس العام أو المشترك، والذي كان مصادراً بصورة ما من قِبل فئة معينة تملك فهماً وتفسيراً محدداً وغائياً، وليس فهماً تحليلاً وسببياً (المستوى التجريبي- الامبريقي)، ففي طريقة التفكير التحليلية، والتي تعتمد بطريقة مبدئية على الصور ومن ثم الرموز، حيث لابد من فهم السلسلة من مبتداها إلى نهايتها، وما يتولد عن كل فئة من الأحداث، بطريقة تسمح للعقل بممارسة الاستقراء والتنبؤ، حيث لا يمكننا السير قدماً في هذا الطريق دون تحطيم التقليد الفكري والقوالب الدوغمائية للمعرفة البشرية، فنحن هنا أمام احتمالات متعددة تتطلب منا فحصاً وتجريباً، وفي ذلك فإن غزارة الملاحظات الخبروية وتعدد أنماط ظهورها، وتوسع وظائف المجتمع من ناحية أخرى، حيث تعددت الفئات وتطورت الوسائل الناظمة للمجتمع، ولا نلحظ ذلك إلا في الفترات التي بدأت فيها الحضارة والكتابة، وأخذ الإنسان يبني المدن ويصنع الفخار ويبدع الأساطير الأولى. وكما أشرنا إن ضرورة الفهم تمنح العقل رؤية عالم مختلف عن نهج الخرافة، وتعزز الوثوقية بالذات وتدفع بالتجربة الإنسانية قدماً نحو الأمام.
وكما أشرنا آنفاً إلى مسألة التناقض الحسي، فكيف يرتطم الوعي بالتناقض؟.. إن ذلك لا يحدث إلا إذا تولد انطباع مبدأي بتعدد احتمالات الخبرة لدى الوعي، حيث أننا نسعى أولاً نحو المطابقة بين الأشكال والصور، فكل منها في المخزون العقلي يملك صورة ما، لكن هل في ذهني صورة مسبقة عن هذه الكأس التي أمامي؟.. ويجب أن نلاحظ أن صورة هذه الكأس لا تنطبع في الدماغ وفق الصورة البصرية، بل أيضاً ما تنقله الحواس الأخرى إلى الدماغ، من إحساسات اللمس والضغط والحرارة والوزن، ومن الوجهة المبدئية تكفي الصورة البصرية في تعرّف الكأس، بينما لا تكفي بدقة الإحساسات الأخرى في توكيد حالة الكأس بدقة مطلقة. فإذا ما رأى الإنسان كأساً سيتبادر إلى ذهنه على الفور كلمة كأس بنحو لا شعوري وما يرتبط بهذه الصورة من خبرات حسية أخرى وذلك وفق متوالية وتتابع رمزي وخبروي محدد. وبنفس الطريقة فإن إحدى الخبرات الأخرى عند تحريضها سوف تثار من خلالها صورة الكأس في الدماغ سواءً بشكل واع أم غير واع، مع الاعتبار أن الوعي هنا هو التالي واللاحق بالنسبة للاوعي، وهذا ما وضحته البحوث التجريبية في التصوير الوظيفي للدماغ، وفي تجارب الوعي الأخيرة التي عضدتها تجارب (لامبيرت) وَ(هاميروف) وسواهم. ويجب أن نعلم أن خبرة الكأس إذا ما تأكدت بأكثر من طريق حسي لدى الدماغ أصبح لها موثوقية، وكانت نابضة وحية. يجب ألا يغرب عن البال أن الإدراك اللغوي والأداء الفينومي (الصوتي) ذوا ارتباط بصورة الكأس، ويمكن ملاحظة ذلك عندما نبدأ بتعليم الأطفال بالصور مصحوباً بالتعبير الصوتي والشكل الكتابي لصورة الكأس. إننا نعرض الصور ونعرض مرادفها الصوتي، وبالتالي فنحن نرسي الدعائم الأولى لما يسمى: (الدال والمدلول)، يمكن من بعد هذا المستوى تقفي نظرية القواعد المولِّدة للغة (تشومسكي)، وسيستطيع الطفل في ما بعد تشكيل الجمل متقطعة ومن ثم سيُنشأ روابط في ما بينها، لتصبح تلك الجمل يربطها منطق الحدث، فهو أخذ بالتدرب ومعرفة التسلسل الزمني بين الماضي والحاضر والمستقبل، لقد باشر للتو تحديد منطقته الذاتية، أي الأنا، وسيصار تالياً لأن تخوض تلك الأنا دفاعات تجاه العالم الواقعي من أجل أن تحتوي الواقع المتجدد ومتطلبات النظام الاجتماعي والأبوي متمثلة بالسلطة الاجتماعية والأخلاقية للأنا الأعلى. إن النمو النفسي والنمو اللغوي متواشجان ويؤثر كل منهما في الآخر وفق علاقة الدال والمدلول، وليس أدل على ذلك من أن ارتقاء الثقافة لدى الإنسان، يعني ارتقاءً في طبيعة وكثافة البنية الرمزية لكل من اللغة وشتى أنواع التعبير الأخرى، حيث تتكثف وتتحد أحياناً مجموعة من المدلولات في رمز أو دال واحد، فمثلاً يمثل الثور المقدس مجموعة من القوى والغرائز المرتبطة بالخصب وقوى الذكورة والفعالية النفسية الايجابية، وهكذا دواليك. إن التركيبات الوجدانية والغرائزية تتنمط وفق علاقات توترية مختلفة الشدة والنوعية، وهكذا شيئاً فشيئاً تنمو النفس وتنضج عبر مسيرة الإنسان التطورية، وتأخذ الثقافة من هنا فصاعداً زمام المبادرة ممثلة بالإنتاج اللغوي والفني نحو أماكن أبعد من الخيال . لقد أصبح لدى الإنسان إرثٌ ثقافيٌّ غنيٌّ تتناقله الأجيال عبر مروياتها من الأساطير والملاحم عن القوى في الطبيعة، وشرع كما أسلفنا في إقامة علاقة بين الناسوت واللاهوت، وسيغدو التحدي التالي هو تحدي الابتكار والصنع، وسيعلن أن بمقدوره محاكاة موجودات الطبيعة، وسيحاول جاهداً أن يقول أنه السيد على هذا الكوكب. لقد أنعتق عن مجاله الحيوي مع الطبيعة وتعرف ذاته المستقلة عن العالم وأصبح نتاجه نتاجاً يعبر عن ذاته، وهو بهذا سيغدو مغترباً وأصيلاً بالوقت نفسه.
-التّوالد:
علمنا في ما سبق أن الذهن قد أرسى الدعائم الأولى للتفكير، وانشأ مركبات منطقية وتفهم بعض القضايا المنطقية الأساسية، لقد تأسس الكيان لدى الإنسان باعتباره أي الإنسان وعقله بالتحديد صورة العقل الكوني، ولقد أصبح لديه حكاية يرويها عن أصل الوجود وعن نفسه، وأكثر ما يميز تلك الحكاية هو علاقة التوالد، لاشك أن المركبات الجنسية مليئة بالصور المولدة في أساطير الخلق الأولى، وذلك على أبسط صورة للفهم قد حصل نتيجة الخبرة البشرية في التوالد وتكاثر أفراد العشيرة البدائية، يمكن الفهم أيضاً أن التقاء قوتين متعاكستين في الشدة وموحدتين في الاتجاه يتولد عنهما شيء جديد، وهنا يحصل الالتقاء بين هذه المتضادات لينتج عنهما : فرد أو صنع جديد، وأيضاً فكرة جديدة لا تلبث أن تتأكد بالخبرة البشرية، وهذا ما يحدث نتيجة خبرة التوالد، ففي البداية لابد من خبرة حسية عيانية مع العالم المحيط، إن المزج والدمج لعنصرين متضادين لابد له من قوة ما باستطاعتها إبقاء هذا الترابط ساري المفعول، وبذلك فإن الوجود لهذه الحالة هو وجود متحقق بواسطة القوة، والعكس صحيح، هذا ربما ما ينسبه العقل للظاهرة حتى يصبح لديه فاعلية سببية منطقية، كذلك فإن حلّ هذا الترابط يحتاج أيضاً إلى القوة، وبهذا الشكل يألف الدماغ والفكر خاصة موضوعة كهذه، وتمسي لديه نتيجة طبيعية، وأمراً مألوفاً. وهنا يمكن لنا أن نرى أن من التوالد كظاهرة طبيعية استنتج العقل مفعول القوة وظاهرة الضد. وبالتالي سوف ينشأ الدماغ والعقل في سيروراته مجموعة من المتقابلات والأضداد التي سوف تجتمع في أنساق متقابلة وذلك بصورة لاشعورية وغير مفهومة من جهة الوعي في بادئ الأمر. لقد أصبح للعقل إمكانية توليد أفكار ونتائج من مجموعة من الأفكار الأخرى والظواهر، وسوف يسعى في ما بعد إلى البحث عن التصنيف الفئوي، وذلك ما نلحظه جلياً في بدايات التفكير الميثولوجي في اليونان القديمة، وسوف يتعمق هذا الإرث من التصنيف الفئوي لمنظومات التفكير لدى الإنسان في اليونان، وهو ما يبدو جلياً وواضحاً في المدارس الفلسفية اليونانية القديمة، ويمكن اعتبار ذلك سمة أساسية لمنظومة التفكير التي ورثناها عن اليونان، حيث كان البحث الأولي عن الأسباب والعلل، ولا يغرب عن البال هنا التأثير المشرقي لبابل وسومر والمجموعة الميثولوجية والتراث العلمي لبلاد الرافدين، يمكن ملاحظته بجلاء في قصة الخلق السومرية، والعلوم الخاصة بالهندسة والفلك -الحساب ونظام العد الستيني البابلي. على أية حال الاستطراد في هذا المجال قد تبين بمجموعة من الدراسات التاريخية والأركيولوجية. ولا يغرب عن البال أن المدارس الفكرية والفلسفية في الشرق الأقصى قد ذهبت في اتجاه آخر، فهي قد نظرت من زاوية مختلفة، فكانت الأضداد لديها أكثر ثباتاً، فهي لا تتماهى ببعضها ولا تستبدل أحدها بالآخر، بل تجتمع في نسق واحد وفق علاقة تؤسسها الوحدة، حيث تعتبر تلك الأضداد الظاهر من فعالية الوجود، وينظر إلى كلا الطرفين من الأضداد، الليل والنهار أو النور والظلمة – الخير والشر – الوجود والعدم .. إلخ، ليس نظرة سببية بمقدار ما هي وحدة تتراءى للعارف يفهم من خلالها بشكل لا منطوق الوحدة الكونية. في هذا الفلسفة تغيب الفعالية التوليدية السببية وتظهر التناقضات كأضداد فاعلة في الوجود الإنساني. وإذا كان التوالد هنا مخصوصا بانبعاث نتائج جديدة، فهو أيضاً والحال كهذه سوف يفضي إلى مشكلات جديدة خاصة في ما استجد على الفهم بالنسبة للظاهرة، ويمكننا تبسيط المسألة على النحو التالي فنقول : إن كل الظاهرات تطرح إشكاليات عند التصدي لحلها أو تفسيرها وإزالة وجه التناقض البادي فيها بالنسبة للحس. إن محاولة الفهم تجعلنا نتصور تفسيراً ما، ولب القضية يقع عند هذه النقطة، فهنا ينفتح العقل على عالم الموجودات، وعلى كم هائل من الاحتمالات المتغايرة، وكل منها يتطلب رؤية مختلفة، وعندما تتصادم أو (تتنافس) هذه التفسيرات فإنها لابد أن تحظى بحظوظ متساوية من إمكانيات التبرير (يمكن الاستفاضة في ذلك بالرجوع لكتاب منطق الكشف العلمي، تأليف : كارل بوبر)، وكل إمكانية تحتاج حتى تتقوى تجاه أقرانها إلى مجموعة من التحقيقات التجريبية، حيث أن النظرية الجديدة تحتاج الإثبات التجريبي على الدوام في مرحلة صعودها في التفسير، وهي بهذا المعنى لابد أن تكون قابلة للتكذيب، وبقدر ما تصمد أمام قابلية التكذيب فإنها تكتسب وجوداً أعمق بالنسبة للحقيقة العلمية. ويمكن القول كما وصف (بوبر) بأن النهج العلمي لابد أن يمر بسلسلة مشكلات – نظريات – تفنيد النظريات وانتقادها – مشكلات جديدة. وهكذا نجد أنفسنا في البداية أمام مشكلات الظاهرة ورويداً رويداً فسوف ننتج مشكلات جديدة بمحاولة تفسيرها وتفنيدها أمام النظريات الأخرى. وهذا يقتضي أن الطريقة العلمية في تصور الحقيقة هو البحث عن المشكلات وإنتاجها من جديد وفق صياغة معرفية مختلفة في كل مرة، وهذا ما يسمح بتوسع الأفق المعرفي أمام الباحثين عن تفسيرات جديدة وحقائق جديدة.
-أسس المنهج العلمي:
إذا كان العلم اليوم هو المعني إلى درجة بالغة بتفسير الحقائق والظواهر الطبيعية، فإن ذلك يظهر كنتيجة مباشرة لِما يسمى النظرة العلمية. وعليه فإن العقل الإنساني يطمح إلى تسديد هذه النظرة على كل ما من شأنه تفسير ما يحدث من حولنا وفي الكون. لكن ماذا نقصد بالتفسير العلمي؟
الجواب على هذا السؤال يحيلنا إلى أشهر قضية شغلت بال العامة والعلماء منذ القرن الخامس عشر إلى القرن السابع عشر الميلادي. وذلك عندما أطاح (نيكولاس كوبرنيكوس 1473-1543 ) بنظام (بطليموس) في كتابه المجسطي (170-100ق.م) والذي ينص على أن الأرض هي مركز الكون. لقد كانت نظرة التفسير التي قدمها (كوبرنيكوس) هامة جداً، ذلك لأنه يشرح أيضاً دوران السماء الظاهري، وتجوال الشمس السنوي خلال دائرة البروج، إضافة إلى النظرة الأهم بأن الشمس هي مركز ما نسميها اليوم المجموعة الشمسية. ورغم احتفاظ (كوبرنيكوس) في نظامه الشمسي بأفلاك التدوير الدائرية للكواكب المشتقة من نظام بطليموس، إلا أنه وضع علامة فارقة في جوهر النظرة العلمية. لقد استطاعت نظريته البحث عن سبب آخر لتفسير الظواهر الطبيعية بدلاً من التفسير الذاتي. وهذا ما تجذر حدوثه فيما بعد مع كل من (يوهانس كبلر 1571-1630 ) الذي رأى أن الكواكب تسلك في مسارها حول الشمس مساراً اهليليجياً (قطع ناقص) بدلاً من المسارات الدائرية. ومع مجيء (غاليليه 1564-1642) تم التأكيد على النظام الكوبرنيكي من خلال اكتشاف أقمار المشتري الأربعة. إن المحاكمة التي لقيها غاليليو لم تكن فقط جزاءً على ما اكتشفه، بل لأنه أشاد نظرة جديدة إلى الكون أكدت أن التفسير المستند على مبدأ الحس العام والنظرة الذاتية قد تكون خاطئة إلى حد كبير، فكل ما تراه أعيننا وما نحس به قد يكون مغلوطاً إذا بنينا عليه استنتاجاتنا بدل أن ننظر بعين العقل. وهذا ما أثار حفيظة محاكم التفتيش في روما. وعليه فإن النظرة الموضوعية بانت على أنها النقيض المنطقي للنظرة الذاتية. لقد كان لذلك أثر عميق في مسيرة المنهج العلمي في ما بعد. فبعد أن كانت الأرض ساكنة لا تتحرك في الفضاء الكوني أصبحت تدور حول الشمس في سنة كاملة. ولقد امتدت هذه النظرة لتشمل ما جاء به (نيوتن 1642-1727) في قوانينه الثلاث عن الحركة، وليوطد الدعائم الأولى لمبدأ السببية في أن الظواهر محكومة بمجموعة من الأسباب البدئية، والتي تختص القوانين الرياضية بمعرفة طريقة انتظامها في العالم الطبيعي.
وحتى نستطيع التأكد بأن تفسيرنا للظاهرة يسير على نحو علمي، فلابد من إتباع مجموعة من الخطوات يوجزها (ارنست ماير) كما يلي:
أولاً: يلاحظ العلماء ما يجري في الطبيعة من دون تدخل، ويسجلون من المشاهدات التي يستعصي تفسيرها على النظريات الأخرى.
ثانياً: يسأل الباحث نفسه عن هذه الملاحظات “لماذا؟ ” و”كيف؟”.
ثالثاً: يمكن صياغة مجموعة من الفروض للإجابة عن السؤالين السابقين.
رابعاً: يتم اختبار الفروض المقدمة للحكم على مدى صحتها.
خامساً: الفرض الذي يجتاز أكبر عدد ممكن من الاختبارات، هو الذي يعتد به في النهاية من أجل تفسير الظاهرة التي سجلها الباحث.
إنّ العلماء عندما يجتهدون في تفسير ظاهرة ما يسعون بكل الطرق الممكنة من أجل التحقق منها تجريبياً (إمبريقياً) وهم بذلك يتطلعون إلى أن تصبح هذه الفرضيات في مقام النظريات الأكثر شمولاً، والتي تحقق تنبؤات وأسئلة أخرى جديدة يراد منها توسيع أفق النظرة الإنسانية إلى العالم.