هذا الخوف الحزين
عزت القمحاوي
2011-06-10
كل الكوابيس تخيف النائمين، لكن الكابوس الأسوأ الذي
يمكن أن يذل كل من يضع رأسه على مخدة، هو كابوس التعرض للمطاردة والعجز عن
الفرار.
يرى النائم أن مجرما أو عصابة تطارده ويجرب الجري، لكنه لا يستطيع بالطبع لأنه نائم ولأن سريره أصغر من كوكب الأمير الصغير.
في
هذا الكابوس بالذات يجتمع على الحالم الفزع من المجرمين والحزن لاكتشاف
علة بدنه؛ فهو إن نجا من القتل سيعيش مشلولاً. ومثلما يجمع هذا الكابوس
بين الألمين؛ فإن من يستيقظ منه يعيش فرحتين: فرحة بالعتق من المجرمين
وفرحة بأنه لم يعد قعيدا.
الكابوس التقليدي السخيف كان قدر كل الشعوب
العربية. اجتمعت عليها مطاردة المجرمين والشك في قواها الذاتية، بسبب
الخوف الناشىء عن الجهل والغباوة، فيما يقول الكواكبي. وعندما استفاقت
الشعوب وعرفت حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، زالت بعض الأنظمة وبعضها
ينتظر، لكن اليقظة التي بددت خوف هذا الشعب أو ذاك من العصابة لم ترفع عنه
حزن الشلل.
لم تزل سيقان الثورتين اللتين نجحتا (التونسية والمصرية)
مثل أكياس من الرمل؛ خطوة ونصف للأمام وخطوة إلى الخلف. وهذا أفضل قليلاً
من وضع المستنيم لعصف الكابوس، لكن بالنتيجة: ليس لثوراتنا ألق الثورات.
وكأن عزتنا تشبه استعبادنا؛ كأن الحزن قدر.
' ' '
أجمل
ما شهدته حقبة عربية تحت التقويض، هو النضج المثير للفخر الذي وصــــــلت
إليه الشعوب في مقـــــابل انحطـــــاط نظم الحكم في بلادها (ونظـــــم
الحكم تشمل أحزاب المعارضة الصورية أيضا) وقد أثبتت القبائل في اليمن
وسورية انها أنضج من الأحزاب والجماعات التي يقال لها معارضة، وكنا نصف
القبلية بأنها أسوأ الأمراض الفتاكة بالديمقراطية.
هرمنا نعم، لكننا نضجنا كفخار استوى على مهل.
في التسعينيات من القرن العشرين اكتشف كثير من الشباب أن الجنة أحلى من
الدنيا فتلقفتهم القاعدة، ولكن شباب الألفية الجديدة اكتشفوا أن تعرية
صدورهم للرصاص أكرم من الاستسلام كالنعاج تحت سكين الجزار.
في مصر ـ
بلدي التي أعرفها بالمعاينة بينما أعرف غيرها بالخبر ـ كنا نموت بلا سبب.
ضحايا الطرق الفاسدة خمسة وأربعون ألف قتيل سنوياً عدا العجز والعاهات
المستديمة، ضحايا سرطنة الأطعمة والأشربة بلا عدد، ضحايا الاختفاء والقتل
في أقسام الشرطة بلا توثيق.
شخصيا سرت في جنازات أكثر مما قرأت أو كتبت أو سبحت في نهرنا الملوث؛ فلماذا لا يموت منا ألف في ساحات الكرامة؟
الأمر
نفسه يقال عن موت الفحول السوريين بعزة فحولتهم، بدلاً من الإخصاء الذي
تعرض له بلد من أجمل بلاد الدنيا، وما قطع عضو الصبي المغدور إلا التطبيق
العملي الصريح لأيديولوجيا الإخصاء التي مارسها ذلك النظام. كنا نجلس في
مقاهي القاهرة على بعد ألف كيلو متر من دمشق، وكان الكاتب السوري يخفض من
صوته عندما يتحدث عن أزمة البندورة في سورية، ولم تزل فئة الكتاب للأسف،
هي الأكثر إخصاءً بين السوريين، والبركة في الشباب. وما خابت ثورة في بلد
اكتشف شبابه أن الكرامة أغلى من الحياة.
ولكن لشديد الأسف، سننتظر
تنشيف حمامات الدم في ليبيا وسورية واليمن، لكي لا نفرح فرحة الصاحي من
كابوس المطاردة، بل نصف فرحة كالتي عند المصريين والتونسيين الآن.
وهذا هو قدر ثوراتنا، ومصدر قوتها وضعفها.
' ' '
ليست
ثورات الشباب سوى المحاكاة التلقائية لشبكات الفضاء الافتراضي؛ فكل جهاز
كمبيوتر في الشبكة العنكبوتية جزء منا، وهذا ما رفع الثورات فوق التنظير
والفردية وجعلها تنجز مهمتها الأولى، لكن ضعفها في عدم وجود رأس واحد
يتسلم السلطة ويقر مطالب الثوار، بعد أن تطيح بنظام مكون من شبكة واحدة
شديدة التماسك، قوتها في رعبها مما ارتكبت سابقا وما ارتكبت أثناء
المواجهة.
هذا هو المأزق الذي تعانيه مصر وتونس الآن، القوى القديمة
تستميت في اختراع الأقنعة التي تضعها مجدداً على كراسي الحكم. وهذا هو
السبب القوي لبقاء الشباب في ميادين التحرير.
الحكم الجديد يعتمد
تقنية 'الحوار' والكلمة يعرفها الثوار جيدا، ولا يحتاج المرء إلى ذاكرة
قوية، لكي يدرك ملعوب طحن الكلام داخل قاعات لا تمثل أحدا، وقد اخترع هذا
الأسلوب من التسويف ـ باقتدار ـ قواد حقيقي شغل مناصب مرموقة في النظام
المصري البائد؛ فليست مصادفة أن يبدأ الحوار في مصر التي تحررت في ذات
التوقيت مع الحوار في سورية التي لم تتحرر. نقطة واحدة تفرق بين الحوارين
وهي أن الحوار المصري باليدين بينما السوري: يد تقتل ويد تفتح قاعة للحوار.
مصر
ـ التي أعرفها بعين اليقين ـ يغطيها طحين الكلام: الدستور أولاً أم
البرلمان، البرلمان أم الرئيس، المرتبات أم التشريع، تجفيف دماء الطرق أم
علاج ضحايا السرطان، نزع فتيل الفتنة الطائفية أم إعلاء مبدأ الحرية، بما
فيها حرية السلفيين في إشعال الحرائق؟!
كل الخيارات موجودة، ولا تقدم
باتجاه أحدها، كل الخيارات جيدة وكلها سيئة، وهذا يجعل اتخاذ موقف مع أو
ضد مهمة مستحيلة، ولابد أن هذا هو الهدف الاستراتيجي للحوار، أي حوار: أن
يعود الناس بلا موقف!
قدر ثوراتنا الحزين أن من يحكمون ليسوا من ثاروا،
ولهذا لم تكتمل فرحة المصريين بالصحو من الكابوس، ولن تكتمل في اليمن فرحة
'الشباب المعتصمون' على قول علي عبد الله صالح الذي يخطىء في اللغة ويخطىء
الرصاص قلبه، ولن تكتمل فرحة من يتبقى على قيد الحياة من السوريين، ولكن
يكفي أننا استيقظنا، وليعمل شباب كل ثورة على تثبيت كل نصف خطوة تخطوها
ثورتهم للأمام