عيد العرش الحزين
رشيد البلغيتي
الثلاثاء 30 يوليوز 2013 - 03:19
الزمان: آواخر الثمانينيات
المكان: إقليم يبعد عن العاصمة الرباط بـ 760 كيلومتر.
كانت "كومة"، الفتاة السمراء الجميلة اليافعة ذات التسع عشرة ربيعا، ترقص بشكل متناسق مع فتيات القرية على إيقاع "أحواش". همس شيخ القرية في أذن المقدم: هل إسم "كومة" موجود داخل لائحة الفتيات المدعوات للإحتفال؟ فرد الأخير بالنفي قبل أن يخرج ورقة و قلما من جيبه و يطلب من أحد تلاميذ المدرسة الابتدائية الجالسين على يمينه أن يضيف إسم "كومة" إلى لائحة تحمل اسم العشرات من فتيات القرية.
داخل مدرسة "الثمر" الابتدائية، لا أحد ملتزم بالمقرر الدراسي طيلة أسبوعين، نصف التلاميذ موجود في باحة المدرسة و قد شكلوا صفوفا متوازية قبل أن يقوموا بعدد من الحركات الرياضية التي يقترحها أستاذ اللغة الفرنسية القادم من القنيطرة و النصف الآخر محشور في قاعة صغيرة، سقفها من زنك و جدرانها "بريفابريكي"، يرددون كالببغاوات عددا من الجمل التي لا يفهمون جلها في مسرحية تتحدث عن أمجاد المغرب و بشائر "الديمقراطية الحسنية" التي أبدع معلم اللغة العربية في نسج قافيتها.
علال وهو أشهر "حيطيست"، وفق تعبير الكوميدي الجزائري "فْلاَّكْ"، راقب سيارة مولاي التهامي، التاجر القادم توا من الدار البيضاء و هي تضع عدد من الزرابي الرباطية و "طباسيل الطاوس" أمام باب منزل التاجر. علال أخبر لمقدم بقدوم "الشريف" الذي أخبر بدوره الشيخ حيث اقترح الأخير على القائد إضافة إسم مولاي التهامي الى لائحة المتبرعين بزرابيهم و أوانيهم للحفل الكبير.
أصحاب الشاحنات أخبروا بالاستعداد للقيام بمهمتهم الوطنية. و الاستعداد يقتضي إصلاح الأعطاب التي تعاني منها الشاحنة ثم غسلها أو صبغها إن اقتضى الحال مع تزيينها بالرايات و صور المحتفى به و ملؤها بالبنزين، كل هذا من جيب صاحب الشاحنة طبعا، دون إغفال الاعتذار لكل من حجز الشاحنة سلفا لأن اليوم يوم عيد و لا مكان لكسب القوت و إعالة الأطفال في يوم إستثنائي كهذا !
في الصباح الباكر من 3 مارس، اصطفت الشاحنات الأربع في ساحة القرية، الشاحنة الأولى خاصة بالفتيات اللائي سيرقصن "أحواش" وأخرى لرجال القرية الذين سيصطفون على جنبات الشارع في انتظار عامل الإقليم و الثالثة ثم الرابعة خصصتا لنقل التلاميذ الموزعين بين مجموعة كلفت بأداء ملحمة تتغنى بإنجازات "باني السدود" بينما المجموعة الثانية ستؤدي استعراضا رياضيا أمام منصة تحتفي بعيد "الرياضي الأول" لان الحسن الثاني كان آن ذاك "أولا" في كل شيء!
الشيخ صحبة لمقدم يشرفان على عملية نقل الرعايا في مركبات كالقطعان مع التأكد من حضور الجميع و على رأسهم "كومة" بالإضافة إلى مراقبة درجة بياض جلباب الأعيان و الحالة الميكانيكية للعربات خاصة شاحنة "حيمد" المعروفة بتكرار أعطابها الميكانيكية. المراقبة الأولية، قبل السفر بضع كيلومترات الى عمالة الاقليم، مهمة جدا، فشيخ القرية مسؤول أمام قائد القيادة و القائد مسؤول أمام رئيس الدائر و الأخير مسؤول أمام عامل الإقليم و الكل يتحمل مسؤولية مشتركة أمام كاميرا النشرة الجهوية التي يجب ان تنقل صور السعادة و الفرحة الى دار البريهي بما يتماشى و سجع المعلق مصطفى العلوي المعد سلفا و المتحدث عن "مشاريع الخير" و "سياسة النماء".
في وقت يقف فيه التلاميذ بسراويل خضراء، قصيرة، بالية و أحذية رياضية بيضاء متهالكة وراء عربات مزركشة تحت شمس حارقة في انتظار "نمرتهم" كراقصات الكابريهات، تقف فتيات "أحواش" و غير بعيد عنهم رجال القبيلة بعمائمهم تحت نفس الشمس الحارقة في انتظار وضع عامل الإقليم لنصف كيلوغرام من الإسمنت داخل حجر أساس مشروع غالبا ما يبقى الحجر شاهدا فيه على نية بناء مؤسسة لم ترى النور.
يأتي العامل في وفد مهيب بعد ساعات طويلة من الانتظار، يضع الحجر الأساس، ثم ينطلق و سط أسطول من السيارات تتقدمه سيارة الدرك بصوتها الذي يبث الرعب في نفوس البسطاء، نحو منصة شارع محمد الخامس، يتبعه الرعايا مهرولين في "ماراتون فلكلوري" نحو نفس المنصة.
تتلى قصائد المداحين و كلمات قلة من المتعلمين من رؤساء الجماعات قبل أن تعطى صفارة الانطلاق لعربات أندية الطرز و السلامة الطرقية المزركشة، في إقليم لا طرق فيه أصلا! بعد ذلك يأتي دور تلاميذ المدارس التعليمية الذين يرتبكون في حركاتهم التي لم تعد متجانسة أمام صوت معلق، أشبه بمصطفى علوي صغير أو دعونا نقول أنه مصطفى علوي محلي أو مندوب معلق دار البريهي في الإقليم فمصطفى العلوي كان بالفعل مؤسسة وطنية غير معلنة. يحاول التلاميذ لملمة فزعهم أمام غضب معلم اللغة الفرنسية و فرشات ضباط الدرك و الجيش و نظارات رؤساء المصالح الخارجية و ربطات عنق المنتخبين و طربوش العامل الأحمر و صوت الأمعاء الجائعة الذي غطى على أهازيج الرقصات الشعبية التي اختلط إيقاعها فأعطى تلوثا صوتيا تشمئز منه الآذان.
ينصرف العامل و من معه من منصته الوارفة الظلال، في وقت الظهيرة، بينما يتم الاحتفاظ بالفتيات و التلاميذ و الأعيان الى المساء حيث موعد الجميع في ساحة المسبح البلدي مع الملك الحسن الثاني الذي سيطل من التلفاز لإلقاء خطبة في شعبه العزيز. ماذا سيأكل المنتظرون؟ أين سينتظرون حتى موعد الخطاب الملكي؟ لا أحد يكترث!
في المساء يساق "الضيوف" الى المسبح، ساحته تزينت بمئات الزرابي من بينها تلك التي اقتناها مولاي التهامي حديثا، يأتي العامل كعادته متأخرا عن الجمع بساعات، وهو ما يعطي للسلطة هيبتها في تلك المناطق. وقف الحاضرون للنشيد الوطني الذي لا يحفظ ثلثي الحاضرين كلمات أبياته، بدأ الملك في إلقاء خطبته التي تحدث فيها عن التراث واللامركزية و الجفاف و الوحدة الافريقية و الحدود و العلاقات الدولية.. تلى الملك آية " وقل ربي أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا".
استبشر الجميع خيرا بسماع الآية، إنها إيذان بنهاية يوم شاق و طويل.
لازم عدد من التلاميذ الفراش، بعد "العيد"، بسبب ضربة شمس، فسخت خطوبة "كومة" التي لم يغفر لها خطيبها المحافظ المشاركة في رقصة علنية كما وُبخ "حيمد" صاحب الشاحنة من طرف القائد بعد عطل ميكانيكي لم يكن له فيه دخل أما مولاي التهامي فلازال يبكي "طباسيل الطاوس" و يحدث ساكنة القرية يوميا عن زخرفة الزرابي الرباطية التي لم يعرف مصيرها منذ ذلك التاريخ.
كان عيد عرش حزين فعلا.