لم يكن الإعلام العربي لينجحَ في تعبئة جمهوري مصر والجزائر بالكراهية
والإقصاء للآخـر لو كان شعبا هذين البلدين يعيشان حياة عادية تخلو من
مظاهر الاحتقان و التجييش والتعصُّب، وأظن أن المُحفزات على الانفعال
والاستنكار ورفض الآخر كثيرة في حياة هذا الجمهور، وكل ما فعله الإعلام
العربي أنه أتاح الفرصة لهذه المشاعر كي تسلك طريقاً معينة دون غيرها ؛
وهذا يعني أن الإعلام، في مصر والجزائر، ليس هو المسؤول عن توليد هذه
المشاعر في حياة مواطنيه، وإنما المسؤول عن ذلك هو نمط التفكير البطريركي
الذي ينتهجونه، والنظام السياسي التسلطي الذي يحكمهم، وكلا الطرفين
يُعبِّئهم بمشاعر محتدمة وجيَّاشة، ولا يتيح لهم أن يفرِّغوا هذه المشاعر
بطريقة علمية صحيحة، أو يتطهَّروا منها إذا استخدمنا لغة 'أرســــطو' ؛
وهذا يعني أن الجمهور في كلا الدولتين 'قنبلــــة' جاهزة للانفــــجار في
أي وقت؛ ولذلك من السهل تحريكُها في هذا الاتجاه أو ذاك، بعد أن فقدت
رُشدها ومُوجِّهها الإدراكي الصحـــيح، وغدت أسيرة انفعالاتها المتأججة.
وكل ما فعــله الإعلام، في رأيي، أنه أتاح لها المجال للظهور وفق اتجاه
معين يخدم استراتيجيته الإعلاميَّة، ويتوافق مع الأهداف غير المعلنة
للنظام السياسي الذي يخدمه، ويشكل بوقاً آيديولوجيًّا له.
وفي ظني أن
الزعم بأن الإعلام هو المسؤول الوحيد عن بروز هذه الظاهرة يغفل علاقة
الظواهر الاجتماعية بسياقها الاجتماعي، ويلغي علاقة البناء الفوقي بالبناء
التحتي إذا استخدمنا المصطلحات الماركسية في الوصف والتحليل. ولهذا، فما
حدث في مصر والجزائر أعمق بكثير مما أشار إليه الأستاذ باسط بن حسن في
مقاله المنشور في موقع 'الأوان' يوم الخميس بتاريخ 25/11/ 2009؛ ذلك أن
الإعلام لم ينطلق من فراغ في مقاربته للظاهرة ومعاينتها، وإنما استثمر ما
هو موجود في حياة الناس العاطفية من تراكم انفعالي غير مسبوق في تاريخ مصر
والجزائر.
ومعلوم لدى الجميع أن الشريحة التي أفلح الإعلام العربي في
تحريكها هي 'الشريحة المتوسطة'، وهذه الشريحة هي أكثر الشرائح الاجتماعية
في مصر والجزائر تأهباً للحراك الاجتماعي والتأجج الانفعالي لما عانته من
فقر وبطالة وعسف واضطهاد على مستويات حياتها كافة، وهي أكثر الشرائح
الاجتماعية التي تلقت ضربات اقتصادية وسياسية وأيديولوجية قاصمة للظهر
أجبرتها على مغادرة موقعها الاجتماعي والاقتصادي إلى موقع آخر كانت تتبوؤه
الشريحة الأكثر فقراً في المجتمع، وهي الشريحة التي اصطُلح على تسميتها في
الأدبيات الاقتصادية الكلاسيكية بـ 'البروليتاريا الرثة'، ومعلوم كذلك أن
الأصوليين الإسلاميين في كلا البلدين أفلحوا في 'حشد' هذه الشريحة في
صفوفهم أكثر من مرة، وإدخالها إلى معارك ثانوية وهامشية لا علاقة لها
بتحسين وضعها الاقتصادي والاجتماعي، أو بتأمين احتياجاتها الحيوية
الأساسية، ومن ذلك تلك الاغتيالاتُ التي أوحَوا إليها بأن تقوم بها دفاعاً
عن 'الدين الإسلامي' ضد فنانين مبدعين ومفكرين مرموقين وأدباء علمانيين
كفرج فودة وحسين مروة ومهدي عامل ونجيب محفوظ ومصطفى العقاد وغيرهم، أو
التي جعلوها تلوِّح بها دون أن تنفذها بسبب كون المُهدَّدين بها مقيمين
خارج مصر ولا يمكن أن تطالهم أيدي الاغتيال ببساطة كالروائي السوري حيدر
حيدر صاحب 'وليمة لأعشاب البحر'، أو بسبب اضطرار المُهدَّدين بها إلى
الهرب خارج مصر أو الجزائر خوفاً من القتل، ومنهم على سبيل المثال لا
الحصر : نصر حامد أبوزيد وواسيني الأعرج.
وآخر مسوغات ما حدث، في
رأيي، أن هذه الشريحة أُقصِيَتْ عن المشاركة السياسية بالعنف، ولم تنلْ
حقها من الكعكة الوطنية المُحرَّمة التي كانت من نصيب السلطة وأعوانها في
كلا البلدين، وقد أفضى هذا الإقصاءُ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي إلى
شعورها بالاغتراب في وطنها، وإلى تعبئتها بشتى صنوف القهر وألوان الإحباط،
وفاقم من حدة ذلك أن هامش الحرية للتعبير عن معاناتها ضاق كثيراً، أو
ندرَ، ولم يبقَ لها إلا أن تُديرَ ظهرها إلى حاضرها المأزوم، وتلتحق
بماضيها الآفل، وهي تتمنى أن تعثر في 'أيديولوجياه' السلفية على مثلها
الأعلى ومبتغاها.
ومعلوم، أيضاً، أنه لم يُترَك لهذه الشريحة، في كلا
البلدين، حرية الانضمام إلى أحزاب دينية أو سياسية بحجة أنها محظورة، كما
لم يترك لها إمكانية للنزول إلى الشارع بغية الإطاحة بجلادِيْها وسارقي
لقمة عيشها من أزلام السلطة وأتباعها ؛ بسبب عنف السلطة وحدة قمعها
لمعارضيها تحت ذرائع مختلفة، وأفضى هذا كله إلى تفاقم الإحباط لدى
أفرادها، وزيادة حدة معاناتها، كما أنه لم يُترَك لها المجال لتفريغ
شحناتها العاطفية والتخلص من إحباطها ومشاعرها الوطنية الجياشة إلا في
قطاعات معينة لا خطر منها على السلطة، منها: الرياضة عموماً، وكرة القدم
خصوصاً.
ولهذا فليس 'هيجان' الجزائريين ضد الجالية المصرية وفريقها
الكروي في الجزائر، أو قيام المصريين برشق الفريق الجزائري بالحجارة في
القاهرة إلا نوعاً من التنفيس لمشاعر محتدمة لم يُتحْ لها أن تُوجَّه بشكل
صحيح لا في المجال الوطني (استكمال بناء حياة سياسية ديمقراطية مستقلة في
كلا البلدين: مثلا )، و لا في بناء حياة اجتماعية متوازنة (الحق في الحصول
على عمل ولقمة شريفة وبناء أسرة وبيت سعيد: مثلاً).
ومعلوم لكل متابع
وحصيف أن الأنظمة العربية عموماً تشجع مواطنيها على حب الرياضة، وتولي
الفرق الرياضية اهتماماً كبيراً لا محبة منها للرياضة ومشجعيها ؛ بل لأنها
ترى في ذلك إشغالاً لمواطنيها عن المشاركة في الشأن العام وقضاياه، وهي
تذهب إلى أن الاشتغال في هذا الشأن مقصورٌ عليها أو على من يواليها، وليس
متاحاً للشريحة المتوسطة أومن يمثلها أو ينوب عنها من مثقفين أو سياسيين
إلا إذا أذنت له بذلك.
الثلاثاء ديسمبر 01, 2009 9:54 am من طرف هشام مزيان