ما وراء تناقضات العدالة والتنمية
أحمد عصيد
الخميس 26 يوليوز 2012 - 19:00
المغرب بلد التناقضات وبلد السكيزوفرينيا بامتياز، يمكن لكل واحد
أن يعلن على الناس خطابا ثم لا يجد حرجا في تكريس نقيضه تماما في السلوك
اليومي، كما يجوز لكل شخص أن يتخذ له مسارا معينا في الحياة، ثم عندما
تسائله عنه أو تحادثه في بعض التفاصيل يفاجئك بما لا تنتظر من قناعات
وأفكار لا صلة لها البتة باختياره السلوكي.
يعود هذا الأمر إلى طبيعة الدولة المغربية، التي ورثناها عن مرحلة
الحماية، دولة مزدوجة ذات وجهين، فعلى الصعيد المؤسساتي لم يعد المغاربة
يستطيعون العودة إلى ما قبل 1912، أي إلى التقليد المحض، وفي نفس الوقت
ظلوا في صراع مع نموذج الدولة العصرية المركزية الذي فرض عليهم تحت ضغط
الوصاية الأجنبية، النتيجة أنهم لا يرغبون في ضياع حقهم في الرفاه
الاقتصادي وفي المكاسب الاجتماعية والقيمية الجديدة، وفي التمتع بإنتاجات
العقل التكنولوجي المبهر، ولكنهم في نفس الوقت يتشبثون في قرارات أنفسهم،
ببعض ترسبات قيم ما قبل الدولة العصرية، دون أن تكون لهم القدرة على الدفاع
عنها نظريا، أو الحسم في اختيارها عمليا لأن ذلك سيلزمهم بالتضحية
بمكاسبهم الواقعية. إن الأمر شبيه بوضعية الإسلاميين المتشدّدين الذين
يعيشون في البلدان الأوروبية والأمريكية، حيث لا يتوقفون عن هجاء المجتمعات
"الكافرة" و"المنحلة"، أي المجتمعات المضيفة لهم، دون أن يصلوا إلى مستوى
الانسجام مع الذات بقرار العودة إلى بلدانهم "المؤمنة"، "المستقيمة"
و"الفاضلة" أخلاقيا.
ومن الطبيعي أن حالة الفصام هذه التي تطال حياة الأفراد، ستمتد إلى
التنظيمات فتطبعها بطابعها المفارق، فتعيش بدورها هذا التشظي بين القول
والفعل، بين "واجب إعلان حسن النوايا " وحتمية الخضوع في السلوك والعمل
والموقف لمبادئ غير معلنة.
مناسبة هذا الكلام ما شهده مؤتمر حزب العدالة والتنمية الأخير، الذي
حاول فيه الحزب الإسلامي أن يظهر بمظهر الحزب الأكثر حداثية من الحداثيين،
والأشد ديمقر اطية وعلمانية من كل الديمقراطيين العلمانيين، حيث تبنى بوضوح
كل مبادئ وقيم الديمقراطية العلمانية من حرية المعتقد والحريات الفردية
وحرية الإبداع الفني والأدبي والمساواة بين الجنسين، ورفض بوضوح أية وصاية
دينية على المجتمع من أي طرف كان، أو أي استعمال للدين من أجل تكريس
الاستبداد، وهي المبادئ التي ما فتئنا ندعو إليها بوضوح منذ سنوات طويلة،
ولم نكن نجد من معارضة شرسة لنا في هذا غير حزب العدالة والتنمية، وأعضائه
وأنصاره من التيار الدعوي المعروف بـ"التوحيد والإصلاح"، حيث عارض الحزب
بشكل علني ـ مع التهديد والوعيد ـ أن ينصّ الدستور المغربي على مسؤولية
الدولة على حماية حرية المعتقد، كما عارض المساواة التامة بين الرجل
والمرأة وتذرع بـ"الخصوصية الإسلامية"، ورفض سموّ المعاهدات الدولة على
التشريعات الوطنية، وعندما رفعت الحكومة السابقة تحفظات الدولة المغربية
على الاتفاقية المتعلقة بمحاربة كل أشكال الميز ضدّ المرأة، احتج أتباع
الحزب وأنصاره وعارضوا ذلك، كما كانت لوزيرة الأسرة تصريحات تضمنت الكثير
من الغمز واللمز حتى ظن الناس أنها بصدد التحايل لإجهاض الاتفاقية مع
الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، وصدرت عن مسؤولي الحزب في الحكومة تصريحات
معادية للإبداع الفني تنذر بخطوط حمراء، بل تدخل وزير الاتصال بأساليب
ملتوية لمنع أفلام سينمائية، وصدرت مواقف أخرى ضدّ الترخيص ببيع الخمور
بالمغرب، وأخرى ضدّ المهرجانات الفنية والثقافية، وأخرى ضدّ السياحة في
مراكش، وحاول الحزب في دفاتر تحملات القنوات التلفزية التقليص من برامج
الترفيه والغناء والرقص والزيادة في البرامج الدينية.
والسؤال المطروح هو التالي: كيف نقرأ الرسائل المتضمنة في أرضية مؤتمر
"البيجيدي" والتي لم تلق معارضة من المؤتمرين بل تبنوها ودافعوا عنها ؟
إن القراءة الوحيدة الممكنة هي التالية:
يهدف الحزب إلى إعلان حسن النوايا لطمأنة الطبقة السياسية والمجتمع
المدني المعارض، والعمل بدرجة كبيرة في كواليس السلطة والمؤسسات من أجل
التمكين لنفسه داخل دواليب الدولة، ومحاولة تسريب إيديولوجياه الدينية عبر
القوانين بالتدريج، وتشكيل نسيج جمعوي موال له يستطيع استعماله عند الحاجة
باسم الشعب المغربي، كما يمكن استعماله لنيل أغلبية في الانتخابات
الجماعية، وهي كلها أمور لم يستطع القيام بها حتى الآن بدون إثارة مشاكل
ليست في صالحه.
يسعى حزب العدالة والتنمية إلى تجميل صورته لمحو الأضرار التي لحقت بها
خلال التجربة القصيرة المنصرمة، لكن دون التخلي رغم ذلك عن أهدافه
الحقيقية التي هي أهداف كل تنظيم إسلامي : الالتفاف على مسلسل الإنتقال نحو
الديمقراطية بمعناها الكوني الذي تلتقي عنده كل النماذج الديمقراطية
المختلفة، واستعادة الدولة الدينية بأسسها التقليدية التي رسخها الاستبداد
الشرقي، ورسّخ معها على مدى قرون طويلة أسباب التخلف الاجتماعي والفكري
والحضاري.
في المغرب، سواء لدى السلطة أو من جاورها من خدامها والعاملين في حدود
ثوابتها، والذين ينتهون دائما إلى استعارة نفس آلياتها واستبطان مبادئها،
لا قيمة للمكتوب الذي لا يعكس الأهداف والبرامج الحقيقية، وإنما القيمة
الحقيقية للمكالمات الهاتفية وللتعليمات الشفوية وللاجتماعات المغلقة،
وللسلوك والاختيارات العملية المجسّدة على أرض الواقع، ونحن سنرقب عن كثب
السلوك السياسي للحزب وأتباعه، إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط
الأسود، وفي انتظار ذلك لا مناص من المزيد من اليقظة ورصّ الصفوف، ولم شتات
القوى الديمقراطية السياسية والمدنية، من أجل صيانة المكتسبات، وإنجاح
الانتقال نحو الديمقراطية الفعلية