الاسلام والدولة.. بين جدل النخبة ومطالب الجمهورلا
يزال موضوع الاسلام والدولة يمثل واحداً من ابرز مشاغل الفكر العربي
المعاصر(1)، لا، بل الفكر الاسلامي الحديث، ويأخذ بناصية كل جدال فكري او
سياسي على صفحات الكتب والمجلات، وفي أروقة الندوات والمؤتمرات او في
السجال الكلامي بين التيارات الفكرية والايديولوجية التي تتقاسم ساحة العمل
الفكري والسياسي في مجتمعنا.
وما دامت قضية العلاقة بين الاسلام والدولة تتمظهر في شكل من اشكالها
بوصفها احدى تجليات خطاب النهضة العربي وأحد موضوعاته الاساسية، لذلك يندر
ان تطرح موضوعات الفكر العربي المعاصر او مشاكل المنطقة العربية الفكرية
والسياسية، دون ان تجد موضوعة العلاقة بين الاسلام والدولة داخلة في صلب
هذه الاهتمامات والمناقشات. فاذا كان الحديث عن شكل النظام السياسي ومضمون
القانون الدستوري، فان الاسلام لابد ان يكون طرف الحوار والجدال، ولا تقبل
موضوعية بحث او علميته ما لم يحدد موقفه أزاء الاسلام ونظرياته في الحكم
والادارة على اعتبار ان المجتمع العربي يضم بين دفتيه اغلبية شعبية لا تزال
تنظر الى الاسلام كمشروع خلاص ونظام متكامل وحده الكفيل باخراج المجتمع من
ازمته الراهنة.
واذا تطرق الحديث عن التنمية واخفاقاتها في منطقتنا، فان اول ما يتبادر هو
نقذ النموذج الاقتصادي المتبع، فبما ان نموذج التنمية الذي طبق منذ نشوء
الدولة الحديثة هو نموذج تأسس على صورة الاخر وآليات عمله ومضامينه
الفلسفية والاجتماعية فان التطلع الى مشروع تنموي جديد لابد
ان يعقد صلة بالاسلام، لان القضية تعود الى الاختيار المنهجي قبل كل شيء(1).
أما اذا انصرف الحديث إلى ثنائيات الفكر العربي المعاصر العتيدة الأصالة
والمعاصرة، التراث والحداثة، الاتباع والابداع، العقلانية واللاعقلانية فان
الاسلام يحل في صلب النقاش حلولاً لا مناص منه بوصفه باني حضارة هذه
الامة، ومكون ثقافتها الرئيسي ومؤسس تاريخها ومنظم عقلها، وبالتالي فان اي
بحث يتناول هذه المفردات لابد ان يقرر موقفه من الاسلام، ومسؤولية الاسلام
تجاه النظام السياسي والثقافي في الماضي والحاضر والمستقبل، أما انفصالاً
أو قطيعة او استلهاماً وإقتباساً او تطبيقاً وتجديداً، وهكذا يرتبط الحديث
ارتباط تمفصل وتشابك بين الاسلام ومجمل الموضوعات الاساسية التي يتناولها
الخطاب العربي المعاصر، والتي لم ينته جدله فيها حتى الساعة، بل جاءت
الصحوة الاسلامية، أو حركة الاحياء الاسلامي لتزيده حرارة وحدة وقوة.
بيد أن الملاحظ، ان المتعاطين بالافكار والمشتغلين بالحقل الثقافي
والسياسي، وممثلي الاتجاهات الفكرية والسياسية تداولوا الجدل في هذه
القضايا دون ان يخرجوا بنتائج محددة ومتفق عليها حتى يمكن الانصراف الى
معالجة الواقع الموجود طبقاً لتلك النتائج بصراحة. واذا كانت النظم
السياسية والثقافية والاجتماعية التي طبقتها الدولة الحديثة ـ وليدة
المشروع القومي الذي لم يخف تبنيه للعلمانية ـ قد فرضت فرضاً وانتهت الى ما
انتهت اليه، فان صعود التيار الاسلامي بقاعدة جماهيرية عريضة وبخطاب سياسي
يطالب تطبيق الشريعة الاسلامية، او قوانين الاسلام، ويلح على تأسيس النظام
السياسي طبقاً للنظرية السياسية الاسلامية بصورها المتعددة... ضاعف من
مساحة الحرب الايديولوجية والصراع الاجتماعي والسياسي، وأعاد طرح المشكلات
والتساؤلات ذاتها التي طرحت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين حول موقف الاسلام من العلم والمعاصرة وتطور النظم السياسية
والادارية، والعلاقات الاجتماعية وكأن هذه القضايا لم تطرح ولم تناقش ولم
يجب عنها المفكرون الاسلاميون، وفي ظل تفاقم الاوضاع السياسية والاجتماعية
وتردي الحالة الاقتصادية وسيادة لغة العنف، التي تقودها السلطات الحاكمة
غالباً فان الحديث عن المأزق الشامل والازمة المفتوحة صارت عنواناً لكل
حديث يتناول واقع المجتمع العربي. ولان السلطة القائمة تراقب مسار الجدل
الثقافي وتطورات الصراع الاجتماعي والسياسي لتحدد موقفها فان استناد النظم
الى ايديولوجية الحداثة، جعلها تستفيد من المواقف التي تعبر عنها النخبة
الثقافية التي تتبنى الايديولوجية ذاتها، لتسبغ المشروعية على ممارستها
القمعية ولتستمر في انتهاج سياستها التي وصلت الى طريق مسدود، وهكذا صار
محكوماً على المجتمع ان يدور في حلقة مغلقة ولا يجد حلاً لمشكلاته، بل ان
التأزم بلغ حداً قارب الانفجار، لان التعارض في المواقف يدفع نحو الاصطدام
حتماً، فهناك اغلبية شعبية، تعتقد ان الازمة سببها التبعية المنهجية
والفكرية والسياسية للدولة الحديثة والاصرار على اكمال هذه المسيرة لدواع
ذاتية وسياسية، وهناك نخبة المثقفين التي تدعم السلطة للأسباب ذاتها، رغم
بعض الخلافات وأحياناً الانتقادات التي توجهها هذه النخبة للسلطة لكنها لا
تختلف معها إلاّ في آلية الحكم، إذ تعتقد هذه النخبة ان الدكتاتورية
وانعدام المشاركة الشعبية في الحكم هي سبب المشكلات ولكنها تشارك السلطة في
الدعوة الى فصل الدين عن الدولة، وتدعو الى علمنة الدولة وعقلنة التراث(1)
وهي دعوات تصاعدت حدة مع صعود التيار الاسلامي، لتوفر قاعدة ذهبية للسلطة
كيما تعاكس الارادة الشعبية بالقمع والارهاب.
بيد ان المنطق السابق ذي اللون الصارخ في الدعوة الى العلمانية واستنساخ
نموذج حضاري آخر، ما عاد مجدياً في اقناع قوى الاغلبية. ولهذا اتجهت
القناعة الى احياء الجدل من جديد حول موضوعة العلاقة بين الاسلام والدولة
فاستعاد البعض مواقفهم من جديد في المعارضة وبالذرائع القديمة، ووقف آخرون
في منتصف الطريق متعللين باشكالات عديدة، ووافق آخرون بتردد، وبالدعوة الى
تجديد بعض المفاهيم والمصطلحات وتغيير المضامين التي ترتبط بما يعنيه تأسيس
نظام الحكم وصياغة الدستور وفق الرؤية الاسلامية. على ان ابرز الاشكالات
المطروحة، ارتبطت بشكل نظام الحكم وصلاحيات الحاكم وكيفية اختياره والعلاقة
بين الحاكم والمحكومين، وطريقة المشاركة السياسية والرقابة على الحكم،
وحقوق الاقليات الدينية، والمرأة ودورها الاجتماعي... الخ(2).
ومع طرح هذه القضايا احتدم النقاش على أشده من جديد وعاد السجال ليغرق
المجتمع في فوضى الافكار، فيما كان المفترض ان ينتهي هذا السجال ويخرج من
الغرف المغلقة ودوائر التنظير الى معالجة الواقع وفق معطياته الموجودة،
ببنيته الثقافية، وتاريخه ومطالبه، حتى يتم تفصيل مشروع النهضة ونظرية
التغيير والبناء من جديد، وحتى يتم تحديد الاختيارات المنسجمة مع معطيات
الواقع الاجتماعي.
وباعتقادنا فان المرحلة جد خطيرة تستدعي موقفاً عاقلاً ومسؤولاً، للانتقال
من عالم المثال الى عالم الواقع، أما إذا استمر السجال الفكري وبقيت الطبقة
المثقفة حبيسة الجدل والتجريد، فان المسار الاجتماعي المتأزم سيتواصل
بوتيرة تنتهي الى الصدام والانفجار الذي لن يسر (الانتلجنسيا) التي يفترض
بها ان تساعد المجتمع على تجاوز أزمته الحضارية الراهنة ولا تحصر مهمتها
بالدفاع عن مواقفها وايديولوجياتها التي تتعارض مع مصالح المجتمع ولا
تتلاءم معه، لانها تستند في اغلب الاحيان على مثل الأخر وقيمه التي تشكل
استفزازاً للمجتمع وتحدياً له، ولا تقيم معه علاقات وئام على أمل تغييره
ونقله للمعاصرة.
ان هناك مشكلات جدية تحول دون تجاوز منطق السجال العقيم الى الحوار البناء
المنتج، وما نشاهده من انفصال الفكر عن الواقع هو ثمرة طبيعية للعقل
السجالي الذي يغلب عليه المنحى
الايديولوجي في عملية الصراع التي يقودها دفاعاً عن الافكار والنظريات التي يؤمن بها(1).
من هنا كان لزاماً على أطراف النقاش الدائر ان تضع اسلحتها الايديولوجية
جانباً وتتسلح بخطاب معقول يتأسس على منظورات الواقع لا خارجه، بحساب ان
هذا الواقع هو حصيلة ثقافة وتاريخ وانماط تفكير وسلوك طبعت حركة الافراد
والمجتمع فكانت تربة عصية على استنبات بذور غريبة عن بيئتها. ولهذا لم تنجح
تيارات التجديد والتحديث التي استوحت الغرب وتجربته وظروفه في تأسيس نفسها
جماهيرياً واقناع المجتمع أو اغلبيته بافكارها، وما حصلت عليه من نتائج
بعد قرن او أكثر هو أقلية حصرت خياراتها في مسايرة نموذج التقدم الاوروبي،
واستماتت في الدفاع عنها، لكنها وجدت نفسها محاصرة بخذلان عميق، ذلك لان
الفئات التيى جعلتها محط رهانها، وهي الجامعية والمتعلمة، اتجهت الى اعادة
صلتها بالدين، ليس في صورة تأكيد الذات التي يزعزعها هجوم الاخر الثقافي
وغزوه الفكري، بل في الأعم الأغلب لسيادة القناعة بان منظومة الاسلام
الحضارية هي المنهج البديل لواقع مأزوم.
وللحقيقة فان هذه النتيجة التي وصلها تيار التحديث العلماني لم تجعله
يستسلم بل دفعته الى متابعة الصراع بجدية وشراسة، «ففي الوقت الذي تبرز فيه
قوة الايديولوجية الدينية وجاذبتيها، تكثر دعوة المثقفين من ليبراليين
وماركسيين وقوميين الى تحديث المجتمع العربي وتجديد بناه التقليدية وقراءة
تراثه قراءة علمية وواقعية وتفسير الاسلام تفسيراً تقدمياً ثورياً الى غير
ذلك من عبارات تترجم هذه الرغبة المتزايدة في التحديث والتجديد»(2) وهذا
يعني ان ميدان الجدل لازال مفتوحاً والاستغراق في دعوات الحداثة يستمد
مشروعيته من مواكبة الحضارة الحديثة في حين تعني هذه المواكبة بلا قيود ولا
تحفظات عند الاسلاميين ذوباناً واستلاباً لا يجوز القبول به(3) على ان
الثابت هو ان دعوات الحداثيين والدعم الذي يلقاه خطابهم الثقافي لم تعد
تعني المجتمع كثيراً، فكلما علا النقاش وارتفعت حدة الصراع، كان المتصارعون
على المحور الذي يناقض أهداف الغالبة في واد، والغالبية في واد آخر فأن
سعة التنظيرات لا تشغل بال الامة، لان بديهيات الفكر الشعبي والهم العام
الذي يشغل بال الجمهور، لا تمسه كل الفوضى الفكرية والثقافية المطروحة، وان
سمة المشغولين بالفكر النظري المنفصل عن الواقع الاجتماعي الذي ينتمون
إليه، هو الاستمرار في هم الاشتغال بصناعة الفكر وانتاج نظرياته، او تبني
النظريات المنتجة في الغرب وتمثلها ومحاولة زرعها في بيئة مغايرة للبيئة
التي انتجتها، ولهذا لم ينته النقاش والجدل في القضايا التي واجهها خطاب
النهضة العربي كقضية العلاقة بين الدين والدولة، رغم انها طرحت ابتداءً من
منتصف القرن الماضي، بمضمون لا ينتمي الى التراث الاسلامي، مضمون نهضوي يجد
أصوله وفصوله في النموذج الحضاري الاوروبي(4) ولا زالت اجيال المثقفين
تتناقل فصول
__________________________________
هذا النقاش وتضيف عليه جديداً بحسب مستجدات العصر الفكرية، فتتوالد الافكار
وتنتج نفسها من جديد دون ان تجد لها ارضية في المجتمع لا في صيغ النظام
السياسي الحاكم، ولا في نمط ثقافة المجتمع رغم التغييرات التي حصلت فيها،
ولا في منهج التنمية المستخدم، فالمجتمع يسير في اتجاه والسلطات الحاكمة في
اتجاه آخر، والمثقفون في دائرة خاصة، بينما الازمة المفتوحة والمأزق
الشامل، هما العنوان الرئيسي لكل منه يطل على دراسة المجتمع العربي
المعاصر، والشكوى العامة هي لسان الجميع، فليس هناك قطاع راض عن قطاع، اذ
السلطات تشتم الشعب وتحتقره، تتوسل بالعنف والقمع للسيطرة عليه بعنوان
تحديثه وتنميته وقيادته في طوفان التحديات، والمجتمع يئن من بطش السلطة
فيحاصرها بعزلته عنها وشعوره الاغترابي منها لقناعته بانها لا تمثله وليست
نابعة من حنايا وجوده، وأعجز من ان تحل له مشكلاته وتنجز له طموحاته، وهكذا
تسود نزعة مقاومتها واهمالها والامتناع عن مشاركتها في التحديات التي
تواجه الوطن.
اما المثقفون فانهم يشتمون الجيمع، قادة المجتمع لتقليديته وعقليته السحرية
والنصوصية وبنيته التراثية، وقادة السلطة ولهذا فان التقلب في المواقع
والانتقال الدائم هو سمة قطاع واسع من مثقفي الثقافة الغربية لانهم في اغلب
الاحيان حلفاء للسلطة ضد المجتمع، وفي أحيان قليلة مع المجتمع في نقده
للسلطة والحال، فان صورة المجتمع العربي المعاصر تشي بصنوف من الصراعات
المنهكة والمفقرة، فاذا طرحت التساؤلات عن الوقت الذي ستنتهي فيه هذه
الصراعات، وما هو الموقف من التحديات المتعاظمة وكيف سيكون الاستعداد للقرن
الواحد والعشرين، لا تجد جواباً، بل اجوبة متعددة بصورة امنيات. اذن، فمن
هو القادر على تقديم الاجوبة؟ بل من المسؤول عنها؟ هل هو الشعب المآسور
المشغول بجراحاته العميقة، ام السلطات التي لا تستطيع السيطرة على
تناقضاتها والتي يلاحقها عار الاخفاق والفشل في جميع برامجها وسياساتها؟ ام
المثقفون الذين أظهروا العجز عن مغادرة حالة الاغتراب والغربة للانتقال
الى حالة التلاحم مع المجتمع!!
صنف واحد فقط من المثقفين الذين لم ينفصلوا عن المجتمع ولم تظهر عليهم
أدواء الاغتراب هم المثقفون الاسلاميون لكنهم مطاردون مرفوضون من قبل
السلطات، وامكانات العمل والنشاط محدودة أمامهم، لانهم مقيدون باعلام
الدولة الحديثة وأساليبها التشويهية ورقابتها السلطوية فيما أعرض الآخرون
عن سماع خطابهم، لهذا حرم المجتمع من فرصة التعبير الحر والحوار المفتوح
المتكافىء، لتمتد جسور التفاهم، وليتم عبور قنطرة التواصل التي تخدم
الجماعة الوطنية ككل، على مرحلة جديدة تبدأ، يتحد فيها صوت المثقفين مع صوت
المجتمع، وتحل فيها عقلانية واقعية بدلاً من عقلانية حالمة طوباوية،
تستنسخ الأخر، وتهيم في الخيال فلم تنتج غير نزعة انفصال بين النخبة
والعامة ووعي شقي مسكون بالازدواجية والتناقض.
لقد سادت مرحلة من التشخيص والنقد شاركت فيها جميع التيارات والقوى
الايديولوجية، لكن نقد الواقع غير اعادة بنائه من جديد، فهذا النقد لم ينتج
خطاباً نهضوياً جديداً، يتجاوز اشكاليات الخطاب العربي المعاصر الذي ظل
يستعيد القضايا التي طرحها الفكر النهضوي منذ القرن الماضي ويجترها
اجتراراً(1) ولا يخلص منها الى نتائج واضحة محددة تسمح باستئناف عمل جديد.
ان الضرورة باتت ملحة للتعامل بعقل جديد رائده الوعي الموضوعي والتعامل
المسؤول والنزول الى أرض الواقع ليس عبر محاولة نقد العقل العربي والدخول
في متاهة نظرية جديدة تقع في الاخطاء ذاتها التي حاولت نقدها(2)، بل في
الوقوف على ارض بكر توطن للحوار البناء المنتج الذي يساهم في دعم المجتمع
لاختيار المنهج الذي يريد تطبيقه في النظام السياسي ونموذج التنمية، وطريقة
المحافظة على الهوية، بعد ان قاسى حصاد تجارب مريرة، استهلكت قرناً
كاملاً، فلم تجلب التحديث ولا انشأت عقلانية كعقلانية الغرب التي اعتبرتها
نموذجها المحتذى وكلما جاءت به، هو دولة قطرية يسودها القمع ويعلو فيها صوت
الاستبداد والعنف، دولة انجازها الاعظم تحديث التخلف وتثبيت التجزئة،
والدوران في الهامش ارتباطاً بمركزية الغرب(3) فلم تبق هوية ولا خصوصية
ثقافية ولم يظهر تقدم مادي، بل شعارات فارغة وشقاء مستمر.
عوائق التوصل الى نتائج موضوعية
ان أهم العوامل التي منعت حتى الان من تطوير وعي موضوعي لقضية العلاقة بين
الاسلام والدولة في مجتمع المسلمين المعاصر (المجتمع العربى تحديداً) هو
حالة الخصام الايديولوجي بين المدافعين عن الرؤية الاسلامية والمناهضين
لها، فالطرف الاول يصدر في وعيه وافكاره ونظرياته من المرجعية الحضارية
والثقافية الاسلامية، بينما استلهم الطرف المقابل فكره ونموذجه من مرجعية
الغرب الحضارية وبدا ـ طيلة قرن او اكثر ـ كل تيار متحمس لنفي الآخر
والدفاع عن موقفه رغم الاتفاق على الهدف، وهو هنا النهوض من التخلف وتجاوز
محنة المجتمع وتجزئة الامة وتأكيد انسانية الانسان وحقوقه والمساهمة في
الحضارة من موقع المشاركة والمسؤولية، لا الاستتباع والذوبان والتقليد،
يقول الدكتور محمد عابد الجابري (ان من أهم عوائق التواصل والتفاهم، بين
تيارات الفكر العربي المعاصرة، انغلاق كل منها داخل مرجعيته الخاصة،
وانشداده المطلق اليها ونفي كل ما عداها)(4).
على ان الاعتراف بهذه الحقيقة لم يتم تجاوزها عمليا ليتم تحديد نقاط
الاختلاف والاتفاق حول الاهداف والوسائل والمفاهيم والمصطلحات، لأننا نعتقد
ان هناك نوعاً من الاتفاق على كثير من الاهداف والوسائل، لكن ثمة اختلاف
على الوسائل وعدم اتفاق على المضامين التي تتضمنها المصطلحات التي يتعامل
بها كل طرف.
أما العامل الثاني الذي عمق من حالة الخصام فهو الشك العميق في نوايا كل طرف والذي زادته
__________________________________
(1) الخطاب العربي المعاصر. مصدر سابق.
(2) تعرض مشروع محمد عابد الجابري الذي تمثل في نقد العقل العربي الذي ظهر
في ثلاثية شهيرة الى سلسلة نقودات كان أبرزها نقد الدكتور برهان غليون،
والدكتور علي حرب، ود. طيب تيزني واسماء آخرين ظهرت في اكثر من كتاب ومجلة
متخصصة وفيها على وجه التحديد مجلة الوحدة الصادرة في المغرب.
(3) البنية البطركية. بحث في المجتمع العربي المعاصر، دار الطليعة بيروت، ص1987، ص124.
(4) الخليج، العدد 3759، مصدر سابق.
العوامل السياسية الداخلية والخارجية ليصبح جدار الحواجز النفسية
والايديولوجية غير قابل للهدم إلا بمعول نقد الذات والاعتراف باخطاء تجربة
الممارسة العملية، فصار من السهل التحاور بلغة التسقيط والشتيمة والاتهامات
والتحريض بدلاً من التفاهم واللقاء على القواسم المشتركة، حتى صار لكل
فريق عالمه الخاص وهمه الخاص، وللأمانة التاريخية، فان الساحة الثقافية
والميدان السياسي كانتا مفتوحتين أمام التيار القومي العلماني والتيار
الماركسي في بعض الحالات، ولم تكن مفتوحة أمام القوى الاسلامية إلا لبعض
الوقت ولمصالح سياسية معروفة الاهداف، فيما كان التيار الاسلامي يواجه
العنت والصدود والقمع فيضطر مكرهاً الى النزول الى الأرض وممارسة العمل
السري، أو يساق الى المعتقلات والمشانق بقرارات سريعة وبصورة جماعية، وكان
ذلك يستتبع سلبيات فكرية وسياسية وهواجس الخوف الدائمة والتشكيك والشعور
بالمطاردة، التي تؤدي آلياً إلى الغموض والتقوقع، ولا تمنح الافكار
والممارسات فرصة التطوير والمكاشفة. فقوى المشروع الاسلامي لا زالت الى
الان تواجه المنع القانوني حتى في ظل تبني الديمقراطية الموجهة!! رغم حرصها
على العمل تحت مظلة الدستور والشرعية الحكومية.
العامل الثالث الذي أعاق سبل التفاهم والانتهاء من حالة الخصام والقطيعة هو
اغتراب(1) المثقف القومي العلماني الذي يرفع شعار الحداثة عن مجتمعه
وتاريخه وانسلاخ البعض عن هويته واستيطانه الابراج العاجية التي وطدت لديه
شعور التعالي على المجتمع، فالافكار والاهداف التي ينادي بها هذا الصنف
منتقاة، او مقتبسة، لم تخضع لنقد كاف، ولم يراعى فيها اختلاف البيئات،
وبالنسبة لمثالنا، صيغة العلاقة بين الاسلام والدولة، فانها كانت مشكلة
منقولة، من بيئة عانت فيها الكثير وحسمتها بطريقة عنيفة (فمشكلة العلاقة
بين الدين والدولة كما نقلت الى المجال العربي في القرن الماضي، وأوائل هذا
القرن لم يتم بعد تبيئتها تبيئة ملائمة في الواقع العربي الفكري والحضاري
كي تصبح معبرة بالفعل عن همومه وتطلعاته، وليس عن هموم وتطلعات الواقع
الاوروبي الذي نقلت منه)(2) من هنا كان نقل هذه المشكلة والتنظير لها خطأً
فادحاً ترتب عليه نتائج جسيمة، لماذا؟ لانها مشكلة مصطنعة فلم يحدث تفكير
عن وجود حالة صدام بين الدين وحركة المجتمع او تنظيم الدولة ونظامها
السياسي ولم تحصل حالة حصار ديني ضد التطور العلمي والتقني او يفرض فيها
الدين سلطة جامدة متحجرة، مستبدة إذ الدين لا يحتاج الى وسائط لتفسيره حتى
لا يفهم الناس ان الاسلام نقيض الاستبداد والجمود والانفعالات، يقول
الدكتور برهان غليون: (تبدو اشكالية فصل الدين عن الدولة عندنا مصطنعة
منقولة عن الغرب)(3)، ورغم ذلك فقد استمرت المشكلة تحدث أثرها المأساوي في
الفكر والممارسة حتى غدت من أكبر المواقع التي تسد طريق علاج المشكلة
الاجتماعية والسياسية التي تثقل كاهل النهار العربي، بسبب استناد السلطة
العلمانية الحاكمة على هذه الرؤية للدفاع عن سلطتها، والتي هي سبب
__________________________________
(1) راجع حديث د. هشام شرابي عن المفكرين النقاد من ذوي الثقافة الغربية في كتابه البنية البطركية، ص108.
(2) محمد عابد الجابري، الخليج مصدر سابق.
(3) المسألة الطائفية ومشكلة الاقليات، ص82، هامش2، دار الطليعة بيروت عام 1979.
الماساة التي يواجهها المواطن العربي، فالعلمانية العربية التي تبنت فصل
الاسلام عن الدولة، استخدمت ذلك (كوسيلة لتقوية النظام السياسي القائم
وتدعيم الطبقة المسيطرة التي أرادت ان تستفيد من علوم الغرب الحديثة لتنعش
نظامها واقتصادها)(1) وهي لذلك لا تستطيع التخلي عن هذه الاساليب لانها ان
فعلت ذلك تكون قد الغت نفسها، بينما فرض على المجتمع ان يعاني من نتائج هذه
المشكلة التي تم نقلها الى الفكر والثقافة لتعمل عمل الالغام لوقف تقدم
القوى التي ترفض وجود مشكلة بين تأسيس نظام الحكم وادارة الدولة على اساس
الشريعة الاسلامية.
أما العامل الرابع الذي هو امتداد وتفريع من العامل الثالث، فهو أزمة وعي
المثقف العلماني لظروف مجتمعه وبنيته الثقافية وعلاقاته الاجتماعية،
واصراره على فرض آرائه فرضاً، لان المجتمع لا يستحق الهدنة والمداراة بسبب
تخلفه العلمي، وتمسكه بالغيبيات والسلوك الخرافي، ومعنى ذلك ان تحديث هذا
المجتمع يتطلب احداث قطيعة مع تراثه واقتلاعه من جذوره، هذا هو فحوى
المنطوق العلماني الذي يدعو المجتمع الى تبني القطيعة المعرفية
(الايبستمولوجية) كشرط لتحقيق النهضة، وقد ساد هذا النمط من التفكير ولا
زال يردده بعض غلاة العلمانيين رغم الردود الكثيرة على هذه المقولة، ومن
شخصيات متخصصة في الفكر والتاريخ الغربيين(2) بل ذهب هشام شرابي الى تبرير
عجز النخبة العلمانية العربية عن احداث هذه القطيعة، في كتابه البنية
البطركية ص86. على ان دعوات العلمانية وصلت الى الطريق المسدود، لانها (لم
تنبت من الصراع الاجتماعي الداخلي، ولم تنشأ نتيجة لتفكك وتحلل القيم
التقليدية الموروثة وزوال فعالياتها في الممارسة اليومية والجماعية. ولكنها
نشأت عن طريق التبني من قبل نخبة معدودة العدد وغالباً معزولة عن
الشعب)(3)، ويحدد هشام شرابي تاريخ انتهاء مفعول الفكر البطركي الحديث، كما
يسميه، بشكله الاصلاحي والعلماني والقومي واليساري بنهاية الستينات،
فيقول: ولم تتمكن العقائد العلمانية (الاصلاحية، الليبرالية، الاشتراكية)
من غرس جذور عميقة في تربة النظام البطركي الحديث ـ ثم ينزلق لتبريرها
أيديولوجياً ـ لا لأن هذه العقائد غير قابلة للتطبيق على البنى الاجتماعية
العربية بل لانها بالاحرى شوهت عند نقلها الى اشكال بطركية حديثة(4).
وللحقيقة، فان مائة عام على قيام الدولة الحديثة بمناهج تعليم غربية
وبوسائل اعلام حديثة وثقافة متغربة لم تنجح في تغيير المجتمع وفقاً
لاهدافها، او تغيير نمط تفكيره، ولهذا لم يكن مجرد مصادفة ان تواجه الدولة
القطرية التي أسسها المشروع القومي وهو المظهر السياسي للنزعة الفلسفية
القومية(5)، صعود تيار اسلامي جماهيري، يدعو للربط بين الدين والدولة إذ ان
هذا الصعود هو حصيلة الانفصال بين الدولة والامة (فكانت الحركة الاسلامية
الاصولية المعبر القوي عن مشاعر الجماهير (البرجوازية
__________________________________
(1) الدولة الطائفية ومسألة الاقليات في الوطن العربي ـ 9 ـ الخليج العدد 4012، 29/4/1990.
(2) يمكن الرجوع الى جواب الدكتور حسن حنفي حول مقولة القطيعة الايبستمولوجية في مجلة 15 ـ 21، مشروع اليسار الاسلامي.
(3) الدولة الطائفية ومسألة الاقليات، مصدر سابق.
(4) البنية البطركية، مصدر سابق، ص98.
(5) الدولة الطائفية ومسألة الاقليات، مصدر سابق.
الصغيرة) المحرومة واعقاداتها بشكل لم تحققه أية ايديولوجية قومية كانت أو
اشتراكية(1). اما عن السبب، فيقول الدكتور برهان غليون، (بقدر ما ارتبطت
العلمانية بالسلطة، هذه السلطة التي بقدر علمانيتها كانت ترتبط أيضاً
بالاجنبي، نزلت النزعة الدينية الى المعارضة، وبقدر ما ارتفعت الاوساط
الاجتماعية التي تتبنى العمانية في المرتبة الطبقية، نزل الدين الى
الشارع)(2).
ان ظهور المد الاسلامي كان نتيجة طبيعية لاخفاق الدولة الحديثة التي قادها
التيار العلماني(3)، وكان هذا الاخفاق دليلاً على عجز النخبة التي قادت هذه
الدولة عن فهم المجتمع وطريقة تفكيره واساليب تعبئته وتغييره، وبالتالي
كان غير ممكن الامساك بالايديولوجيات السابقة والاصرار على التمسك بالسلطة،
بذات البنية الفكرية التي مثلت القاعدة التي استندت اليها وهذا ما يقودنا
الى القول بان الواقع الاجتماعي يفرض اليوم على المثقف العلماني الذي يواجه
التيار الاسلامي ان يعترف بهذه الحقائق الموضوعية ويعيد النظر في موقفه من
الإسلام، ليصبح اللقاء بديل المواجهة، والحوار بديلاً عن الحرب
الايديولوجية.
ان اغلب المثقفين العلمانيين، اما لم يطلعوا اطلاعاً كافياً على الفكر
الاسلامي اطلاعاً يمكنهم من وعي الاسلام ويخفف من غلواء التشدد ضده، وأما
انهم اطلعوا على التراث والفكر الاسلاميين بخلفيات ايديولوجية مسبقة، لغرض
التبشير للايديولوجيات التي آمنوا بها، وهذا النمط من التعامل لا ينتج
وعياً موضوعياً من القوى الاسلامية يقارب الرؤى ويفتح قنوات الاتصال
والتفاهم، بل على العكس زاد من حال الخصام وجعل الحوار أصم، كل طرف همه
تفنيد الطرف الآخر، بنسب تتفاوت، اذ ان التيار العلماني استمر بهجومه
معمقاً الحواجز ومثبتاً السدود التي تحول دون تأسيس وعي حواري، وقد ابقت
هذه الحالة الاشكالات التي يطرحها الفكر العلماني، كما هي منذ اليوم الاول
لظهورها، ولم تنفع الاجابات والحلول التي طرحها المفكرون والمثقفون
الاسلاميون لانها هي الاخرى، حصرت نفسها في الاجابات العمودية ولم تطرح
مشروعاً تفصيلياً يبدد قلق الآخرين حتى لو كان مصطنعاً، إذ لا يكفي
الاكتفاء بالطرح المثالي للاسلام ومنظومته الاخلاقية ونظامه السياسي الذي
يتأسس على العدل والشورى واختيار أهل الحل والعقد، بل لابد من تحديد دور
المواطن وحدود الحريات، ومن هم أهل الحل والعقد وكيف يمكن اختيارهم وما هو
دور المجالس الاستشارية او التقويمية.
والصحيح ان بعض القوى الاسلامية تؤجل الخوض في التفاصيل بدعوى ان وقتها لم
يحن بعد، كما ان بعضها يردد مقولة السلف الصالح، دون لحاظ الفوارق بين بيئة
السلف الصالح أو دولة الخلاف والواقع الراهن المعقد، وربما عمد البعض الى
ابقاء خطابه الاسلامي عمومياً حتى لا يتعرض لاحراج
__________________________________
(1) البنية البطركية، ص124.
(2) الدولة الطائفية، مصدر سابق.
(3) حلل هذه الظاهرة الدكتور برهان غليون في مقاله الاسلام وأزمة علاقات
السلطة الاجتماعية، في المستقبل العربي، العدد 128، 10/1989. ويقول الدكتور
سعد الدين ابراهيم (اصحاب المشروع التحديثي اخفقوا وانتهوا بمجتمعاتهم الى
ازمة، الليبراليون والاشتراكيون على حد السواء، العسكريون منهم
والمدنيون). راجع مجلة صدى الاسبوع العدد 8930.
المناقشة لكن ذلك لم يمنع الجمهور العريض من قبول اطروحات التيار الاسلامي
حتى غدا شعار تطبيق الشريعة شعاراً للمرحلة، الأمر الذي كان يقود المثقف
العلماني الى معاضدة السلطة في استخدام الاسلحة المضادة للقوى الاسلامية
عبر استخدام العدة الثقافية فى محاولة لتفكيك مضمون الخطاب الاسلامي وهدمه
واستعداء السلطات ضده، ولكن لم العداوة والتحريض، وممن الخوف، وهل يخدم ذلك
المجتمع؟ تأتي الاجابة في عموميات مطلقة، الخشية من الدولة الدينية، القلق
من الاستبداد، الدفاع عن الحريات، الدفاع عن المكاسب التي حصلت عليها
المرآة!! صيانة وحدة المجتمع الذي تهدده الاطروحة الاسلامية التي تخيف
الاقليات الدينية، المحافظة على مبدأ المواطنة وتنظيم العلاقات الاجتماعية
على اساس مدني (المساواة) وليس دينياً.
بيد ان هذه الاشكالات كان يمكن تجاوزها بالحوار والصراحة التي تلزم اصحابها
بعد الاقتناع، بالانتقال الى خطوة جديدة، تتعهد بتقنين الشريعة دستورياً،
حتى يكون هذا الدستور او المشروع السياسي واضحاً ومحدداً وحتى لا تكون هناك
ذريعة للعودة الى خطاب التعارض، أي وضع الدولة الاسلامية ضمن اطار الدولة
الدينية حتى يوضع في مقابلها الدولة الدينية، او توضع الديمقراطية في قبال
فكرة الشورى وأهل الحل والعقد، وتوضع فكرة مساواة الرجل والمرأة في مقابل
فكرة اعطاء كل جنس حقوقه ودوره.
ان الحديث الان يتركز حول مشروع المستقبل، وإذا كانت هناك اكثرية عددية
تطالب بنظام سياسي تعتقد بانسجامها معه، لتعيد بناء حياتها ودولتها وفق
مضامينه الاساسية، فلماذا نحاول السباحة ضد تيار الاكثرية بشعارات الدفاع
عن التوازن الاجتماعي ومصلحة البلد، وقيم القوى الحديثة ومصالحها. ان ثمة
تناقضاً واضحاً في موقف الداعين الى الديمقراطية، والمعارضين، في ذات الوقت
الذي يجري الاحتكام اليها لتقرير مصير النظام السياسي والاقتصادي الذي
تطالب به الاكثرية الشعبية، ومهمة الفئات المثقفة الان هو ان تنسجم مع
اطروحاتها ولا تنجاز في مواقفها انحيازاً ايديولوجيا. فما وافق مصاحلها
تبنته، وما لم يحقق اهدافها صمتت عنه، ليستمر المجتمع يكابد الصراع المضني.
فالتيارات العلمانية الليبرالية، او الاشتراكية، تحاكم الفكرة من منطلقات
وخلفيات ايديولوجية بحتة، يتعانق فيها التاريخ والذات والسلطة، فتجتمع
للدفاع تحت لافتة المشروع القومي الوحدوي لتقود عملية رفض وتحد في آن واحد
لمطلب الجماهير وتجد نفسها متحدة مع سلطة النظام البطريكي ـ بتعبير الدكتور
هشام شرابي ـ رغم انها تنتقده وتهاجمه احياناً وتحمله المسؤولية عن
الاخفاق والفشل(1).
لماذا لا تتخلى القوى المناهضة للتيار الاسلامي عن شعاراتها وايديولوجيتها
وتفكر من جديد بواقع المجتمع وظروفه وطرائق تفكيره، وتعيد تفصيل مشروع
النهضة وفق أُسس ومنطلقات جديدة متجاوزة أخطاء الماضي، ومستوعبة تجارب
حماسها الثوري، ومستفيدة من معطيات الحالة الانتقالية
__________________________________
(1) لاحظ على سبيل المثال، الدكتور فؤاد زكريا، الصحوة الاسلامية في ميزان
العقل، دار التنوير بيروت، ط1، 1985، وكذلك تصريحاته لوكالة الصحافة
الفرنسية في 27/2/1990.
التي يمر بها مجتمعها حالياً، فتمسك بلحظة مناسبة للتغيير؟ بالتأكيد ان قوى
المشروع القومي من ليبرالية واشتراكية ونقدية حديثة، لا يمكنها ان تنسلخ
عن قناعاتها بسهولة، وليس مهماً أن تنسلخ عنها، لكن المهم ان نتقدم خطوات
عملية لمصلحة المجتمع، ومصلحة بعض الاهداف التي تؤمن وتنادي بها، ولا تحول
دون حركة هذا المجتمع عبر التحالف مع أنظمة القمع ومشاركتها خندق المواجهة
والتنظير لمشروعها القمعي السلطوي، دفاعاً عن ايديولوجية الحداثة، او نكاية
بالتيار الاسلامي او للحيلولة دون مطالب الامة وحقها في اختيار منهج سياسي
وحضاري ونهضوي جديد. ان الدوران في هذه الحلبة لم يعد يجدي نفعاً، فلا
الجماهير التي نتهمها بانها نصف أمية او أمية ساكنة بلا حراك، ولا الفكر
الحداثوي نجح في عبور جدران مجتمع النخبة بيد ان المجتمع يتجه نحو الاصطدام
او الانفجار بعنف بضغط التفاعلات الداخلية والضغوط الخارجية، وما لم يتم
ضبط هذا الانفعال بعنف بضغط التفاعلات الداخلية والضغوط الخارجية، وما لم
يتم ضبط هذا الانفعال وتوجيهه الوجهة الايجابية الصحيحة، فان شظايا
الانفجار لن توفر احداً، فجميع محتمياتنا مقبلة على هذه المرحلة، تأخر
بعضها ام اسرع، فحتى مجتمعات الرفاه الاقتصادي الاميرية ـ الملكية في
الخليج اجتازت مرحلة التفكير والتأمل، وتقدمت خطوات نحو التعبير عن ذاتها
عبر الواجهات التقليدية ذاتها، علماء دين وبرجوازيات متوسطة، وقوى السلفية
المعروفة. ولا يمكن التنصل من حالة الاخفاق التي وصل اليها المشروع القومي
ودوله القطرية التي لم تستطيع حفظ التوازن الداخلي، او الوحدة الوطنية،
وانتهى بعضها الى الاقتتال الدالي والصراعات القبلية، فيما لا زالت الدول
العربية تتصدر قائمة الدول التي تنتهك حقوق الانسان وتصادر أدميته
وحرياته(1).
ان الاستمرار في الدوران المستمر لم يعد ناجحاً للتهرب من المسؤولية،
والاهتراء الذي دخلته مجتمعاتنا، بحاجة الى علاج حاسم ينهي حالة التقابل
والتناقض بين مطلب الجماهير ومطلب السلطات التي يهمها كثيراً ان تستمر
التقابل والتناقض بين مطالب الجماهير ومطلب السلطات التي يهمها كثيراً ان
تستمر النخبة العلمانية المثقفة في انتاج فكر يدعم جمود السلطة ويوفر لها
غطاءً فكرياً وايديولوجياً كيما تواصل حماية دكتاتوريتها باسم حماية حقوق
المجتمع المدني ومكاسب العصرنة والتحديث.
والقناعة السائدة ان حالة الانغلاق والتقابل سترتد الى داخل المجتمع وتفجره
من الداخل فاستمرار كل فريق ينادي بشعاراته من داخل مرجعيته الثقافية لن
ينتج غير حالة استقطاب القوى وتحويل المعركة عن مسارها الصحيح اي من معركة
ضد التخلف والتجزئة والتهميش وانعدام العدالة الاجتماعية وضياع الحقوق
الانسانية، الى معركة تيارات تتصارع على اثبات احقيتها في قيادة مشروع
النهضة المخفق وتأطيره فكرياً وسياسياً، ولان الانظمة السياسية القائمة
تستمد مشروعيتها من الدفاع عن الحداثة والعصرنة والمشروع القومي فان
المعركة ستقدم نفسها تحت راية التناقض بين قوى سلفية تريد اعادة عقارب
الساعة الى الوراء، وبين قوى تحديثية أشد التصاقاً بالحضارة الراهنة وأكثر
استيعاباً
__________________________________
(1) راجع البنية البطركية، وكذلك اغتيال العقل، وكذلك حليم بركات في
المجتمع العربي المعاصر. بحث استطلاعي، مركز دراسات الوحدة العربية ط3،
1986.
لشروط الانتقال الى مجتمع عصري متقدم!! بيد ان هذه الرؤية تجاوزها الواقع
بكثير فدعاة المشروع الاسلامي المعاصر، وان اتهموا بالاصولية والسلفية
ليسوا أقل حماساً للعصرنة والتحديث الوحدة(1).
بل ان قاعدة المشروعية التي يستندون اليها أوسع بكثير من مشروعية الطرف
المقابل، لانها جماع عقيدة وتاريخ وولاء شعبي، واختيار حضاري ليس بالضرورة
تقليداً أو محاكاة لمشروع الغرب الحضاري بالاضافة الى الدعم الذي يقدمه فشل
مشروع الدولة القومية، او القطرية وعجزه عن انجاز أي من الاهداف التي سعى
اليها. ان البحث عن جذور الاخفاق بموضوعية هو مهمة المثقف الموضوعي
والانتهاء من مشكلة فصل الدين عن الدولة، او عدم اقحام الدين في السياسة،
او ركوب الدين لحماية دكتاتورية السلطة وعلمانيتها وتبعيتها... سيكون بداية
الفهم لمشكلة المجتمع وازمته الراهنة، تمهيداً لمباشرة علاج ناجح، وبغير
ذلك، فان الغالبية الشعبية ستجد نفسها في مواجهة مع السلطة ومن يدعم فكرها
ومشروعها السياسي، لن تنتهي بعدد قليل من الضحايا او بخسائر اقتصادية او
تمزق اجتماعي محدود، ولعل بوادر ذلك تتمظهر على أكثر من صعيد وفي أكثر من
أقليم ليس أقلها ما شهدته عدد من البلدان العربية في الاونة الاخيرة.
على هذا الاساس تبدو مناقشة الرؤية الداعية الى اقامة دولة اسلامية والرؤية
المضادة لها، وتجاوز حالة التقابل في المسميات والمصطلحات والهواجس الى
المضامين الحقيقية التي يدعو لها كل طرف وطي مرحلة الخصام الايديولوجي الى
الحوار الفكري المنتج والايجابي في طليعة المهام الملقاة على طبقة
المثقفين(2) إذا ارادت أداء مسؤولياتها ووظيفتها ودورها الاجتماعي المفترض
بصدق واخلاص على ان التمهيد للارضية اللازمة لشروط الحوار المنتج، سيكون
مقدمة واجبة ذات أهمية خطيرة لتوفير مستلزمات النجاح لهذا الحوار، فمن غير
المعقول ان يظل التقابل في الوعي والافكار حبيس المسميات والمصطلحات
والنوايا المبيتة، فالكشف الحقيقي للاهداف ومضامين المشاريع المناقشة
الهادئة التي تأخذ بنظر الاعتبار شروط الواقع الاجتماعي، تشكل الدعامة
الاساسية لبدء مرحلة من الوعي والعمل تستجيب لواقع الامة بحرص وكفاءة.
موقف العلمانية من الدولة الاسلامية
في سياق المتابعة لمكونات الخطاب العلماني بمختلف تياراته يظهر بوضوح أن
هناك قلقاً حقيقياً او مصطنعاً من تأسيس الدولة على اساس الاسلام بقيمه
واخلاقه وضوابطه ونظامه السياسي(3)، فالعلماني يحاكم قضية الدولة الاسلايمة
من محددات ثقافية ونفسية وتاريخية تجعله يتخذ موقفاً سلبياً
__________________________________
(1) يقول الدكتور سعد الدين ابراهيم: الخطاب السياسي الاسلامي ينطوي في
كثير من جوانبه على عناصر الحداثة لان دعاته لهم قدم راسخة في التعليم
الحديث وقدم أخرى في التراث ولهذا فخطابهم يجمع بين الخطابين وبين عالمين
عالم الحداثة وعالم الاصالة. انظر مجلة صدى الاسبوع، العدد 930.
(2) طالب العديد من المثقفين العلمانيين والاسلاميين بالحوار، وقد نظم مركز
دراسات الوحدة العربية ندوة للحوار خرجت في كتاب وكانت لها اصداء ايجابية.
(3) يستحسن مراجعة مضمون ندوة الحوار القومي ـ الديني لانها لخصت موقف العلمانيين تقريباً.
بشكل تلقائي ويمكن ايجاز هذه المحددات على النحو التالي:
أولاً: ان تداخل سلطة الدين مع السلطة الزمنية يقود الى الاستبداد والتخلف واللامساواة والانقسامات الطائفية والتمييز.
ثانياً: ان فصل الدين عن الدولة هو الطريق الموصل إلى النهضة والعقلانية والمساواة والحرية والابداع.
ثالثاً: ان المحافظة على الذات والثقافة القومية ممكن عن طريق اقامة الدولة
القومية الحديثة وليس بالضرورة عبر اقامة دولة اسلامية (دينية).
رابعاً: قوانين الشريعة الاسلامية لا تصلح ولا تكفي لادارة الدول بعد
التطورات الاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية والتقنية. ولا شك ان المؤشرات
التي تجعل العلماني يفكر بهذه الطريقة هي صورة الغرب بعد فك العلاقة بين
الكنيسة والسلطة، ونجاح الدول القومية في اوروبا، وصورة الدولة العثمانية
في أواخر حياتها، فالعلماني يقيم علاقة ذهنية بين واقع القرون الوسطى ودور
الكنيسة الشمولي، وبين موقع الاسلام في الدولة دون ان يستحضر الفرق الشاسع
بين الاثنين،. سواء في موقفهما من العلم او في العلاقة بين الحاكم والمحكوم
او في التجربة التاريخية غير ان العدة الثقافية لم تقتصر على هذه المحددات
والمؤثرات في صياغة موقف العلماني من قضية الاسلام والدولة، بل ان مزيداً
من الأدلة تم حشدها لمعاكسة أية دعوة ترمي الى المطالبة باعادة لحم العلاقة
بين الاسلام والدولة.
فقد تم قرن التخلف بالسلطة الدينية للاستدلال على عقم المبادرة والمراهنة
على استعادة العلاقة بين الاسلام والدولة، والمصداق العثماني هو وسيلة
الاستدلال على ذلك، كما أحرزت الأدلة اكبر نجاحها في صدور كتاب الشيخ علي
عبد الرزاق (الاسلام واصول الحكم) في عام 1925 بعد الغاء الخلافة في تركيا،
وليس مهماً ان يناقش دعاة المشروع الاسلامي بالأدلة خطأ الاستنتاجات التي
خرج بها عبد الرزاق ودور المستشرقين فيها بل ان الذريعة جاءت من الوسط
الاسلامي نفسه لتدعيم رؤية فصل الدين عن الدولة في المجتمعات الاسلامية ثم
جاء كتاب خالد محمد خالد (من هنا نبدأ) ليعضد من وتيرة الموقف المساند لفصل
الدين عن الدولة، وقد اتحدت السلطة التي ورثت الاحتلال الاجنبي مع دعاة
التحديث على النمط الغربي لتدافع عن هذه المقولة دفاعاً عن الذات أولاً،
وللتمكن من الاستئثار بالسلطة واسباغ المشروعية عليها ثانياً.
لقد بقيت العلمانية فلسفة القوى المرتبطة بالسلطة المرتبطة بدورها في
الخارج (الغرب)، لكن التحديث سمح لها بالنمو عمودياً ـ وليس اُفقياً في
الوسط الاجتماعي بالدفاع عن عدد من الحريات الضرورية، كحركة المرأة، وحرية
المعتقد والمساواة وحرية الانتخاب والاختيار، وصاغت فكرها بشكل مهاجم، فاذا
ذكر الاسلام كنظام ودولة، أنكرت ذلك وقالت انه رجوع الى الوراء وسلفية
رجعية، وإذا تحدثت عن الديمقراطية جعلتها في مقابل استبداد الدولة الدينية،
وإذا ظهرت أزمة علاقة بين اقلية دينية وأكثرية فان الدولة الحديثة التي
تفصل بين الدين والدولة هي الحل السحري لمشكلة التعدد والتنوع الطائفي او
العرقي أو الديني(1)، وقد تكاملت منظومة الافكار هذه مستعينة بفكر
الاستشراق وخلفياته ومحركاته الايديولوجية، حتى غدا من الصعب معالجة أزمة
المجتمع الذي يعاني من التمزق والانشطار الداخلي دون معالجة الفكر العلماني
الذي يريد شيئاً قد لا يختلف في مضمونه مع ما يرمي اليه الاسلام، في قضايا
المساواة والمشاركة في السلطة، وعلاقة الراعي والرعية، والحريات المسؤولة،
ودور المرأة وحقوقها، لكن التقابل الموضوع لمعاكسة الدعوة الى تطبيق
الاسلام، يضيع على المجتمع حقه في ان يستظل بسلطة مقتنع بها تنسجم مع
عقيدته وتعيد التواصل مع تاريخه وتضعه في تيار الحضارة والعالمية دون خسارة
لخصوصيته وذاتيته ومنظومة إخلاقه وقيمه الدينية والاجتماعية.
ان الاسلام والعلماني قد لا يختلفان بالضرورة في الاهداف الاجتماعية التي
يسعيان اليها بل في الخلفيات الفلسفية في موقع الدين من الحياة والكون.
فاذا كان الاسلامي يراها من منظورات عقيدته وحضارية وان الاسلام لابد ان
يقود مسيرته، فان العلماني يريدها علاقة فردية بين الخالق والمخلوق، لكنه
يريد للحياة ان تتأسس وفق معايير العدالة والتضامن الاجتماعي والمساواة
والحريات.
ان الخلاف هنا حول المنهج والوسيلة التي تحقق النظام الامثل بما في ذلك
النظام السياسي. فالاسلامي يراه في الاسلام، أما العلماني فانه يتكىء على
فلسفة الغرب ونموذجه الحضاري، ويرى ان التقنين الغربي حديث فيما تقنين
الاسلام تراث ليس من ضرورة لاعادة العمل به بعد ان تجاوزته حركة التاريخ!!
وللحقيقة، فان جل الهجوم المضاد للفكرة الاسلامية انما ينبعث من نقد فكر
الجماعات والقوى الاسلامية، بوصفها تنقل عن الاسلام وتريد تطبيقه، فتثير
خوفاً وهلعاً لدى التيارات الرافضة، له ان الهجوم على فكرة الحاكمية
الالهية التي صاغها أبو الاعلى المودودي، او التركيز على فكر سيد قطب
خصوصاً كتابه (معالم في الطريق)، او في استعراض مواقف حزب التحرير،
والجماعات الاسلامية المصرة على نظام الخلافة، وموقفها من الاقليات الدينية
او نقد تصرفات الجماعات الاصولية، كل ذلك يجري لهدف واحد، وهو الحيلولة
بين الاغلبية وطموحها لاعادة الاسلام الى موقعه في حياة المجتمع(2).
ولا شك ان فاصلة التخلف التي تتسع بيننا وبين الغرب تزيد من تمسك العلماني
بدعواته، فتخلف المسلمين يغري العلمانية بالانغلاق في مواقفها، لتصوغ
موقفها على اساس انها تمثل العصر، والاسلاميون يمثلون التراث، ولم ينفع
استدلال الاسلاميين على ان استمداد السلطة من الاسلام لا تعني العودة الى
نمط الدول اليثوقراطية، او الاتوقراطية، أو الاوليغاركية او الدكتاتورية في
اقناع العلمانيين بان
__________________________________
(1) لا زالت التوترات القومية والعرقية والطائفية تشكل احدى صور الازمة في الواقع العربي المعاصر، في ظل دولة المشروع القومي.
(2) يمكن الرجوع الى كتاب الحركات الاسلامية المعاصرة في الوطن العربي الذي
أصدره مركز دراسات الوحدة العربية، وكذلك ندوة الحوار القومي الديني في
الفصل المتعلق بتطبيق الشريعة الاسلامية للاطلاع على طبيعة الحوارات
والنقاشات التي دارت حول موقف الرافضين لتطبيق الشريعة.
رقابة المجتمع الصحيحة تمنع الاستفراد بالحكم والاستبداد(1)، بل ان جعل
الاسلام مصدر التشريع ليس معناه انسداد الافق امام التقنين للمشاكل
والقضايا المعاصرة، فباب الاجتهاد المفتوح وقدرة الفقه الاسلامي على التجدد
ومتابعة التطور يلغي أي نوع من المخاوف والقلق على حركية المجتمع وتطوره
وملاحقته للحداثة والعصرنة، وكما لا يعني حصر التشريع في الاسلام استعادة
قوانين تاريخية شرعت لمجتمع بمواصفات مختلفة، فان وضع قوانين ادارية
وتنظيمية هو من صلاحيات الحاكم الاسلامي وليس هناك حالة انسداد قانوني،
بسبب مرونة التشريع الاسلامي ووضوح الثابت والمتغير(2)، الطبيعي
والاستثنائي في منظومة الفقه الاسلامي، لكن ذلك كله تم تجاوزه واهماله
لمصلحة الدفاع عن ايديولوجية المشروع القومي المستند الى العلمانية
والحداثة. ولاحظنا ان الخطاب السياسي العلماني سعى الى تأسيس نفسه في
مقولات انتجها بذكاء معتمداً النصوص الاسلامية ذاتها عبر طريق التأويل وفهم
النص بطريقة جدي