الجمهور والتنمية السياسيةتزييف أو سيطرة أو إرتقاء
* زهير سالم
هو عصر الجماهير الذي نعيش. الديمقراطية التي ما زالت مطلباً نحلم به تعني
أن يصبح الجمهور سيد القرار العام، القرار الفردي والقرار الجمعي على
السواء. الزعم أن الجمهور مؤهل فيه كثير من التغرير أو الغرور.
وحَسَبَ الفرنسي (غوستاف لوبون) في كلام له منذ قرن "إن دخول الطبقات
الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة يمثل إحدى
الخصائص الأكثر بروزاً لعصرنا.. ولقد قامت جميع الحضارات التي عرفها تاريخ
البشرية ووُجهت من قبل نخبة مثقفة متعلمة ومسيطرة. وأنه كان دور الجماهير
التاريخي هو الهدم وليس البناء".
والعوام كالهوام مقولة أسبق في تاريخ الأفكار. وللحقيقة كان دور الجمهور
دائماً التضحية لتحقيق مشروع القائد الرائد الذي يقرر ويدبر، ويكون بنَّاءً
أو هداماً، ويحمِّل الجمهور مسئولية التنفيذ. كان للجمهور دور الأداة التي
تبني وتهدم بنفس الحمية.
ومنذ الثورة الفرنسية حيث فرضت الجماهير نفسها، ولو نظرياً، على القرار
الإنساني الحضاري أو السياسي، أو بعبارة أدق منذ أن أصبحت مؤثرة أو شريكة
فيه، بادر المستبدون بهذا القرار إلى الإلتفاف على الوضع الجديد، بأسلوبين
لا يختلفان في نزوعهما الشرير؛ الأول تزييف إرادة الجماهير، من خلال مؤسسات
وهمية تحمل العناوين الجماهيرية، ويغيّب عنها صوت الجماهير الحقيقي: قصر
الشعب، ومجلس الشعب، والمنظمات الشعبية عمالية وفلاحية وطلابية ونقابية،
مؤسسات جماهيرية تصادر جميعها قرار الجمهور لمصلحة الفئة الممسكة بالقرار
الذي يزوّر يومياً باسم تلك لجماهير.
والأسلوب الثاني هو تسخير العلم بمعطياته لتحديد زاوية الرؤية المسبقة للجماهير، وإحكام القبضة على قرارها.
ومنذ عام 1895 زج المؤرخ والفيلسوف الفرنسي (غوستاف لوبون) صاحب كتاب حضارة
العرب الذي أصدره سنة 1984، بكتيّبه الصغير (علم نفس الجماهير) الذي نال
من ورائه من الشهرة ما لم ينله من أي كتاب آخر له، بحث نفسي حاول فيه أن
يمسك الجمهور من قياده الداخلي، ويضعه في يد النخبة الطاغية أو صاحبة
الاستبداد الأملس. قياد يذكرك بالطول المُرخَى الذي صوره طرفة بن العبد منذ
أيام الجاهلية، وتمتع معي بهذه الصورة لديمقراطية الغرب الحديثة:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى*****لكالطول المرخى وثنياه باليد
متـى ما يشأ يوماً يقده لحتفه*****ومن يك في حبل المنايا ينقد
هي حرّية أو ديمقراطية الطول المرخى التي يجول صاحبها ويجول دون أن يشعر بالوتد المضروب والزمام المشدود إلا إذا...
وبعد لوبون تتابعت الأبحاث والدراسات التي تعلِّم رجال السياسية الأساليب
الناعمة للسيطرة على قرار الجماهير، وتوجيهه الوجهة التي يريدها الممسكون
بالزمام.
يستحق علم النفس الجماهير أكثر من موقفة ربما تتاح لنا مستقبلاً. مع ما أدخله عليه فرويد ونظراؤه من بعد.
إن معضلة قرار الجماهير هي جوهر وقفتنا في هذا المقال: وضع القرار في يد
غير المؤهل له، هل هي معضلة حقا؟! تصور ولدك في غرفة العمليات تحت مبضع
ممرض بدعوى المساواة بينه وبين الطبيب!! الجماهيرية في مسائل الفكر
والسياسة والاجتماع والاقتصاد ما هو مبلغها من العلم؟ وما أظنك ستسلم رأسك
لعامل الحلاق يتدرب فيه على عمله الجديد.
هل هي معضلة حقاً؟!
من حقنا أن نرفض ابتداء الخيارين السيئين، تزييف إرادة الجماهير، أو السيطرة عليها بأساليب شيطانية يسميها البعض زورا أساليب علمية.
ومن حق الذين يتخوّفون من الموقف الجماهيري بموضوعية من غرائزية الجمهور.
أو ما يسمّونه الحمى الجماعية. أو بتعبير ثالث سلوك القطيع لديه. يقولون لك
انظر إليهم كيف ينخرطون معاً في موجات هستيرية من الضحك أو من البكاء أو
من الغضب. يجفل غزال على المورد فتتبعه الغزلان، ويطير طائر من السرب فيطير
بطيرانه الجميع. وعلى أساس هذه الرؤية يحاول المحللون النفسيون أن يمسكوا
بمفاتح الإثارة في نفوس الجماهير. لتبقى دائماً في حركتها وسكونها تحت
السيطرة وحسب الطلب.
إنّ الخديعة الكبرى التي يمارسها العالم الذي يسمى متحضراً أنه يحاول
ابتلاع العملية التشاركية الموهومة كما قررنا إما بالتزييف أو بالتأثير
والتوجيه.
ونعود إلى المعضلة في إطار المنهجية الإسلامية، والمشكلة هنا أكثر عمقاً.
القرآن الكريم يقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).
وعملية الاستنباط هذه، وهي عمل منهجي تخصصي، هل يمكن أن تصبح جماهيرية على
أكثر من مستوى، وبأكثر من طريقة فكيف يعمم الخاص، ويقبل القول من غير صاحب
الاختصاص؟!
تعمل الحكومات والقيادات البراغماتية دائماً على الاستثمار في غرور
الجماهير. في هذا العالم تبقى مهمة القائد والسياسي والخطيب أن ينتزع
التصفيق والإعجاب، وأن يكسب الصوت في صندوق الاقتراع؛ وهو مستعد من أجل ذلك
أن يذهب مع جمهوره، حيث يريد هذا الجمهور، وبدل أن يواجه الجمهور بالحقائق
التي لا يُحب هذا الجمهور أحياناً ليأخذه معه في طريق الواجب ينزلق مع هذا
الجمهور في طريق الرغبات. (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) أسلوب شيطاني قديم.
أُسُسُه ما تزال معتمدة عند الكثير من القدماء والمحدثين. والكل يشتق منه
ما يناسب الزمان والمكان والإنسان، ليستمر المنهج الفرعوني سائداً، منهج
الاستخفاف بالإنسان (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) وبين هؤلاء
وأولئك تضيع ثمرة المشاركة وتغيب بركتها بغياب عملية التنمية الوجودية
العقلية والنفسية. اليأس من الجماهير أصل مقرر والاستثمار في الجهل والغرور
هو المطلوب.
فَمَن يقول للجمهور الهادر المتعطش المتحمس: لا؟! مَن يواجه هذا الجمهور
بالحقائق التي يكره؟! وجمهور الراية العميّة مستعد ليرتكب كل الكبائر
والموبقات: غضبة للحق والعدل قتل هذا الجمهور الآثم سيدنا عثمان أي هوام
كانوا هؤلاء!! وباسم الحاكمية والعدل والغيرة عليهما قتل الفاجر الغادر
الشقي سيدنا علي!! قتله تقرباً من الله وتحت راية الله هل تصدق هذا؟أ اسمع
إذن ما قال فيه أصحابه:
يا ضربة من تقي ما أراد بها*****إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
وباسم الطاعة والنظام قُتل سيدنا الحسين، واستباح جمهور يزيد مدينة سيدنا رسول الله(ص)..
ولو أردنا أن نسترسل لما كفانا مجلدات، وها نحن اليوم نسمع زعيق الفتنة
ألوانا من هنا وهناك، تصرخ بها جماهير الفتنة وخطباؤها؛ فيختلط القتل الآثم
بالشهادة، فيقتل الصومالي الصومالي، والقرغيزي الأوزبكي، والأفغاني
الأفغاني، والإيراني البلوشي، والعراقي العراقي، والكردي التركي أو العكس..
والكل يستثمر في جهل الكل وحميته وقصوره وغروره فيدفعه ويدفع معه وبه إلى
حيث ألقت...
في عصر الجماهير هذا حيث يتورع الفرد منّا عن فتوى فردية في هبة أو طلاق أو
إغلاق.. تندفع جماهير غاضبة في فتاوى جماعية تسفك على أساسها الدماء،
وتنتهك الأعراض، وتستباح الأموال، ويقولون: اجتهد فأخطأ!!! ولا يدرون انه
قال لمن اجتهد وهو من غير أهل الاجتهاد: قتلوه قتلهم الله.
مخرجنا الأساس الإستثمار في تنمية الجماهير بدلاً من الإستثمار في غرورها،
أو في التغرير بها. مخرجنا في التأسيس للنفس الإنسانية السوية. وللعقل
الإنساني القويم، وللتفكير المستقيم. وأول النداء أن ينادي الحكماء على
الحكماء: كفوا سفهاءكم، ثم أن يبدؤوا في التأسيس لوعي جماهيري عقلي ونفسي
رشيد.
وعي يبنى على الحب والرحمة والإيثار ويهجر النقمة والقسوة والاستئثار.
* مدير مركز الشرق العرب