سهام الدبابي الميساوي: أهمية ومنهج دراسة الحياة اليومية
[size=40]02مايو 2021بقلم نادر الحمّامي قسم:حجم الخط
-18
+للنشر:
27[/size]
الجزء الأول: دراسة اليومي: أهميّة المبحث وأسباب التغييب.
لا تقل الحياة اليومية أهمية مقارنة بما يعرف بالأحداث الكبرى لدراسة حضارة ما أو فكر ما، فالاهتمام بالأنساق اليومية وبالحياة اليومية وبالثقافة المادية جانب مهم جدًّا يشمل دراسة حياة الناس إضافة إلى ما يمكن دراسته في أي حضارة وأي تاريخ وأي تراث من أخبار الملوك والأمم وغيرها مما تعارفنا عليه في دراسة التاريخ؛ ومنه التاريخ العربي الإسلامي هذا ما ألحت عليه ضيفتنا في هذا الحوار الأستاذة سهام الدبابي الميساوي التي كتبت في موضوع الأنساق اليومية والاحتفالية والطقوسية باعتبارها مكونًا مهمًّا من مكونات الحضارة العربية الإسلامية. وفي هذا السياق يتنزل بحثها المعد لنيل أطروحة دكتوراه الدولة حول الطعام والشراب في التراث العربي، إضافة إلى بحوث أخرى أشرفت على تنظيمها من ضمنها ما نشرته جامعة منوبة حول خطاب الطعام سنة 2014. نشكرها أولاً على قبولها هذا الحوار ثم نحاول أن نتساءل معها عن أهمية دراسة هذه الأنساق اليومية المغيبة في البحث اليوم في المجال العربي والإسلامي بصورة عامة، وهل ما لاحظنا من تغييب لهذه الدراسات صحيح أو إنّه يحتاج إلى نوع من التنسيب؟
د. نادر الحمامي: مرحبًا بك أستاذة سهام.
دة. سهام الميساوي: مرحبًا
د. نادر الحمامي: إذن هل صحيح أنّ هذه الثقافة المادية والبحث في الأنساق اليومية والطقوسية مغيب في الدراسات اليوم وتحتاج إلى دراسة أعمق؟
دة. سهام الميساوي: في الواقع، وقبل أن أبين ما دُرس من هذه الأنساق وما لم يدرس، لا بد من تحديد المقصود بالحياة اليومية واليومي، لأنّنا قد نخلط بين الحياة اليومية والاجتماعية والحال أنّهما مختلفتان، فالحياة اليومية تتكون من الأنشطة الرتيبة والمتكررة التي تكون على درجة كبرى من التكرار حتى أنّ الفاعل يشعر بوطأة هذا الزمن الرتيب، ولكن على الرغم من الشعور بهذا الزمن الرتيب، الذي يمكن أن يكون تراجيديًّا، فإنّ هذه الرتابة تشعره بالأمان. الحياة اليومية إذن تتكون من الأنشطة اليومية الرتيبة وما يعيشه الإنسان في كل يوم، وتتكون، كذلك، من التفاعلات اليومية التي تكون في أفضية عادية ومألوفة كالطريق والبيت ومقر العمل والحقل والميناء... ودراسة الحياة اليومية، إلى جانب ذلك، هي دراسة للأشياء التي تؤثث الحياة اليومية، وهي أشياء مادية ولكنها أيضًا أشياء تُتمثل وتستعمل لتدل على حالة ما وعلى وضع ما، وهي تلفت انتباهنا إلى الأحاسيس اليومية كالألم والفرح والغبطة والطرب والتعب والانفعالات وكل ما يتعلق باليومي، ويعجبني هنا وصف ميشال دي سارتو (Michel de Certeau) (1925-1986) لها عندما يقول إنّ الحياة اليومية هي دراسة فنون الفعل، وفيرناند بروديل (Ferdinand Braudel) (1902-1985) عندما يعرّف الحياة اليومية فيرى أنّ تاريخ الحياة اليومية هو تاريخ مجرى الحياة الطبيعي والرتيب، ولذلك التفت إلى السكن وإلى الغذاء، ودرس غيره العائلة والطفولة والإحساس أمام الموت والمرض.
د. نادر الحمامي: أرجو المعذرة على المقاطعة، ولكنّنا سنعود إلى مسألة تغييب دراسة اليومي كما كنتِ بصدد تعريفه. ذكرتِ علمين وهما ميشال دي سارتو وبروديل بمعنى أنّك، حتى بنوع من الاستباق، في إطار منهج له علاقة بمفهوم كبير فيما بعد الحوليات في فرنسا في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات أقصد الأمد الطويل وعلاقته بمسألة القطائع، خاصة أنّك ذكرت مسألة الرتابة، إلى غير ذلك، فهل تنزّلين بحوثك في هذا المنهج الكبير؟
دة. سهام الميساوي: مدرسة الحوليات هي مدرسة هامة جدًّا، ولكن إلى جانب ذلك المدرسة الألمانية التاريخية التي كان لها رد فعل ضد التاريخ الرسمي، بلفت النظر إلى تاريخ الطبقات الشغيلة وإلى تاريخ النساء مثلاً، ولكن لو عدت إلى مدرسة الحوليات فهذه المدرسة قرّبت بين التاريخ وبين الأنثروبولوجيا فكانت الأنثروبولوجيا التاريخيّة أساسًا للدراسة التاريخية ومنهجًا، فعلاً تأثرتُ بمدرسة الحوليات عندما قرأت ما كتبه هارمادينكر (Hermadinquer) ودوبي (Duby) وبروديل (Braudel) وفوفال (Vovelle) ولوسيان فافر (Lucien Febvre) وأرياس (Ariès)، فإنّني تأثرت بذلك لأنّهم لفتوا انتباهي إلى قيمة الأشياء التي نعتبرها تافهة، ولكنها هي في صميم التاريخ، ولفتوا انتباهي إلى دراسة المؤسسات، ولكن لا كما كنا ندرسها نحن، أي دراسة الخلافة والحجابة والوزارة والقضاء، ولكن دراسة العائلة ودراسة ما يحدث في السوق وفي الميناء وحياة الفلاحين في الحقول. ومن هنا فدراسة الحياة اليومية هي دراسة الفلاح في حقله، والصياد يصطاد سمكه ويشقى، لذلك هي حياة التعب وحياة الشقاء، ولكنها أيضًا حياة الإناسة وحياة الألفة العجيبة التي تبنى في الواقع، وهي الواقع المعيش. فدراسة الحياة اليومية هي دراسة الواقع المعيش، ودراسة طرائق العيش: كيف آكل؟ وكيف ألبس؟ ولماذا ألبس؟ وكيف أنام؟ وكيف أستيقظ؟ وكيف أستحم؟ وكيف أمشي في الطريق؟ وكيف أؤثث بيتي؟ وكيف أحب وكيف أحزن؟ وكيف أشعر بالألم؟ وكيف أمرض وكيف أتداوى؟ وكيف أنتج وكيف أبدع؟ وما هي أبعاد ذلك كله؟ فالحياة اليومية تتكون من أنساق كنسق الطعام ونسق اللباس ونسق السكن، ومن هنا فكرنا في الأنساق تفكيرًا بنيويًّا، معنى هذا أنّها أنساق دالة، وقد بينت في أطروحتي، عندما درست الطعام والشراب في الثقافة العربية والإسلامية والغذاء نسقًا يوميًّا ماديًّا، أنّ الغذاء نسق دال، لأنّ كلود لفي ستراوس (Claude Lévi-Strauss) (1908- 2009)علمني أنّ الغذاء كاللغة هو نسق دال ورامز، كذلك اللباس، وتبينا ذلك من خلال دراسة وإن كانت سيميائية هي في نسق الموضة (le système de la mode)، وقد درسنا ذلك من خلال تفكيره في الأسطورة ومن خلال تفكيره في الطقوس أي أنّ الطقوس هي نسق رمزي. والحقيقة أنّ دراسة الحياة اليومية تفتح المجال لدراسة أنشطة فيها العقلاني وفيها التجريبي والسحري والمتخيل والرمزي والميثي، فالإنسان في ثقافة ما عندما يأكل فهو يفكر في أكله ولكنه، كذلك، يلتهم رموزًا.
د. نادر الحمامي: ما تقولينه الآن يحيل على عدة حقول متقاطعة؛ منها ما هو منهجي ومنها ما هو فكري وحضاري ثقافي عام، أقول هذا لأنّه في نظرك لا يمكن دراسة التراث العربي الإسلامي دون أنثروبولوجيا ودون سوسيولوجيا، هذا منهجيًّا، ثم أنّ مقاربة التراث العربي الإسلامي ربما بهذه المنهجيات وبالانتباه إلى هذا اليومي وهذه الثقافة المادية سيجعله منخرطًا في الحضارات ويمكن أن يدرس هذا التراث العربي الإسلامي كما تدرس بقية الحضارات الأخرى.
دة. سهام الميساوي: قد أعود إلى هذه المسألة، ولكن لعلّي نسيت شيئًا سألتني عنه وهو تغييب دراسة اليومي، ففي الواقع فإنّ كثيراً من زملائي في الجامعة التونسية وخاصة في جامعة 9 أفريل (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس) أشرفوا على دراسات في الحياة اليومية، ولفتوا الانتباه إليها، وتوجد أعمال وأطروحات ورسائل جامعية في ذلك، ولا ننسى أنّه في جامعة الرباط توجد دراسات للمجاعات الكبرى والفقر والحرب ودراسات للتغذية وغير ذلك... ولكنها دراسات قليلة مقارنة بدراسة الديني والسياسي ودراسة مسائل أخرى اجتماعية كدراسة المرأة، ولكنها تكون منعدمة في أقسام العربية إلا بعض ما يوجد في جامعة منوبة، وفي الواقع حاولنا مع أساتذتنا ومع زملائنا منذ التسعينات، عندما أصبحت الحضارة تُدرّس مثلما يدرس الأدب وتدرّس اللغة، وكان ذلك بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، حاولنا دائمًا أن ندرس الحياة اليومية والمادية لأنّنا كنا ومازلنا نؤمن أنّ الحضارة لا تتكون، فقط، من الفكري ولكنها تتكون أيضًا من المادي.
د. نادر الحمامي: هذا الغياب هل ترينه نتيجة اختيار ذاتي أم هو موجّه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من الدراسات الكلاسيكية الغربية، أساسًا، والتي بقيت في إطار الفكري والسياسي والديني، ربما، لإعطاء صورة ما عن هذه الحضارة؟
دة. سهام الميساوي: سادت في السنوات الأخيرة وحتى منذ التسعينات، الدراسات الإسلامية ودراسات الظاهرة الدينية، بشكل عام، والدراسات السياسية، ونحن نتفهم ذلك لأنّنا بحاجة إلى إعادة التفكير في التراث الديني والسياسي، ولكن هل وُجهنا إلى ذلك أم لا؟
نحن في حاجة إلى ذلك، ولكن كأنّنا بقينا في بوتقة أردناها لأنفسنا وأرادها الغرب لنا. وبمعنى آخر فكأنّ ثقافتنا هي ثقافة فقه وتشريع، وعندما نتحدث عن التراث العربي الإسلامي فكأنّنا نتحدث عن الديني والسياسي والحركات الإرهابية وعن العلاقة بين الديني والسياسي، ونحن نُغيّب أو نكاد دراسة الفنون ودراسة العمارة ودراسة التقنيات والمهارات ودراسة العلوم... كأنّنا بترنا جزءًا كبيرًا منا على الرغم من محاولاتنا نحن في قسم العربية، ولكن أنا نظرت وقمت بعملية إحصائية في إطار لجنة انتداب وكانت أمامي أكثر من ستين أطروحة أنظر في أمرها ولفت انتباهي أنّ 90% من الأعمال كانت في الإسلاميات وهي أطروحات مفيدة، ولكن 10% المتبقية كانت 8% منها أطروحات في الفكر العربي الحديث والتيارات الفكرية والسياسية ومشاغل المفكرين العرب و2% أو أقل ربما في موضوعات أخرى كالتمثيلات واللهو والجندريات، وأنا أعتبر ذلك قليلاً لأنّنا في قسم العربية قادرون على دراسة نصوص ومقاربة نصوص تتحدث عن مظاهر شتى من الثقافة العربية والإسلامية لا تقل قيمة عن الموضوعات الكبرى.