صوفية السحيري بن حتيرة: النص والجسد من منظور تاريخي أنثروبولوجي
[size=40]13يونيو 2021بقلم نبيل درغوث قسم:حجم الخط
-18
+للنشر:
12[/size]
حوار مع الدكتورة صوفية السحيري بن حتيرة
النص والجسد من منظور تاريخي أنثروبولوجي
الدكتورة صوفية السحيري بن حتيرة باحثة في التاريخ الإسلامي الوسيط. تعتبر من أهمّ الباحثين الذين تناولوا بالدرس التصورات الذهنية حول الجسد. وهي التي خصّصت بحثين أكاديميين حول الجسد الأنثوي بإفريقية في العهد الحفصي بمقاربة أنثروبولوجية أو أنثروبولوجية تاريخية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد، من خلال درسها لمدونة شاسعة تتكون من مصادر متنوعة فيها المطبوع وفيها أيضاً الذي مازال مخطوطاً من كتب تاريخ وفتاوى ونوازل وحسبة ومناقب وتصوف ورحلة وطب وأدب جنسي. وهذه المدونة للفترة الحفصية الممتدة من القرن 13م إلى نهاية القرن 15م.
التقينا بالدكتورة صوفية بن حتيرة، وأجرينا معها حواراً مطولاً، تطرقنا فيه إلى تغييب دور المرأة في التاريخ الإسلامي، وإلى الخوف من الجسد في ثقافتنا العربية الإسلامية، وإلى الجسد كمبحث تاريخي كما ذهبت المؤرّخة الجامعية بن حتيرة في تحليلها، مبيّنة تاريخيّة النصّ القرآني.
ماهية التاريخ
نبيل درغوث: نستهل حوارنا بسؤال كيف كُتب التاريخ عبر العصور؟ وهل تختلف هذه الكتابة من شعب إلى آخر؟
دة. صوفية السحيري بن حتيرة: التاريخ علم وضعي أرضيّ يتناول فعاليات الأفراد والمجتمعات البشرية في الماضي، ويكمن دور وقوة المؤرخ في إعادة ترتيب وتركيب الأحداث والوقائع التي حصلت في الماضي بصورة أقرب ما يمكن للواقع.
كتابة التاريخ تتغير وتتطوّر لذلك يمكن أن نقول إنّ للتاريخ تاريخاً، مثلاً بالنسبة لكتابة التاريخ الإسلامي (التاريخ الإسلامي الأوّل الناشئ) فإنه اتخذ موضوعاً أساسياً هو حياة النبي محمد، اهتمّ بتسجيل كلّ حدث سواء كان فعلاً أو قولاً (ذلك لتثبيت النموذج - القدوة)، فيكون مجموع الأحداث المعروفة عن حياة الرسول هي "الأخبار"، وجمع الأخبار هي الكلمة الأصلية التي استعملت لتعني التاريخ، أي أنّ الاهتمام الأصلي لعلم التاريخ هو سرد حياة النبي. التاريخ عندهم هو "علم الأخبار والآثار"؛ أخبار وآثار النبي والسلف الأوّل، فكان علم التاريخ تابعاً للعلوم الدينية. مع الملاحظة أنّ لفظ التاريخ لا يوجد لا في القرآن ولا في الحديث ولا فيما عرف من أدب جاهلي. كلمة تاريخ استحدثت لاحقاً، وقد أرجعها أغلب المؤلفين المسلمين إلى أصل فارسي.
أمّا من حيث المنهج التاريخي فقد اتخذ منهج "الإسناد"، أي نقل الخبر أو القول المأثور، ابتدأ من شاهد أو شهود عبر سلسلة أو سلسلات من أشخاص نقلوه وتناوله عنهم آخرون، فتكونت سلسلات النقل أي "أسانيد الخبر".
التاريخ الإسلامي الأوّل هو "تاريخ الحديث" فأوائل المؤرخين كانوا في الآن نفسه رجال حديث. وهذا يعني أنّ ميلاد هذا العلم ارتبط بالحديث الذي اعتبره المسلمون المدشن لتاريخهم، أي "التاريخ - الأمة"، "التاريخ - الحق".
لكنّ التاريخ الإسلامي عرف تحويلاً منهجيّاً أنجزه ابن خلدون، ترتب عنه إخراج وانتزاع علم التاريخ من مجال العلوم الشرعية التي اعتاد المؤرخون والمؤلفون الإسلاميون أن يصنفوه داخلها. فابن خلدون عدّ علم التاريخ من علوم الحكمة أي من علوم الفلسفة "أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق".
أخرج علم التاريخ عن دائرة الإيمان والمعتقد ووضع حدّاً نهائياً للإسناد كمنهج لعلم التاريخ فردّ أخبار التاريخ إلى واقع التاريخ، فقوانين التاريخ كما يراها جزء من قوانين العمران والاجتماع الإنساني والعمران جزء من العالم الطبيعي. فابن خلدون الذي وضع أسس أصول علم الاجتماع العقلاني الوضعاني طرق مجال العقلانية في العلوم الإنسانية دون أن يحدث قطيعة مع الدين والإيمان.
أمّا اليوم وبصفة عامة فإنّ العديد من المؤرخين يسعون إلى تقديم مقاربة واقعية للتاريخ تمزج بين مختلف عناصره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إذ تتعاطى معها كوحدة أو سيرورة مستقلة عن كل ما هو متعال أو مفارق، فالمؤرخ في هذه الحال يبحث عن سرّ الأحداث في الوقائع ذاتها وفي المصالح المتضاربة التي تنبني عليها رهانات سياسية وإيديولوجية.
ووفقا لهذا المنهج المادي للتاريخ المقدس ذاته يصبح علم التّاريخ واقعة أو ظاهرة تاريخية قابلة للفهم والتحليل. لكنّه يبقى في لبّه معرفة حول الإنسان والمجتمع يمسّ في بعض الأحيان رهانات حيوية. كما أنّه كأحد العلوم الإنسانية يبقى علماً لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلم الطبيعة أو الدقة والصرامة كالرياضيات، فهو قد لا ينفلت عن التأويلات، ولذلك على المؤرخ اتخاذ المسافة اللازمة مع واقعه، وأن يتّسم بالموضوعية والدقة والنزاهة وبالحذر في تأويلاته، وأن ينزع عن نفسه كلّ فكرة مسبقة أو خلفية إيديولوجية، همّه هو التفهم ومحاولة تفسير الأمور لا الحكم عليها.
نبيل درغوث: أنجزتِ أطروحة دكتوراه حول "الجسد" بمقاربة أنثروبولوجية، إلى أي مدى يفيد المنهج الأنثروبولوجي في دراسة التاريخ العربي-الإسلامي؟ وما هي الأنثروبولوجية التاريخية؟
دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الأنثروبولوجيا، يطلق عليها أيضاً العلوم الإناسية، تبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته. ولدت الأنثروبولوجيا مع اكتشاف الآخر ومع قبول الإنسان الآخر كشبيه والآخر كمختلف. هي تاريخ وعي الإنسان باختلاف تكوّنه في المدى والزمن. إنّ الدراسات الحقلية للمجتمعات المفارقة بدأت مع ولادة الأنثروبولوجيا التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي. ولكن لا يمكن إغفال كتابات شبه أنثروبولوجية من أعمال فلاسفة أو جغرافيين أو علماء تاريخ قدامى أمثال هيرودوت، المسعودي، ابن حوقل، البكري، الإدريسي، ابن بطوطة، وخاصّة البيروني.
فالأنثروبولوجيا التاريخية علم يحلل تاريخ الإنسان الثقافي، ويهدف الى إدراك دقيق للمواضيع وفهم المعاني وفك الرموز، هو علم يكتسي أهمية بالغة لكونه يثري ويفيد العمل التاريخي، حتى لا يختصر التاريخ على تأريخ الأحداث أو تراجم الشخصيات، بل يتجه نحو ما هو أعمق وأشمل نحو التراكيب العميقة والدقيقة التي تهم الإنسان من قريب في تعامله مع أشياء الحياة.
واليوم بصفة عامة فإنّ مستجدات المناهج والدراسات تتداخل في الفكر المعاصر تداخلاً مذهلاً يزيح الحدود عن التصنيفية القديمة وينفي الاختصاص الجاف. فمؤرخو اليوم إلى جانب الوثيقة المكتوبة يعمدون إلى توسيع وتنويع المواد والشواهد التي يقرؤون بها الماضي. فعلم التاريخ اليوم وصل إلى نوع من النضج بتكاثف المعارف التي تصب فيه من اقتصاد وعلم اجتماع وعلم نفس وأنثروبولوجيا وعلم آثار... إلخ. البحث التاريخي اليوم لا يمكن أن يتجاهل هذه العلوم باسم الاختصاص لكي لا تكون دراسة التاريخ بتراء ضيقة الأفق.
الجسد كمبحث تاريخي
نبيل درغوث: أنجزتِ بحثين أكاديميين: الأول في نطاق شهادة التعمق في البحث، والثاني أطروحة دكتوراه حول الجسد الأنثوي بإفريقية في العهد الحفصي. لماذا كلّ هذا الاهتمام بهذا الموضوع؟
دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الفترة الحفصية التي امتدت زمنياً على ثلاثة قرون تقريباً، من أواسط القرن الثاني عشر ميلادي إلى أواخر القرن الخامس عشر ميلادي، هي عبارة عن الرحم الذي حمل وأعطانا حاضرنا، فالكثير من معتقداتنا وتصوراتنا ومواقفنا اليوم من الجسد وتصرفاتنا معه وخاصة مع الجسد الأنثوي ليست إلا تواصلاً لهذا الماضي، فقد وجدنا رواسب هامة جدّاً غير واعية في أعماق الأنا والوعي، وهو ما ورثناه عن هذا الماضي القريب الذي مضى، لكنه طبع بعمق حاضرنا، وذلك من خلال ما استبطنه اللاوعي الفردي والجماعي، إذ لكل جماعة تاريخ مستبطن يزن على السلوكات والذهنيات، وبصفة عامة إنّ الفترة الحفصية أسّست الملامح الحضارية لتونس الحديثة مادياً ومعنوياً.