في محاولة لاستكشاف مستقبل سلسلة ثورات 2011 الجارية في المنطقة العربية،
واستطلاع فرصها في إحداث التغيير المطلوب علي المستويين الداخلي والخارجي،
يسعي الباحثون والمحللون إلي إعادة تفحص التراكم العلمي النظري والتاريخي
في دراسة وتحليل ثورات الدول والأمم، لعل في ذلك ما يفيد في تفسير حالة عدم
اليقين التي تعانيها المنطقة العربية في الوقت الراهن، وما يعين علي
التنبؤ بآفاق تطور سلسلة ثورات 2011 .
وبينما لجأ البعض إلي تفحص الأشكال المتعددة للثورات التي شهدها التاريخ
الحديث والمعاصر من منظور مقارن مع ثورات 2011، يتم التركيز هنا فقط علي
سلاسل الثورات في الخبرة الدولية، وليس علي الثورات التي اختبرتها دول أو
أمم بصورة منفردة. ذلك لأن إحدي أهم السمات الجوهرية التي تميز سلاسل
الثورات في خبرة التاريخ الدولي أنها تؤدي - حال نجاحها - إلي تغيير شكل
مناطق جغرافية بأكملها، وهو ما ينطبق علي حالة ثورات 2011 في المنطقة
العربية ذات الأهمية السياسية والاستراتيجية والاقتصادية المهمة في السياق
الدولي الحالي.
وعلي الرغم من أنه بحسب منهج التاريخ الدبلوماسي، يجب أن تقيم كل سلسلة من
سلاسل الثورات التاريخية في سياقها الذي يعد إلي حد كبير سياقا فريدا،
سواء علي مستوي الداخل أو علي مستوي الخارج، فإن التنقيب في التاريخ الحديث
والمعاصر - الذي يعد المعمل الفعلي للنظريات المفسرة للسلوك السياسي - عن
حالات مشابهة من سلاسل الثورات يؤدي إلي اختبار دقيق للفروض النظرية الخاصة
بدراسة الثورات. وانطلاقا من هذه الفرضيات، يمكن الاهتداء إلي مجموعة من
الدلالات التي قد تنطبق علي سياق سلسلة من الثورات لم تكتمل بعد، وهو الحال
في سلسلة ثورات 2011 في المنطقة العربية. وسوف يلقي هذا التحليل الضوء علي
عدد من سلاسل الثورات الأساسية.
السلسلة الأولي هي ثورات الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، التي بدأت
بثورة يوليو في فرنسا، ثم انتقلت إلي بلجيكا في أغسطس، ثم اجتاحت بولندا في
نوفمبر، ثم إلي عدد من الدول الإيطالية الراغبة في التحرر من نفوذ
الامبراطورية النمساوية. وتتسم سلسلة ثورات 1830 عموما بالفشل باستثناء
حالة بلجيكا. السلسلة الثانية هي سلسلة ثورات 1848 في القارة الأوروبية،
وكانت أوسع سلاسل الثورات نطاقا وأفشلها في النتائج. بدأت هذه السلسلة
بالثورة الفرنسية، ثم اجتاحت القارة الأوروبية موجة ثورات، أهمها تلك التي
اندلعت في الدويلات الإيطالية، ثم الدويلات الألمانية، ثم ثورة المجر علي
الإمبراطورية النمساوية، ثم انتفاضة الأيرلنديين علي بريطانيا العظمي.
والسلسلة الأخيرة هي سلسلة ثورات 1989 الناجحة، والتي اجتاحت أوروبا
الشرقية للإطاحة بأنظمة الحكم الشيوعية التي سيطرت علي هذه الدول طوال فترة
الحرب الباردة. إلي جانب هذه السلاسل الكبري، يتم التعرض من حين إلي آخر
لعدد من سلاسل الثورات الأصغر نطاقا، كحالة سلسلة ثورات 1820 في أوروبا،
وكحالة سلسلة ثورات 1875 في البلقان في إطار الدولة العثمانية.
نتائج نظرية عامة في قراءة سلاسل الثورات في الخبرة الدولية: إن أغلب سلاسل الثورات التي حكم عليها التاريخ الدولي بالفشل وقت وقوعها،
تم وصفها في فترات لاحقة بمثابة الحلقة الضرورية من حلقات متعددة أسهمت
جميعها في إحداث التغيير المرغوب، حتي وإن بعد حين. حيث توضح النظرة الكلية
لفترات تاريخية طويلة الفواصل الأساسية لتطور مناطق العالم والجماعات
الإنسانية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. أيضا، توضح هذه النظرة الكلية نتائج
سلاسل الثورات في إطار منطقة جغرافية محددة.
لهذا، يمكن القول إنه علي الرغم من فشل سلاسل ثورات العشرينيات
والثلاثينيات وأواخر الأربعينيات في القرن التاسع عشر في تحقيق أهدافها
ومطالبها التحررية والقومية والديمقراطية، فإن الوحدة الإيطالية التي تحققت
في 1861، والوحدة الألمانية التي تحققت في 1871 تعدان إلي حد كبير نتاجا
غير مباشر لما سبقهما من سلاسل ثورات طرحت المطالب القومية للأمتين
الإيطالية والألمانية. كذلك، فإن الحكومات الدستورية التي سادت في أغلب
الدول الأوروبية مع نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر كانت النتيجة
البعيدة لسلاسل الثورات والانتفاضات الشعبية التي سبقتها بعقود طويلة. بل
كانت أيضا نتاجا بعيدا لما انتجته الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن
عشر من تأسيس الجمهورية الفرنسية الأولي، وما طرحته من أفكار تحررية وقومية
وديمقراطية تمثلت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن.
وعادة ما اختبرت الدول حالة من عدم اليقين عقب الثورات، تمثلت في غياب
القدرة علي الحكم الآني علي نجاح الثورة من فشلها، وكان ذلك بصورة خاصة في
سلاسل الثورات التي تبين فيما بعد أنها لم تحقق نتائجها. أما في حالة سلاسل
الثورات الناجحة، فلم تختبر الدول فيها هذه الحالة من عدم اليقين.
ويتضح من تفحص سلسلتي ثورات 1830 و1848 أن مكاسب هذه الثورات الأولية كانت
تنذر بتحقيق الثورات لأهدافها. وفي حالة سلسلة ثورات 1830، التي بدأت
بالثورة الفرنسية في يوليو علي الحكم الاستبدادي للملك شارل العاشر، يلاحظ
أن الثورة قد نجحت بالفعل في إبعاد الملك، وإقامة ملكية دستورية بزعامة
لويس فيليب. ثم انتقلت عدوي ثورة يوليو إلي بلجيكا في أغسطس، ونجحت في
تحقيق استقلال بلجيكا، ثم اجتاحت الثورة بولندا في نوفمبر 1830، حيث نجح
البولنديون في طرد نائب القيصر الروسي، وإقامة حكومة وطنية. كما انتقلت
الثورات إلي عدد من الدول الإيطالية الراغبة في التحرر من نفوذ
الامبراطورية النمساوية وتحقيق أحلامها بالوحدة القومية.
علي الرغم من هذه النجاحات الأولي، فإنه خلال شهور قليلة اتضح فشل سلسلة
ثورات 1830 باستثناء حالة بلجيكا. فقد قمع الروس البولنديين في 1831، وقمع
النمساويون الثورات الإيطالية، وبات واضحا بعد أعوام قليلة أن ثورة يوليو
في فرنسا لم تحقق أهدافها.
أما حالة سلسلة ثورات 1848، فتعد مثالا لسلاسل الثورات التي نالت فشلا
ذريعا في تحقيق أهدافها. ولكن هذا الفشل لم يتأكد إلا بعد مرور ما بين
العامين والثلاثة أعوام من اندلاعها. ذلك ببساطة، لأن ثورات 1848 قد نجحت
بالفعل في بداياتها في تحقيق ما يمكن أن يوصف بالكثير، ومن ذلك: نجاح فرنسا
في تأسيس الجمهورية الثانية. وخلال أسبوع من المكاسب الثورية المتحققة في
فرنسا، نجح الثوار في ميونخ في طرد ملك بافاريا، وبعدها بأسبوع اجتاحت
الثورة برلين (عاصمة الامبراطورية البروسية في ذلك الوقت). وحتي مع محاولات
قمعها بالقوة، فإنها أدت إلي هروب الملك وتشكيل وزارة منتخبة، والاتفاق
علي انتخابات برلمانية.
اندلعت بعد ذلك الثورة في إمبراطورية هابسبرج النمساوية، والتي أدت إلي
إنهاء حكم مترنيخ الذي طال حكمه ما يقرب من النصف قرن. أعقب ذلك اندلاع عدد
من الاضطرابات الشعبية التي اجتاحت الدويلات الإيطالية الشمالية في إقليمي
لمبارديا وبيدمونت، والتي نجحت في تحقيق التراجع النسبي للوجود العسكري
النمساوي المسيطر عليها. وأخيرا، تم تأسيس حكومات جديدة في أغلب الدول
الأوروبية الأساسية التي شهدت هذه الثورات(1).
تمثل نجاح هذه الثورات في سقوط رءوس أنظمة أو في اعتماد مجموعة من
الإصلاحات لاحتواء تفاقم الثورة. إلا أنه مع هذه النجاحات التي حققها
بالفعل الثوار الليبراليون الجمهوريون والطبقات الوسطي في أوروبا، سادت
حالة من عدم اليقين حول ما إذا كان التغيير الكامل المرغوب أوشك علي
التمام، أم أن القوي المحافظة المضادة سوف تنال من هذه الثورات غير
المكتملة. فبعد مضي نحو عامين فقط من 1848، نجحت القوي المحافظة المضادة
للتوجهات الليبرالية الجمهورية في استعادة مواقعها الحاكمة. وبات يقينا مع
حلول عام 1851 فشل سلسلة ثورات 1848 مع الانقلاب الذي نظمه لويس نابليون،
مدعوما من مطالبي الاستقرار في مواجهة تيارات الإصلاح الاشتراكية. وقام
لويس نابليون بحل البرلمان وإعلان عودة الملكية المطلقة إلي فرنسا.
أما تفحص حالة سلسلة ثورات 1989 الناجحة في أوروبا الشرقية، فيتضح منه أن
دول هذه المنطقة لم تواجه حالة عدم يقين في تقدير ما إذا كانت ثوراتها تحقق
أهدافها من عدمه. ويرجع ذلك إلي أنه كانت هناك خطوات جوهرية للتغيير، سبقت
اندلاع الثورات، بل إن ثورات 1989 جاءت متوجة لها. بدأت هذه الخطوات
بالتغيير الجوهري في سياسات الاتحاد السوفيتي، سواء علي مستوي إدارة الدولة
داخليا، أو علي مستوي استعداده لتحمل أعبائه الخارجية التقليدية، وهو ما
طرح بصورة مباشرة في المؤتمر ال- 27 للحزب الشيوعي السوفيتي الذي عقد في
فبراير-مارس 1986 .
جاءت خطوة التغيير الثانية في الخطاب التاريخي لجورباتشوف أمام الجمعية
العامة للأمم المتحدة بجلستها ال- 43 في ديسمبر 1988، حيث أعلن خفض القوات
العسكرية السوفيتية بصورة منفردة في دول حلف وارسو. وأشار جورباتشوف صراحة
إلي نية الاتحاد السوفيتي لإنهاء عسكرة العلاقات مع هذه الدول كمجتمعات
مغلقة سياسيا واقتصاديا. كما تقدم بمبدأ جديد ليحكم العلاقة بين الاتحاد
السوفيتي ودول أوروبا الشرقية الشيوعية، وهو مبدأ "حرية الاختيار". إضافة
إلي ذلك، أعلن جورباتشوف بصورة لا تدع مجالا للشك عزم الاتحاد السوفيتي نزع
الأيديولوجية عن علاقاته الخارجية.
لذلك، فإن التحولات الجذرية التي حلت بمنطقة أوروبا الشرقية في عام 1989
لم تكن بمثابة البجعة السوداء التي أربكت المنطقة أو العالم في كيفية
التعامل معها. ولم تكن هناك حالة من عدم اليقين حول تقييم نتائج ثورات
أوروبا الشرقية. فمن ناحية أولي، كان هناك عامل "وضوح ودقة الهدف" الذي ميز
هذه الثورات، والذي تمثل في التخلص من الحكم الشيوعي المطلق ومن قبضة
الاتحاد السوفيتي، أي مركزية الهدف السياسي بالأساس، مقابل التغيير
الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الشامل(2). وهو الهدف الذي حاولت هذه الدول
تحقيقه في عقود سابقة دون نجاح، من خلال خوض أزمات دامية في مواجهة الاتحاد
السوفيتي، كالأزمة المجرية في 1956، والأزمة التشيكوسلوفاكية في 1968 .
ومن ناحية ثانية، التحضير الفعلي لحملات مقاومة للشيوعية في هذه الدول.
وكانت التطورات في بولندا بداية من 1982 من أهم العلامات علي ذلك، متمثلة
في الحملة التي قادها والسا في مقاومة فرض حكومة وارسو للأحكام العرفية،
وهي الحملة التي دعمها البابا يوحنا بولس الثاني، أول بابا كاثوليكي من أصل
بولندي يرتقي كرسي الباباوية في روما في 1978 . من ناحية ثالثة، كان
التحول المعلن والصريح في سياسة الاتحاد السوفيتي نفسه، وجاهزية النظام
الدولي لتقبل نجاح هذا التغير الجوهري ومساندته سياسيا واقتصاديا.
لهذا، فإن فهم خصوصية سياق سلسلة ثورات 1989 يفسر عدم بدء هذه الثورات في
دول أوروبا الشرقية بثورة شعبية في إحدي دولها، وإنما بعملية جس نبض أو
اختبار للتغير المعلن في سياسة الاتحاد السوفيتي. حدث ذلك في 1988، عندما
قامت المجر بإعلان تخفيف القيود علي حرية تنقل الأفراد، مما أنتج موجة من
الهجرة التلقائية لسكان ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) إلي ألمانيا
الاتحادية (الغربية) عن طريق المجر. وعندما لم يواجه ذلك بأي اعتراض أو
منع، فقد شجع الألمان علي عملية الهدم السلمي لحائط برلين الذي مثل رمز
الانقسام بين الشرق والغرب قرابة العقود الثلاثة، ثم بعد ذلك اندلعت سلسلة
ثورات 1989، بداية بتشيكوسلوفاكيا ثم رومانيا.
وقد مثلت اعتبارات توازن القوي وتأكيد النفوذ بين القوي الكبري عاملا
حاسما في استعداد النظام الدولي لتقبل نجاح أي سلسلة من الثورات يمكن أن
تحدث تغييرا جوهريا في مناطق جغرافية مهمة، أو في شكل فاعل أساسي، سواء في
محيطه الإقليمي، أو علي مستوي النظام الدولي. وهذه النتيجة النظرية تجد ما
يدعمها في كل سلاسل الثورات في التاريخ الحديث والمعاصر، وتفسر إلي حد كبير
تعاون القوي الكبري لقمع ثورات التغيير في العشرينيات والثلاثينيات وأواخر
الأربعينيات من القرن التاسع عشر، وتشجيعها لإنجاح سلاسل ثورات أخري.
ويمكن في إطار هذه النتيجة النظرية التمييز بين ثلاثة أنماط لاستراتيجيات القوي الكبري في التعامل مع سلاسل الثورات التاريخية: أولا- العمل علي قمع ثورة، حتي وإن كانت في دولة أو أمة "غير مهمة" لتجنب
إحداث تغيير مشابه في مناطق "مهمة". وتعد ثورة اليونانيين علي الإمبراطورية
العثمانية في فبراير 1821 - ضمن سلسلة الثورات الفاشلة التي بدأت في 1820 -
مثالا علي ذلك، حتي وإن كانت قد نجحت مع عام 1830 في تحقيق استقلال
اليونان. ودون الدخول في تفاصيل ثورة اليونان، وعوامل إخفاقها في البداية
ثم نجاحها بعد نحو عقد كامل من الزمان، فالنقطة الجوهرية في هذا السياق هي
أن القوي الكبري وقت اندلاع الثورة اليونانية، خاصة الإمبراطورية
النمساوية، عملت علي قمعها، علي الرغم من تعاطف الرأي العام الأوروبي مع
اليونانيين، نتيجة المذابح الدامية التي شنتها الدولة العثمانية لمقاومتها.
هذا الموقف الأوروبي لم يتشكل بناء علي أهمية اليونان، التي تعد هنا
بمثابة الأمة غير المهمة سياسيا واستراتيجيا في هيكل توازن القوي الأوروبي
في تلك الفترة، وإنما تشكل هذا الموقف علي اعتبار أن حصول اليونان علي
استقلالها قد يؤدي إلي إثارة المطالب القومية والتحررية لعدد كبير من
القوميات والإثنيات الداخلة في نطاق إمبراطوريات أوروبا الكبري، وأهمها
الإمبراطورية النمساوية المتعددة القوميات.
يفسر ذلك موقف الامبراطورية النمساوية التي هبت لمساعدة الدولة العثمانية
في قمع الثورة اليونانية، وحثت السلطان العثماني علي الاستعانة بجيش محمد
علي باشا المصري لقمعها. أما الامبراطورية الروسية، فقد ساندت اليونانيين
انعكاسا للعداء التاريخي بين روسيا والدولة العثمانية، وأملا في أن تكون
اليونان منطقة نفوذ روسي، إذا ما نجحت في الاستقلال. من المهم أيضا ملاحظة
أن الموقفين البريطاني والفرنسي المتعاطفين مع ثورة اليونانيين تشكل فقط
بناء علي اعتبارات توازن القوي، وخوفا من اختلال هذا التوازن لصالح روسيا،
إذا ما استقلت اليونان.
ثانيا- العمل علي إنجاح ثورة ضمن سلسلة ثورات فاشلة لاعتبارات توازن القوي
وتأكيد النفوذ: مثل نجاح ثورة البلجيكيين في تحقيق استقلال بلجيكا الثورة
الوحيدة الناجحة في سلسلة ثورات 1830 الفاشلة. وقد جاء النجاح هنا ليس
كنتيجة لأي ميزة تتعلق بالبلجيكيين أنفسهم، وإنما لرغبة فرنسا في نشأة دولة
بلجيكية محايدة علي حدودها، ولتأكيد المكانة الفرنسية والقدرة علي الفعل
بعد إهانة فيينا 1815 . وقد بلغت مساندة فرنسا للبلجيك حد التهديد بالتدخل
العسكري، إذا ما حاولت إحدي القوي الأوروبية قمع الثورة البلجيكية.
ثالثا: الدفع لإنجاح سلسلة ثورات في منطقة محددة لإعادة رسم مناطق النفوذ
والمصالح بين الدول الكبري في نطاقها: وتعد سلسلة الثورات التي اندلعت في
إطار الدولة العثمانية من جانب القوميات السلافية بزعامة صربيا في عام 1875
مثالا لهذه الاستراتيجية. أخذت هذه الثورات شرارة البدء من ثورة البوسنة
والهرسك، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي مر بها الإقليم في هذا العام، وأعقب
ذلك ثورة البلغاريين Stara Zagora الأولي في العام نفسه، ثم ثورتهم
الثانية في أبريل من العام التالي ضد الحكم العثماني. تطورت هذه الثورات
سريعا إلي حرب بلقانية مع الدولة العثمانية، حيث رأت القوي الأوروبية أن
الوقت قد حان لإعادة رسم مناطق النفوذ في منطقة البلقان. لذلك، ساندت القوي
الأوروبية هذه الثورات، وعملت علي إنجاحها بصورة لا تخل بتوازن القوي
الأوروبي لصالح الإمبراطورية الروسية التي كثيرا ما مثلت الهاجس الرئيسي في
هذه المنطقة الجغرافية. وتم العمل علي إنجاح هذه الثورات بصورة تسمح
بإعادة تقسيم مناطق النفوذ في البلقان، والموازنة في المكاسب الإقليمية بين
القوي الأوروبية الكبري، وهو ما تجسد في نتائج مؤتمر برلين 1878 .
ولعل المثال الأكثر حداثة هو مثال سلسلة ثورات 1989 في وسط وشرق أوروبا.
ولا يمكن فهم نجاح هذه الثورات علي الإطلاق دون النظر إلي الخلل الذي أصاب
توازن القوي في إطار الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفيتي والولايات
المتحدة الأمريكية، مع التغيير الجوهري الذي طرحه جورباتشوف بداية من 1985،
وانتهاء بخطابه التاريخي السابق ذكره في ديسمبر 1988 أمام الجمعية العامة
للأمم المتحدة. وقد مهد كل ذلك لاستعداد النظام الدولي لتغيير شكل هذه
المنطقة الجغرافية المهمة.
دلالات الخبرة الدولية بالنسبة لسلسلة ثورات 2011 في المنطقة العربية: علي الرغم من اختلاف السياق العام ما بين سلاسل الثورات المستقاة من خبرة
التاريخ الدولي وسياق سلسلة ثورات 2011، وهو ما يشكل قيدا علي إمكانات
التعميم والتنبؤ، فإن خبرة سلاسل الثورات في العصر الحديث والمعاصر وما
تطرحه من نتائج نظرية عامة تقدم عددا من الدلالات والدروس المستفادة التي
تمكن من فهم أعمق وتحليل أشمل لحالة سلسلة ثورات 2011 في المنطقة العربية.
بداية، يمكن القول إن هناك تشابها كبيرا بين سلسلة ثورات 2011 في المنطقة
العربية وسلاسل الثورات الأوروبية التي وقعت في القرن التاسع عشر، خاصة
سلسلة ثورات 1848، وذلك لعدة عوامل، أهمها:
- تشابه أهداف ودوافع ثورات القرن التاسع عشر عموما - خاصة سلسة ثورات
1848 التي تمثل أكبر سلسلة ثورات علي الإطلاق في التاريخ الأوروبي الحديث -
مع أهداف ودوافع سلسلة ثورات 2011 العربية. يتمثل ذلك في سيادة حالة من
عدم الرضا العام من جانب الطبقات الوسطي والمثقفة في أوروبا ضد الحكم
الديكتاتوري الذي كثيرا ما مارسته الملكيات المطلقة علي المستوي الداخلي،
والأوضاع الاقتصادية المتأزمة الناتجة عن اضطلاع الامبراطوريات الأوروبية
بدور واسع في مناطق نفوذها المتزايدة، نتيجة توسع الظاهرة الاستعمارية علي
المستوي الخارجي. يشبه ذلك إلي حد بعيد دوافع قيام ثورات 2011، حيث مطالب
التغيير الشامل علي مستوي الداخل السياسي والاقتصادي وعلي مستوي الخارج،
وذلك علي العكس من ثورات 1989 التي تميزت بدقة ووضوح الهدف السياسي،
المتمثل في إنهاء الحكم الشيوعي.
- كما استفاد الثوار في 1848 من الطفرة النسبية في وسائل الاتصال والوصول
إلي المعلومات التي صاحبت انتشار الثورة الصناعية في القارة الأوروبية، وهو
ما يشبه - مع الفارق الشاسع في التقدم في تكنولوجيا الاتصالات - أهمية
الطفرة في وسائل الاتصال واستفادة الثوار منها في 2011 .
وتتشابه السلسلتان أيضا في سيادة حالة من عدم اليقين عقب اندلاعهما، خاصة
سلسلة ثورات 1848، بما في ذلك الدول في سلسلة ثورات 2011 التي تعد حتي الآن
ناجحة، وأهمها تونس ومصر.
واستكمالا للنقطة السابقة، فإن حالة عدم اليقين التي تميزت بها الثورة
الفرنسية في 1848 كان مصدرها صعود قوي راديكالية بين صفوف الثوار، مما عزز
من فرص تشكل قوي ثورية مضادة تطالب بعودة الاستقرار. وقد شكل ذلك في 1848،
كما يشكل الآن في 2011، تهديدا أساسيا لمطالب قوي التغيير والإصلاح
المعتدلة. فعلي وجه التحديد، شكل صعود اتجاهات الإصلاح الراديكالية في
فرنسا - والتي طالبت بتطبيق الاشتراكية وأحدثت نوعا من الاضطراب الداخلي
عقب ثورة 1848 - أحد أهم العوامل التي أدت إلي تقوية الاتجاهات المحافظة
القديمة، ونجاحها في إعادة طرح أفكارها وتوجهاتها السياسية علي المسرح
الفرنسي، وأخيرا استعادتها للسلطة.
وعلي الرغم من عدم إمكانية التنبؤ بمستقبل وآفاق سلسلة ثورات 2011، فإن
ظهور اتجاهات الإسلام السياسي علي المسرح العربي بقوة عقب هذه الثورات -
التي بدأتها قوي معتدلة من الناحية الدينية - يعيد إلي الأذهان مشهد أوروبا
عقب ثورات 1848 . هذا السياق التاريخي الذي يكرر نفسه ينسجم مع أحد
الاستنتاجات النظرية المهمة من واقع خبرة الثورات المقارنة. ومفاد هذا
الاستنتاج أنه عقب الثورات، عادة ما تواجه الجهود الإصلاحية للمعتدلين
بظهور مراكز قوة راديكالية تتميز بقوة تنظيمية وتعبوية أعظم. وغالبا ما
تؤدي حالة عدم الانضباط السياسي والمجتمعي التالية للثورات إلي حالة من فرض
النظام والاستقرار بالقوة القسرية(3).
هذا التشابه في السياق يطرح حالة فشل الثورة الفرنسية في 1848 ليس كمنظور
تشاؤمي للتنبؤ بمستقبل مثيل لثورات 2011، وإنما كدرس مستفاد لخبرات الثورات
الجارية في المنطقة العربية.
ومن الدروس المستفادة أيضا أن نجاح أو فشل ثورة الدولة القائد في إحداث
التغيير الإيجابي ينعكس علي نجاح أو فشل سلاسل الثورات في إطار منطقة
معينة. فهنا، يمكن مقارنة الدور الفرنسي، كقائد وبادئ لسلاسل ثورات التغيير
في أوروبا في العصر الحديث، وكيف انعكس النجاح ثم الفشل الفرنسي علي باقي
حلقات الثورات الأوروبية، بالدور المصري في المنطقة العربية. بناء علي ذلك،
يمكن استنتاج أن نجاح الثورة المصرية في إحداث التغيير المرغوب علي
المستويين الداخلي والخارجي سوف يكون له أثره الأكيد علي باقي حلقات سلسلة
ثورات 2011 في المنطقة العربية، وعلي إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد، والعكس
صحيح.
وهناك درس مستفاد آخر من جميع سلاسل الثورات الناجحة والفاشلة في التاريخ
الدولي الحديث والمعاصر، وهو أن هيكل توزيع القوي في النظام الدولي،
وعمليات توازن المصالح بين الفاعلين الأساسيين في هذا النظام هي عوامل لا
يمكن استبعادها في محاولة تحديد مصير سلاسل ثورات، من شأنها تغيير شكل
مناطق جغرافية مهمة، سياسيا واستراتيجيا، كالمنطقة العربية.