تعد نظرية فيكوتسكي (1896-1934) البنائية، من أكثر الطفرات العلمية خصوبة وتألقا في تاريخ علم النفس الحديث، وهي تترجم عبقرية فيكوتسكي البنيوية التي أدهشت معاصريه في نهاية القرن التاسع عشر، بما قدمته من عطاءات مذهلة بكل المقاييس العلمية في مجال علم النفس والتطور النفسي والعقلي عند الأطفال([1]).
- اقتباس :
ولد ليف سومينوفيتش فيكوتسكي Lev Vygotsky عام 1896، و ترعرع إبان الثورة الروسية بأحداثها الدموية المريعة؛ انتسب إلى كلية الحقوق وتخرج من الجامعة سنة 1917، أي في العام الذي انتصرت فيه الثورة البلشفية وتولت مقاليد السلطة في روسيا. وعلى أثر تخرجه من الجامعة تركز اهتمامه العلمي في مجال علم النفس بصورة عامة وعلم نفس الطفولة بصورة خاصة، وقد وشكل موضوع نمو الأطفال و تطورهم النفسي شغله الشاغل وموضعه الرئيس، حيث وجد نفسه في مهنة التعليم والطب النفسي بعيدا عن ميدان التخصص الجامعي الحقوقي الذي انخرط فيه بداية في الجامعة([2]). ومن ثم بدأت عبقرية فيكوتسكي تظهر بوضوح في مجال البحث العلمي عندما بدأ بنشر مجموعة من المقالات الرائعة في مجال علم النفس، وهي الأعمال التي وجدت طريقها إلى المؤتمر الثاني للأمراض العصبية و النفسية بلننجراد عام 1924.
كان فيكوتسكي مؤمنا بمبادئ الثورة البلشفية، متحمسا لتعاليم ماركس؛ وكان يعتقد بأن النظام الاشتراكي هو النظام الأمثل لمجتمع إنساني تسوده قيم العدالة والحق والمساواة. وتحت تأثير هذه النزعة الماركسية كتب مقالا بعنوان "التغيير الاجتماعي للإنسان" في عام 1930 يبين فيه أن التحول الثوري للمجتمع كان ضروريا لتغيير الحياة المادية والظروف المجتمعية.
وتحت تأثير هذه الرؤية الأيديولوجية الماركسية، بدأ فيكوتسكي يؤسس لعلم النفس الماركسي منطلقا من مفاهيم ومبادئ الماركسية وتصوراتها، مضفيا عليه ملامح نزعة اجتماعية مفرطة تنطلق من أهمية التغيير الاجتماعي في إحداث منظومة من التحولات البنيوية في مجال سيكولوجيا الجماهير والحياة اليومية، وفي دائرة هذا التوجه السيكولوجي بدأ يدرس الظواهر النفسية في ظل التحولات المجتمعية الطبقية، التي شهدها المجتمع الروسي تحت مطارق الثورة البلشفية. لقد أحدثت الثورة البلشفية ثورة في الأمزجة وفي التصورات والتكوينات النفسية للمجتمع في روسيا القيصرية، وفي ظل هذه الأوضاع بدأ المجتمع يشهد تحولات سيكولوجية واسعة، وعلى هذا الأساس بدأ فيكوتسكي يفكر في الجوانب الاجتماعية للعملية النفسية، ويرى أصولها متجذرة في طبيعة الحياة الاجتماعية، وعلى أساس هذه الرؤية تكونت عقيدته السيكولوجية في الإيمان الكبير بأن الظواهر النفسية تُفسر بالطبيعة الاجتماعية وترتد إلى أصولها المجتمعية، وينطلق هذا التصور من إقرارا شامل بعقيدة علمية تؤمن بأن سيكولوجيا الجماهير يمكن أن تُحدد وَترتسم عبر تحولات مجتمعية عميقة الجذور. وقد شكلت رؤيته هذه نابضا أساسيا من نوابض تطور النظرية الماركسية في علم النفس، وهذه الرؤية كانت متشبعة بالطابع الأيديولوجي، حيث كان يعتقد بأن علم النفس الماركسي ليس مجرد مدرسة بين المدارس، بل هو علم النفس الذي يشتمل بذاته على خصائص العلم الحقيقي دون غيره من النظريات السيكولوجية التي كانت قائمة في عصره، ولذلك فإن فيكوتسكي يعد في حقيقة الأمر واحدا من كبار مؤسسي علم النفس الماركسي ودعاته في القرن التاسع عشر([3]).
وفي ظل هذه العقيدة الأيديولوجية الواضحة لعلم النفس، عمل فيكوتسكي على تطبيق المبادئ الماركسية في الكشف عن قانونية الطبيعة النفسية للإنسان، وهو في هذا السياق يتنكر للنظريات السطحية التي اعتمدها بعض معاصريه من علماء النفس تأسيسا على مقولات منطقية تتعلق بالقوانين العامة للماركسية ولاسيما قانون التحولات الكمية إلى كيفية، وقانون وحدة وصراع الأضداد، وقانون نفي النفي، وغير ذلك من القوانين والمبادئ العامة التي شكلت منهجا سيكولوجيا اعتمده بعض مفكري علم النفس الماركسي في تأسيس تصوراتهم النفسية. و على خلاف ذلك انطلق فيكوتسكي من المنهجية الماركسية في أصولها العلمية التي تعتمد على مبدأ الملاحظة والتجربة في اتجاه الكشف عن معالم سيكولوجيا الإنسان وتطور العقل الإنساني([4]).
لقد أكدت أعمال فيكوتسكي الأولى، في جامعة موسكو، آراءه عن تأثير التكوينات الاجتماعية الثقافية في تشكل الظواهر النفسية وتطورها، فالصراعات والتناقضات التي نجمت عن الثورة الروسية، خلفت أنماطا متعددة من المشكلات السيكولوجية، ولاسيما هذه التي تتمثل في أمراض نفسية عاناها المجتمع الروسي إبان الاضطرابات الدموية في ذلك العصر. لقد عمل فيكوتسكي مع مرضى هذه المرحلة، و لاحظ أن أغلب هذه الحالات المرضية يمكن أن تعالج عبر فعاليات اجتماعية ناجعة ترتكز إلى مبادئ المساندة والتوجيه والإرشاد والتشجيع، التي تساعد المرضى في التعويض عن آلامهم النفسية ومعاناتهم السيكولوجية، فالتعويض الاجتماعي غير المباشر يمكّن المريض من القيام بعدد من الوظائف السيكولوجية ولاسيما القراءة و التواصل و التذكر و التفكير و الاستنتاج([5]).
الخصائص الاجتماعية التاريخية للظاهرة النفسية:
يبرر فيكوتسكي الطبيعة الاجتماعية للظاهرة السيكولوجية بتأكيده على أن الظاهرة النفسية نتاج للتفاعل الاجتماعي والتجارب الاجتماعية المكونة للثقافة، وبالتالي فإن الثقافة بما تشتمل عليه من علامات ورموز ومصطلحات لغوية وقيم ومنتوجات إنسانية تشكل العناصر الأساسية للتفاعل الاجتماعي الذي يوجد في أصل الظواهر النفسية.
فأسلوب التنشئة الاجتماعية، بما تنطوي عليه من تفاعل بين الآباء والأبناء، تملي على الأطفال صيغا سيكولوجية محددة في طريقة استجاباتهم وتفاعلهم، فطريقة الآباء في السيطرة على الأطفال تحدد للأطفال نوع وطبيعة المشاعر التي تمتلكهم، وتشكل منطق رؤيتهم للوجود، بصورة تبدو على نحو سيكولوجي راسخ المعالم. فطرق تربية الأطفال و الاهتمام بهم تؤدي إلى خلق شخصيات اجتماعية منفتحة أو منعزلة، كما أن التسلط الدائم على الطفل و عدم منحه الحرية الكافية تكون شخصا سلبيا مسلوب الإرادة، وعلى خلاف ذلك، فإن إعطاء الطفل حرية التعبير عن الرأي و الاهتمام و الثقة الكافية، تولد لديه قوة الإرادة وتعطيه ملامح شخصية فاعلة، وهذا يعني بالنتيجة أن سيكولوجيا الطفل تتشكل في أتون التجربة الاجتماعية للتنشئة الاجتماعية بما لها وما عليها، وعبر هذه التجربة التربوية المجتمعية تتشكل طبيعة الطفل النفسية بما تنطوي عليه من مشاعر وجدانية ومضامين تتعلق بأنظمة الوعي والإدراك والأحاسيس([6]).
فالثقافة الإنسانية كما يؤكد فيكوتسكي تشكل الظواهر السيكولوجية عبر علاقة الفرد مع العالم الذي يحيط به: فالجلوس على الكراسي، و تناول الطعام باستخدام أدوات المائدة، وما يتعلق بالحيّز المكاني لشروط الطعام، يؤثر في تكوين سيكولوجية الفرد بطريقة مختلفة عما إذا كان يتناول طعامه جالسا إلى جوار شخص آخر على الأريكة، أو تناول الطعام باليد، وبالتالي فإن العيش في شكل مثلث يولد معطيات مختلفة عن تلك التي توجد في شكل دائري.
وإذا كان للمكان هذه الأهمية في تحديد الخصائص السيكولوجية للفرد، فإن أهمية الرموز الثقافية تفوق هذه الأهمية وتتجاوزها إلى حدّ كبير، فالرموز والمعاني والتصورات الثقافية القائمة تشكل وتحدد وتبلور الصيغ المختلفة للتكوينات السيكولوجية المتعددة. فالطريقة التي ندرك بها الأحداث تحدد ردود أفعالنا الانفعالية تجاهها، فهناك أحداث وأفعال تغضبنا وتحزننا أحيانا، وتفرحنا أحيانا أخرى، وهذه الحالات الانفعالية مرهونة بالتفسير الذي نعتمده لتحديد طبيعة هذه الأفعال. وهذا يعني أن التفسير الذي نسقطه على الأشياء هو الذي يحدد موقفنا السيكولوجي منها، فعلى سبيل المثال، بعض الناس يغضبون جدا لانهيار مبنى تحت تأثير زلزال طبيعي، لأنهم يعتقدون أن هذا المبنى لم يستوفي الشروط المطلوبة للأمن ضد الزلازل، ولذلك فإنهم يهاجمون السلطة والأنظمة السياسية القائمة لإهمالها وعدم العناية بالشروط الهندسية للبناء؛ ولكن بعض الناس يحزنون فقط لأنهم يرون في هذا الفعل الطبيعي تجليا للقضاء والقدر والامتحان الإلهي للإنسان على الأرض، و لذا فإن بعض الأحداث المؤلمة في المجتمعات ذات الثقافة التقليدية لا تلقي لومها على السلطة السياسية ولا تمتلكها مشاعر الغضب.
وهذه الوضعيات الانفعالية تنسحب على القضايا التي تتعلق بطبيعة إدراك الناس للمسافات والأحجام والأوزان والحركة، حيث تكون لكل شعب أو جماعة طريقتها في فهم الأشياء وتفسيرها والتفاعل معها وجدانيا بطرق انفعالية متنوعة؛ على سبيل المثال: يدرك الفلاحون في أوزباكستان ألوان معينة على أنها مختلفة وغير متجانسة بطريقة تختلف عن إدراك المعلمين لها الذين يرونها متشابهة متجانسة، ويفسر هذا التباين الإدراكي بالخلفية الثقافية لكل مجموعة، فإدراك الفلاحين للألوان مرتبط بالأشياء، بينما إدراك المعلمين للألوان هو إدراك مجرد يحمل طابعا رمزيا، فالفلاحون يرون أن لون روث البقر يختلف عن لون روث الخنزير لأنهم من مصدرين مختلفين، بينما يرى المعلمين أن اللون البني منفصل أو مجرد و لا يربطونه بشيء آخر، فيصنفون الألوان على هذا الأساس.
ويعيد فيكوتسكي أصنافا أخرى من الظواهر السيكولوجية مثل الإدراكات الخاطئة و فقدان الذاكرة إلى أرومة اجتماعية، ويعلن بأن فقدان الذاكرة يمكن أن يفسر بأنه صيغة من صيغ التجليات اللاشعورية ناجمة عن بواعث اجتماعية، ويبين في هذا السياق أن التصورات الجماعية برموزها وآليات اشتغالها هي التي تحدد طبيعة إدراك الفرد كما أنها تحفز بعض أنماط السلوك و تثبط أنماط أخرى. ويعمم فيكوتسكي رؤيته هذه على أنماط الذكريات التي تتعلق بالماضي حيث يعتقد بأن هذه الذكريات تتلون بمعاني الحياة الاجتماعية وترتسم بوحي من دلالاتها، فالأحداث الاجتماعية بمضامينها واتجاهاتها ودلالاتها تشكل ذكريات الفرد وترسم له ملامح ذاكرته الإنسانية.
وتجد هذه الفكرة ما يساندها في دراسة قام بها روبنز ( 1963 ) حول سلوك بعض الآباء المتعلمين في مدى مطابقة الذكريات لطريقة تغذية الأطفال، و قد وجد أنه الذاكرة تأخذ مسارا توافقيا مع بعض العادات والتقاليد والقيم السائدة. وهذا ما يؤكده روبنز حيث وجد بأن الذكريات تنحرف عن مسارها بتأثير العادات والقيم السائدة في المجتمع فحوالي نصف عدد الأمهات ( أفراد العينة) أخطأن في تذكر كيفية إطعام أبنائهن ( هل تم ذلك بناء على طلب الأبناء؟ أو بناء على وجود جدول معين؟ )، لقد أعلنت أكثر من 65% من الأمهات أنهن كن يطعمن أطفالهن بناء على طلبهم لا بناء على جدول زمني، و ذلك لأن النمط الأول هو النمط المفضل اجتماعياً. ولاحظ الباحث عدم دقة الأمهات في تذكر عادة مص الأصابع لدى أطفالهم حيث أنكرن ذلك لأنه سلوك غير محبب اجتماعياً.
و في نفس السياق السابق يثبت كل من كوردو و ماكجرو و درابمان بأن ذاكرة الأطفال حول دور الجنس الموصوف في القصص يعتمد على أهمية هذه الأدوار في التقسيم المعياري الجنسي للأعمال في المجتمع. و التقسيم المعياري لدور الفرد في القصص قائم على أساس الجنس مثلاً: الرجل هو الطبيب، و المرأة هي الممرضة، و هو التقسيم الأكثر دقه لقبول دور النوع من الآخر المناقض لنظرة المجتمع الطبيعية لتوزيع الأنواع على الأدوار ( مثلاً: أن يكون الرجل ممرض و المرأة هي الطبيبة ).
وإذا كانت الأحداث الاجتماعية، ووقائعها وقيمها، تؤدي إلى تشويه الذكريات، فإن الحياة المجتمعية لا تؤدي إلى هذا الدور السلبي دائما، لأنها في معظم الحالات تسهم في جعل الذاكرة أكثر دقة، لأن المفاهيم الاجتماعية تنظم الذاكرة لاستدعاء الخبرات الأكثر شيوعاً، فالاعتماد على تناغم الحياة الاجتماعية، تمكن الأشخاص عادة من استدعاء الحوادث التي حدثت فعلاً، ولكن حالة تشويه الذكريات تكون في المواقف التي لا تتطابق فيها الأحداث السابقة مع الخبرات الشائعة حيث يمكن حذفها أو تجاهلها.
فتذكر الألوان يعتمد على الطريقة التي تستخدم فيها تلك الألوان في التواصل الاجتماعي. فقد أثبتت دراسات عدة بأن الألوان ذات المدلولات اللغوية و التي تستخدم في عملية التواصل الاجتماعي يمكن استدعائها بسهولة أكثر من تلك التي ليس لها مدلولات لغوية و لا تستخدم في عملية التواصل الاجتماعي. هذا ويبين كل من راتنر و ماك كاثي (1990 ) بأن تذكر الألوان يعتمد على ما إذا كانت تلك الألوان مرتبطة و تتوافق مع أشياء ذات علاقة بخبرات الشخص الثقافية، فالخلفية الثقافية للأشخاص تحسن من تذكر الألوان أكثر من الخصائص الشكلية للألوان مثل صفائها.
ويتجاوز الدور الاجتماعي للحياة تأثيره إلى بعض أشكال الخرف النفسي، ففي المجتمعات التي تسودها الخرافات والتطير والمفاهيم غير المنطقية، يبني الأفراد توقعاتهم وإدراكهم لذاتهم و مظهرهم الخارجي و أفكارهم عن كيفية التعامل مع الحياة والضغوط بطريقة مَرَضية، حيث يؤدي استمرار هذه التصورات إلى تشويه حقيقي في تكويناتهم النفسية والإدراكية.
وفي اتجاه الكشف عن العلاقة بين الوظائف السيكولوجية، والحياة الاجتماعية يبين فيكوتسكي([7]) أن مشكلات الحياة تؤدي إلى تطور مختلف الوظائف العقلية والذهنية للفرد مثل: الإدراك، الذاكرة، الانتباه، ويعاد تشكيلها على أساس جديد وفقا لوضعية اجتماعية واضحة البيان. فالثقافة هي التي تحدد الجوانب السيكولوجية للفرد، ولاسيما فيما يتعلق بالمشاعر والأحاسيس والدوافع و الاحتياجات و الإدراك و الذاكرة والتخيل، وبالتالي فإن هذه العناصر السيكولوجية هي أجزاء مكملة لمخطط الإدراك المعرفي الثقافي، ومرتبطة بالشخصية الواعية الاجتماعية([8]).
الأسس الفيزيولوجية للظاهرة النفسية:
يؤكد فيكوتسكي من جانب آخر على أهمية الأصول البيولوجية للظاهرة السيكولوجية، ويرى بأن العوامل الفيزيولوجية تمارس دورا واضحا ومتنوعا في تشكيل معالم الظواهر السيكولوجية، حيث يتنوع دور العوامل البيولوجية في التأثير على الخبرات السيكولوجية طوال مراحل الحياة. ويلاحظ فيكوتسكي في هذا السياق أن تأثير العمليات البيولوجية يبدأ فعله ونشاطه في مراحل الطفولة المبكرة، ويبدأ دوره بالتراجع لصالح العوامل الاجتماعية تدريجيا، ويطلق فيكوتسكي على هذا التحول أسم العوامل الجينية الاجتماعية للظواهر السيكولوجية.
تبعاً لهذه الدراسة فإن ردود الأفعال البيولوجية المنعكسة عند الأطفال التي ترتبط بالغرائز والهرمونات هي التي تحدد سلوك الأطفال والحال لا يختلف كثيرا عند الأطفال عنه عند الحيوانات. فأنماط السلوك الطفولي بما يشتمل عليه من ابتسام و بكاء و عناد وردود أفعال عبارة عن أنماط من السلوك البيولوجي البسيط المتكرر، وهي العمليات التي يطلق عليها فيكوتسكي بالأنماط السلوكية الدنيا. فالطفل الذي يتحرك تحت تأثير هذه العمليات الدنيا من السلوك، يستجيب تلقائيا وعفويا دون تفكير أو إدراك للعالم من حوله، فهو يندمج معه فقط ويتفاعل على نحو آلي عفوي بيولوجي([9]).
فالعمليات البيولوجية الدنيا، ليست ظواهر سيكولوجية بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنها لا تنطوي على الفهم أو الخبرة، بل هي كما يصفها فيكوتسكي عبارة عن ردود أفعال عمياء للمنبهات الخارجية والداخلية. فالظواهر النفسية ظواهر معقدة، وهي تتطلب انفصال الكائن عن العالم ليكوّن ذاتا مستقلة، تمكنه من فهم التجارب والمثيرات والوسط، وتجعله قادرا على اختبار العالم الذي يعيش فيه. وهذا الانفصال عن الواقع باتجاه تكوين الذات، يقتضي هدما للروابط الطبيعية القائمة بين الكائن والعالم. فبدلاً من أن تسيطر العمليات الطبيعية على ردة فعل الكائن تجاه العالم في الحالة البيولوجية الدنيا، يأخذ نظام معقد من العمليات العقلية دوره في توجيه ردود فعل الإنسان في اتجاه التفاعل مع العالم الذي يعيش فيه. فالوعي الذاتي يقوم بأداء رائع لعمليات الفهم والتحليل والإقبال والامتناع والمبادرة، و يقوم بالرد على المنبهات، وينظم فعاليات الفرد وردود أفعاله إزاء المنبهات الخارجية والداخلية منها على حدّ سواء.
وتأسيسا على هذا التصور يعلن فيكوتسكي ضرورة إعادة بناء المنظومة الاجتماعية بشكل يسمح للطفل بأن ينتقل من مراحل الإدراك البدائية، إلى المراحل الأكثر رقيا التي تقوم على أساس إدراك العالم الخارجي، و تتضمن تلك المنظومة الاجتماعية عمليات متنوعة، منها: التحفيز، والإرشاد، و المكافأة، و العقاب والتقليد، وهي عناصر تنظم سلوك الطفل، وترتقي به إلى المستويات الانفعالية والوجدانية المطلوبة.
فالتغييرات البيولوجية في الدماغ ضرورية أيضاً لاستبدال العمليات السيكولوجية البدائية الأولية بأخرى أكثر تعقيداً و تقدماً. فالقشرة الخارجية للدماغ تتطور لتسيطر على معظم ردود الأفعال التي كانت تتم بواسطة الجزء الأدنى في دماغ الطفل. و مع ذلك فإن التغيير الناشئ عن عمل قشرة الدماغ محفزة و مدعمة بالعلاقات الاجتماعية. فالخبرة الاجتماعية تقوم بالتحفيز لتطوير القشرة الخارجية للدماغ.
توفر الخبرات الاجتماعية الوسائل الثقافية لضبط العمليات البيولوجية البدائية، و إخضاعها لسيطرة الوعي الذي يحولها بدوره إلى ظاهرة سيكولوجية؛ إن كثيرا من مظاهر الحياة الانفعالية للطفل مثل البكاء والهذيان والتشنج والخوف والغضب والثرثرة والانتباه تنتظم وتضبط على نحو تربوي، من خلال النماذج التربوية التي يطرحها المربون من آباء أمهات ومعلمون. فالمربون يقومون بتوجيه تلك الأنماط من السلوكات البدائية باتجاهات جديدة، عن طريق إكسابها بعض الخصائص الثقافية في طبيعة التجاوب مع المنبهات الجديدة الخارجية والداخلية، ويتضمن ذلك تعليم الأطفال أفضل الطرق التي تتيحها المعايير الثقافية في السيطرة على مختلف المنبهات والظروف التي توجد في وسط الأطفال. ووفقا لهذه الفعاليات الاجتماعية الثقافية يتحرر السلوك الإنساني من طابعه البدائي الأولي أو البيولوجي، ليأخذ طابعا سيكولوجيا محددا وواضح المعالم، ويتحول من مجرد سلوك آلي آني، يعتمد ردود الفعل البيولوجية، إلى سلوك معقد تحكمه مهارات عقلية واتجاهات نفسية معقدة وهادفة. وفي هذا النمط المعقد من التجاوب المنظم الانفعالي مع الوسط يوظف الكائن منظومة من القرارات والفعاليات الذهنية الواعية التي تعطي للسلوك صبغته الإنسانية الواعية.
ويلاحظ في هذا الخصوص، أن فيكوتسكي لا يقلل أبدا من أهمية العمليات البيولوجية الأولى، بل يراها مرحلة أساسية وهامة من مراحل تطور الإنسان سيكولوجيا، لأن ردود الأفعال البيولوجية، في سياق تطورها وتناميها، تعمل على تحسين الأداء النفسي والسيكولوجي عند الإنسان، لأنها تنمي العمليات الكيفية والمهارات الذهنية التي تؤدي في النهاية إلى تنمية الانتباه والتفكر عند الفرد.
عندما نتحدث عن التطور الثقافي في التكوين السيكولوجي للفرد، فإن ذلك يرمز إلى تحول كبير يؤدي إلى تنمية العمليات النفسية وإخضاعها في الوقت نفسه لسيطرة الإنسان. فالانتباه الطوعي يرجع إلى حقيقة أن الأشخاص الذين يحيطون بالطفل يبدءون باستخدام حوافز و وسائل متعددة لتوجيه انتباه الطفل و وضعها تحت سيطرتهم، ومن غير هذا التدخل الثقافي، فإن التطور العضوي الطبيعي للطفل، لا يمكنه أبدا أن يصل إلى الانتباه الانتقائي أو الطوعي. إن كلمات الطفل الأولى ليست سوى صرخات بيولوجية مؤثرة، إنها ردود فعل بيولوجية تعبر عن حاجات الطفل إلى الطعام والعناية وتجنب الألم، ولكن هذه الصرخات والحركات العفوية تكتسب معنى ودلالة بتأثير المحيطين بالطفل الذي يعطون لهذه الصرخات دلالة ومعنى، ويحولونها إلى طاقة سيكولوجية بتنظيمها وتوجيهها، فالآباء يمنحون صرخات الطفل وكلماته معنى ويحملونها دلالة منطقية بمعزل عن إرادة الطفل الحقيقية. بعد ذلك تتحول تلك الكلمات إلى وسيلة تخاطب يعبر فيها الطفل عن ذاته بشكل واعي و مقصود.
وهذا الأمر ينسحب على الذاكرة أيضاً، فالذاكرة تتشكل بالانتقال أيضا من حالة طبيعية إلى حالة ثقافية سيكولوجية. يتذكر الأطفال الأشياء الموجودة والمجسدة أمامهم مباشرة، ولكن هذا الأداء التذكري يتطور لاحقا وبفعل التشريط الثقافي الاجتماعي إلى نوع من التذكر المجرد الرمزي غير الحسي. وبالتالي فإن مجموعة من العمليات الثقافية تمارس فعلها لتنظيم عمل الذاكرة وآليات اشتغالها في اتجاه الانتقال بها من حالتها الطبيعية الحسية العفوية إلى حالة رمزية مجردة واعية، وبالتالي فإن هذا التحول من الشكل الطبيعي للذاكرة إلى الشكل الثقافي منها يؤدي إلى تطوير الذاكرة والارتقاء بها ابتداء من مرحلة الطفولة إلى مرحلة البلوغ.
فالطريقة التي تستخدم فيها الذاكرة المفاهيم الثقافية لاستعادة المعلومات تتشكل بواسطة خبرة الفرد: لا يمكن أن أتذكر عنوان الكتاب الذي أحتاجه ولكني أعرف موضوع الكتاب، و بعد ذلك بدأت أتذكر الفصل الذي ناقشت فيه هذا الموضوع، ثم فكرت في الكتب التي استعنت بها في ذلك الفصل، و أخيراً توصلت لاسم الكتاب الذي كنت أبحث عنه. تلك العملية المعرفية المعقدة تنتج عنها استعادة ما لم يمكن استعادته من الذاكرة المباشرة.
السبت سبتمبر 22, 2018 3:31 am من طرف حمادي