عودة فرويد
(*) حاليا، يكتشف علماء الأعصاب أن توصيفاتهم البيولوجية للدماغ يمكن أن تتواءم فيما بينها على
نحو أفضل حين تتكامل مع النظريات النفسية التي وضعها فرويد قبل قرن من الزمن.
في النصف الأول من القرن الماضي سيطرت أفكار <زيگموند فرويد> على تفسيرات كيفية عمل عقل الإنسان. كان افتراضه الأساسي يتمثل في أن دوافعنا تبقى إلى حد كبير كامنة في عقولنا اللاواعية. وأكثر من ذلك، فإن هذه الدوافع تُستبعد من ساحة الوعي عبر قوة كابتة. فالجهاز التنفيذي للعقل (ال«أنا» ego) يستبعد أي دوافع لا واعية (ال«هي» id) يمكن أن تستحث سلوكا لا يتوافق مع مفهومنا الحضاري عن ذواتنا. ويُعد هذا الكبت ضروريا، لأن الدوافع تعبِّر عن نفسها في أهواء غير مقيدة وتخيلات صبيانية وإلحاحات جنسية وعدوانية.
وإلى حين مماته في عام 1939، كان فرويد يقول إن المرض العقلي يَنْتج حينما يُخفق هذا الكبت. وتنجم الرُّهابات phobias ونوبات الهلع panic attacks والوساوس obsessions عن اقتحام الدوافع المستترة للسلوك الإرادي. وبذلك فإن هدف العلاج النفسي حينذاك هو تقصي الأعراض العصابية رجوعا إلى جذورها في اللاشعور وإخضاع هذه الجذور إلى المحاكمة judgement الناضجة الراشدة بحيث تجردها من قوتها القسرية.
ولكن مع تقدم أبحاث العقل والدماغ ابتداء من خمسينات القرن الماضي، اتضح للمختصين أن الأدلة التي قدمها <فرويد> إثباتا لنظرياته كانت ضعيفة إلى حد ما؛ إذ إن طريقة استقصائه الرئيسية لم تعتمد على التجريب المنضبط، بل على مشاهدات على المرضى في جلسات العيادات، متداخلةً مع استدلالات نظرية. وقد أدى ظهور العلاجات الدوائية والمُقارَبات البيولوجية للأمراض العقلية إلى انحسار التحليل النفسي تدريجيا. ولو عاد <فرويد> إلى الحياة اليوم لرحب بهذه التحولات. وبوصفه عالم أعصاب مرموقا في عصره، أبدى <فرويد> مرارا ملاحظات مثل «لعل القصور في وصفنا كان سيختفي لو كنا في وضع يسمح لنا بالاستعاضة عن المصطلحات النفسية بأخرى فيزيولوجية وكيميائية.» لكن <فرويد> لم تكن لديه المعارف العلمية والتقانية لتعرّف الكيفية التي نُظِّم وفقها الدماغ في الشخصية العادية السوية أو في تلك المصابة باضطراب عصبي.
وبحلول الثمانينات من القرن الماضي اعتُبرت أفكار (ال«أنا») و(ال«هي») أفكارا عتيقة، حتى في بعض دوائر التحليل النفسي، وصار <فرويد> تاريخا. وفي علم النفس الجديد، يعتبر التفكير المحدَّث updated thinking أن الأشخاص المكتئبين لا يشعرون بدرجة كبيرة من البؤس لأن شيئا ما قد شوه تعلقهم(1) في أثناء الطفولة ـ وإنما لأن كيماويات أدمغتهم ليست متوازنة. ومن ناحية أخرى، لم تقدم الفارماكولوجيا النفسية نظرية بديلة رئيسية حول الشخصية personality والانفعال emotion والدافعية motivation، تعطي تصورا جديدا ل«ما يجعلنا أسوياء». فبدون هذا النموذج ضَيَّق علماء الأعصاب منظور أبحاثهم وتركوا الصورة الكبيرة وشأنها.
واليوم تعود تلك الصورة مرة أخرى إلى بؤرة الاهتمام، وتتمثل المفاجأة في أنها تشبه الصورة التي كان <فرويد> قد رسم معالمها منذ قرن من الزمن. صحيح إننا مازلنا بعيدين عن الإجماع، ولكن عددا متزايدا من علماء الأعصاب آخذ بالتوصل إلى الاستنتاج نفسه الذي توصل إليه [من جامعة كولومبيا، وهو الحائز جائزة نوبل في الفيزيولوجيا والطب لعام 2000]، ومفاده أن «التحليل النفسي يبقى أكثر المشاهد تماسكا ورصانة وإرضاء للعقل.»
ها هو <فرويد> يعود، وليس من الناحية النظرية فحسب؛ إذ تشكلت، في كل مدينة رئيسية في العالم تقريبا، مجموعات بحثية في فروع مختلفة من المعرفة، قامت بربط ما كان في السابق غالبا ميادين منفصلة ومتضادة من مجالات علوم الأعصاب والتحليل النفسي. وبدورها، فإن الشبكات الناجمة عن هذا الربط انضمت بعضها مع بعض فيما يسمى الجمعية الدولية للتحليل النفسي والعصبي. وتنظم هذه الجمعية مؤتمرا سنويا، كما تقوم بنشر المجلة الناجحة التي تحمل اسم «التحليل النفسي-العصبي» Neuro-Psychoanalysis. ويتجسد الدليل الحقيقي على الاحترام المتجدد لآراء <فرويد> في تشكيل المجلس الاستشاري لهيئة تحرير المجلة المشار إليها آنفا، والذي يتألف من خبراء معروفين في علم الأعصاب السلوكي المعاصر، ومن ضمنهم و<كاندل> و و و و و و.
يصوغ هؤلاء الباحثين معا ما يدعوه <كاندل> «إطارا فكريا جديدا للطب النفسي.» وفي داخل هذا الإطار يبدو أن التنظيم (التَعضّي) العقلي mind organization الذي أوجد <فرويد> خطوطَه العريضة مقرر له أن يؤدي دورا مشابها لما أدته نظرية دارون في التطور لصالح علم الوراثة الجزيئي molecular genetics، بمعنى أن تؤدي دور قالب template يمكن أن تترتب ضمنه التفصيلات البازغة. وفي الوقت نفسه يميط علماء الأعصاب الآن اللثام عن براهين لبعض نظريات <فرويد>، كما يستنبطون الآليات المسببة للعمليات العقلية التي وضعها.
الدوافع اللاشعورية(**)
حين قدم <فرويد> الفكرة المحورية بأن معظم سيرورات السياق العقلي التي تحدد أفكارنا اليومية ومشاعرنا وإرادتنا إنما تحدث بشكل لاشعوري، بادر معاصروه إلى رفضها على أنها مستحيلة. ولكن مكتشفات اليوم تؤكد وجود دور جوهري لمعالجة عقلية لاشعورية. فعلى سبيل المثال، يتأثر بالأحداث «المنسية» forgotten سلوك المرضى غير القادرين على تذكر واعٍ للأحداث التي تقع بعد تلف بنى معينة تخص تكويد الذاكرة في أدمغتهم. ويدرك المختصون بعلوم الأعصاب المعرفية cognitive neuroscientists مثل هذه الحالات من خلال تحديد منظومات الذاكرة المختلفة التي تعالج المعلومات على نحو «بيّنٍ صريح» (أي واع) وعلى نحو «ضمني» (أي غير واع). إن <فرويد> يقسم الذاكرة على أساس هذين الخطين بالذات.
وكذلك حدد المختصون بعلوم الأعصاب هوية منظومات الذاكرة اللاشعورية التي تتوسط في التعلم الانفعالي emotional learning. ففي عام 1996 أوضح <لودوكس> [في جامعة نيويورك] وجود مسار عصبوني neuronal pathway يقع تحت القشرة المخية الواعية ويربط المعلومات الإدراكية بالبنى الدماغية البدائية المسؤولة عن توليد استجابات الخوف. ولما كان هذا المسار يلتف حول الحُصَيْن (الذي يولِّد الذاكرات الواعية) متجاوزا إياه، تبعث الأحداث الحالية على نحو روتيني ذكريات لاشعورية لأحداث ماضية مهمة من الناحية الانفعالية، الأمر الذي يُسبب مشاعر واعية تبدو غير منطقية، مثل القول بأن «الرجال الملتحين يجعلونني غير مرتاح.»
لقد أظهرت علوم الأعصاب أن بنى الدماغ الرئيسية الضرورية لتكوين الذاكرات الواعية (الصريحة) تكون غير فاعلة خلال السنتين الأوليين من العمر، وهذا يقدِّم تفسيرا لائقا لما سماه <فرويد> «انعدام الذاكرة الطفولي» infantile amnesia. وحسبما يستشف <فرويد>، فإن الأمر لا يعني نسيان ذكرياتنا المبكرة، بل يعني عدم استطاعتنا استدعاءها إلى الوعي (أي إلى ساحة الشعور). ولكن عدم المقدرة على استدعائها هذا لا يحجب تأثيرها في مشاعر الفرد البالغ وسلوكه. وسيستغرب المرء أن يجد مختصا بالبيولوجيا العصبية التطورية لا يوافق على أن الخبرات المبكرة، ولاسيما ما بين الأم وطفلها، تؤثر في نمط الارتباطات الدماغية بطرق تحدد صحتنا العقلية والشخصية المستقبلة على نحو جوهري. ومع ذلك، فإن أيا من هذه الخبرات لا يمكن تذكره بشكل واع. ويتضح على نحو متزايد أن قدرا كبيرا من نشاطنا العقلي يتم تحفيزه لاشعوريا (على نحو لاواع).
تزكية الكبت(***)
حتى لو أثّرت الأفكار اللاواعية في توجيه سلوكنا إلى حد كبير، فإن هذا لا يثبت شيئا فيما يخص ادعاء <فرويد> بأننا نكْبِتُ بقوة المعلومات البغيضة. ولكن ثمة دراسات لحالات تدعم تلك الفكرة آخذةٌ بالزيادة. ويأتي أشهرها من دراسة أجراها في عام 1994 عالم الأعصاب السلوكي <راما شاندران> [في جامعة كاليفورنيا بسان دييگو] على مرضى بِعَمَه العاهة anosognosia، حيث يجعل تلف الناحية الجدارية اليمنى من الدماغ هؤلاء الناس لا يعون عيوبا جسدية كبرى، كشلل الأطراف على سبيل المثال. وعقب تفعيل النصف المخي الأيمن لدى مريضة بِعَمَه العاهة، لاحظ < راما شاندران> أنها فجأة صارت تعي أن ذراعها اليسرى مشلولة وأنها ظلت مشلولة منذ أن تعرضت لسكتة دماغية قبل ثمانية أيام. ويبين ذلك أنها قادرة على تعرف عيوبها وأنها قد سجلت هذه العيوب على نحو لا واع طوال الأيام الثمانية الماضية على الرغم من إنكارها الواعي لوجود أي مشكلة لديها أثناء ذلك الوقت.
ومن اللافت أنه عقب تلاشي تأثير التنبيه هذا لم تعد المرأة إلى حالتها السابقة فحسب، بل نسيت كذلك جزء المقابلة الذي اعترفت خلاله بأن ذراعها كانت مشلولة، على الرغم من تذكرها كل شاردة وواردة تخص تلك المقابلة. وهكذا استنتج <راما شاندران>: «أن التضمين النظري المهم من هذه الملاحظات يتمثل في أن الذكريات يمكن أن يتم كبتها انتقائيا. وللمرة الأولى، أقنعتني حالة هذه المريضة بحقيقة ظاهرة الكبت، التي تشكل حجر الزاوية في نظرية التحليل النفسي الكلاسيكي.»
فرويد في شبابه، سنة 1891.
وعلى شاكلة مرضى «الدماغ المشطور» split brain الذين يعانون فك الارتباط بين النصفين المخيين لديهم والذين ذاع صيتهم في دراسات الراحل [من معهد كاليفورنيا للتقانة، والحائز جائزة نوبل] في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فإن مرضى عَمَه العاهة يستبعدون بوجه خاص حقائق لا تروق لهم ويعطون تفسيرات لأفعالهم المدفوعة لاشعوريا تحمل طابع الإيهام بالمعقولية ولكنها ملفقة. وبهذه الطريقة، حسبما يقول <راما شاندران>، يوظف النصف المخي الأيسر «آليات الدفاع الفرويدية» توظيفا واضحا.
نظرة إجمالية/ نماذج العقل(****)
• على مدى عدة عقود، هيمنت الأفكار الفرويدية (مثل ال«أنا» ego وال«هي» id والرغبات المكبوتة) على علم النفس ومحاولات الطب النفسي شفاء الأمراض العقلية. ولكن فهمًا أفضل لكيمياء الدماغ حل محل هذا النموذج تدريجيا، مع تفسير بيولوجي لكيفية نشوء العقل من النشاط العصبوني. • ولكن أحدث المحاولات لتجميع المكتشفات المتنوعة لعلم الأعصاب أخذت تقود إلى إطار كيميائي للعقل يُثبت صحة المخطط العام الذي وضعه <فرويد> قبل قرن من الزمن تقريبا. ويتحمس عدد متنام من العلماء للتوفيق بين علم الأعصاب والطب النفسي في نظرية موحدة. |
وكذلك جرى تبيان ظواهر مماثلة لدى أناس ذوي أدمغة سليمة. فحسبما أشار الباحث في علم النفس العصبي [من جامعة درهام في إنكلترا] في تعليق له بمجلة نيتشر Nature عام 2001، فإنه إذا أمكن إحداث تأثيرات كبت مهمة لدى أناس عاديين في ظروف مختبرية تجريبية غير مؤذية، فسيكون من المحتمل حدوث تأثيرات أعظم منها في الحالات الرضحية traumatic التي تحصل في الحياة اليومية.
مبدأ اللذة(*****)
لقد ذهب <فرويد> إلى أبعد من ذلك، حين قال بأن الأمر لا يقف عند كون العديد من جوانب حياتنا العقلية لاشعوريا unconscious وحبيسا، بل إن الجزء المكبوت من العقل اللاواعي يعمل طبقا لمبدأ يختلف عن «مبدأ الواقع» reality principle الذي يحكم الأنا الواعية. فهذا النمط من التفكير اللاواعي يعلل النفس بالآمال، ويغفل ـ وهو مفعم بالسرور ـ قواعد المنطق واتجاه الزمن.
فإذا كان <فرويد> على حق، لا بد أن يطلق تلفُ البنى المثبطة للدماغ (التي تعد مقر ال«أنا الكابتة» repressing ego) نماذجَ من العمل العقلي تنافي التفكير السليم وتساير تمنيات النفس. وهذا هو بالضبط ما أمكن ملاحظته لدى مصابين بتلف في المنطقة الحَوْفِيّة limbic region الجبهية التي تتحكم في نواحٍ مهمة من الشعور بالذات self-awareness؛ إذ يبدي هؤلاء المصابون متلازمة لافتة للنظر (تدعى ذُهان كورساكوف Korsakoff’s psychosis) يتصف أصحابها بكونهم لا يعون أنهم نسّاؤون amnestic، وهذا يجعلهم يملؤون ثغرات ذاكرتهم بقصص مفبركة تعرف بالتخريفات confabulations.
وحديثا قام [المختص بعلم النفس العصبي في جامعة درهام] بإجراء دراسة على مريض من هذا النمط في مختبري. فقد أخفق هذا المريض، خلال كل جلسة استغرقت 50 دقيقة في مكتبي على مدار اثني عشر يوما متتاليا، في تذكر كونه قابلني من قبل على الإطلاق أو أنه خضع لعملية جراحية لاستئصال ورم في فَصّيْه الجبهيين كان يسبب له فقدان الذاكرة. فمن وجهة نظره، ليس لديه داع للقلق، وكل شيء على ما يرام. وحينما سُئل عن الندبة التي في رأسه فَبْرَك تفسيرات غير مقبولة بالمرة؛ إذ زعم أنه خضع لجراحة سنّية أو عملية مجازة إكليلية في القلب. وفي واقع الأمر، فهو سبق أن خضع لهاتين العمليتين منذ سنوات ولكنهما (خلافا للعملية الدماغية) كانتا ناجحتين.
وبالمثل، فإنه حينما سئل عمن أكون، وما الذي كان يفعله في مختبري، أعطى إجابات مختلفة تتفاوت بين كوني زميلا له، أو نديما أُشاطره الشراب، أو زبونا يستشيره في مجال خبرته المهنية، أو رفيقا له في رياضة لم يمارسها منذ كان طالبا جامعيا قبل عقود، أو ميكانيكيا يصلِّح إحدى سياراته الرياضية الكثيرة (التي لم يكن يمتلك أيا منها). وأكثر من ذلك فقد كان سلوكه منسجما مع هذه الاعتقادات الخاطئة، إذ كان يجول بنظره في الغرفة بحثا عن زجاجة الجعة أو خارج الغرفة عبر النافذة بحثا عن سيارته.
إن ما يلفت نظر المراقب العابر يتمثل في درجة (نوعية) التمني في هذه المفاهيم الخاطئة، وهو انطباع أكده <فوتوپولو> على نحو موضوعي من خلال تحليل كمي لسلسلةٍ متتابعةٍ من 155 من هذه التخريفات؛ ذلك أن آراء المريض الخاطئة لم تكن ضوضاء عشوائية، بل ولَّدها «مبدأ اللذة» pleasure principle الذي اعتبره <فرويد> مبدأ مركزيا للتفكير اللاشعوري. فالشخص ببساطة يعيد صوغ الحقيقة حسبما يرغب أن تكون. وقد ذكر آخرون ملاحظات مشابهة، مثل [من درهام] و [من جامعة ويلز]. فهذان الباحثان مختصان بعلم الأعصاب المعرفي cognitive neuroscientists وليسا محللين نفسيين، ومع ذلك فهما يفسران اكتشافاتهما بلغة فرويدية زاعمين من حيث الجوهر أن التلف في المنطقة الحَوْفِيّة الجبهية الذي يولد التخريفات يفسد آليات الرقابة المعرفية التي يرتكز عليها ضبط الحقائق العادية، ويوقف تثبيط تأثيرات التمني الضمنية في الإدراك والذاكرة والحكم على الأشياء.
الحيوان في داخلنا(******)
لقد جادل <فرويد> بأن مبدأ اللذة هذا هو تعبير عن الدوافع drives البدائية للحيوان. فبالنسبة إلى معاصريه في الزمن الفيكتوري، كان بهتانا سافرا الاعتقاد بأن السلوك البشري تحكمه في الأساس نزعات لا تخدم غرضا يسمو على الإشباع الشهواني. صحيح إن الفسق الأخلاقي تراجع خلال العقود اللاحقة، ولكن المختصين بعلم النفس المعرفي cognitive scientists طرحوا جانبا مفهوم <فرويد> عن الإنسان وصلته بالحيوان.
واليوم عاد الموضوع؛ إذ إن علماء الأعصاب، من أمثال [من جامعة روكفلر] و [من جامعة بُولِنْگ گرين الحكومية]، يعتقدون أن الآليات الغرائزية التي تحكم الدوافع البشرية هي أكثر بدائية حتى مما تصوره <فرويد>. إننا نشارك أقرباءنا من الرئيسيات (وكذلك جميع الثدييات) المنظومات الأساسية للضبط الانفعالي. ففي المستوى العميق من التنظيم (التعضي) organization العقلي الذي سماه فرويد ال«هي»، لا تختلف أدمغتنا كثيرا، فيما يتعلق بالوظائف التشريحية والكيميائية، عن نظيرتها لدى حيوانات المزرعة المحببة والحيوانات المنزلية المدللة.
العقل والمادة(*******)
رسم <فرويد> نموذجه الأخير للعقل في عام 1933 (الرسم الأيمن، وقد أضيف إليه اللون). وتمثل الخطوط المنقطة ما يعتبر عتبة threshold بين المعالجتين processings الشعورية واللاشعورية. وتقوم الأنا العليا superego بكبت الدوافع الغرائزية (ال«هي» id) مانعة إياها من إفساد الفكر المنطقي. ويُعتبر معظم العمليات المنطقية (الأنا) عمليات آلية automatic ولاواعية كذلك؛ ولذا لا يبقى سوى جزء صغير من الأنا (البصلة الكائنة في الأعلى) للتحكم في الخبرة الواعية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالإدراك. هذا وتتوسط الأنا العليا الصراع المتواصل بين الأنا وال«هي» على السيطرة. ويترابط رسم الخريطة العصبية الحالية (في الأسفل)؛ على نحو عام بتصور <فرويد>. إن جذع الدماغ اللبي والجهاز الحَوْفي limbic ـ المسؤوليْن عن الغرائز والدوافع ـ يقابلان إلى حد ما ال«هي» الفرويدية، في حين تعتبر المنطقة الجبهية البطنية (التي تتحكم في التثبيط الانتقائي selective inhibition) والمنطقة الجبهية الظهرية (التي تتحكم في الفكر الواعي الذاتي) والقشرة المخية الخلفية (التي تعرض صورة العالم الخارجي) أنها تقابل الأنا والأنا العليا في نظرية <فرويد>. |
ولكن علماء الأعصاب الحديثين لا يقبلون تصنيف فرويد للحياة الغرائزية البشرية في ثنائية بسيطة بين الجنس sexuality والعدوان aggression؛ بل حددوا، عبر دراسات التهتكات lesions وتأثيرات الأدوية والتنبيه الصنعي artificial للدماغ، ما لا يقل عن أربع دارات circuits غرائزية أساسية لدى الثدييات، يتداخل بعضها مع بعض. وتتمثل هذه الدارات في: منظومة الالتماس seeking أو الثواب reward (التي تستحث متابعة اللذة)، ومنظومة هياج الغضب anger-rage (التي تحكم عدائية الغضب وليس عدائية الافتراس)، ومنظومة قلق الخوف fear-anxiety، ومنظومة الهلع panic (التي تتضمن غرائز معقدة مثل تلك التي تحكم الروابط الاجتماعية social bonding). ويُجرى أيضا تقصي وجود قوى غرائزية أخرى، مثل منظومة اللعب العراكي rough-and-tumble play. ويقوم بضبط جميع هذه المنظومات نواقل عصبية نوعية وكيماويات تنقل الرسائل بين عصبونات الدماغ.
في عام 1895 رسم <فرويد> مخططا لآلية عصبونية مسؤولة عن الكبت repression (في الأعلى) وذلك كجزء من أمله في أن تحل التفسيرات البيولوجية للعقل في يوم ما محل التفسيرات النفسية. وفي مخططه هذا يقوم بتنشيط الذاكرة المنفرة في العادة منبهٌ stimulus (ا“On” في أقصى اليسار) يتوجه من العصبون “a” إلى العصبون “b” (في الأسفل). ولكن العصبون «ألفا» (الواقع إلى اليمين من “a”) يستطيع حَرْف الإشارة، وبهذا يمنع ذلك التنشيط إذا مارست عصبونات أخرى (في الأعلى إلى اليمين) تأثيرا كابتا. لاحِظ أن <فرويد> (الذي تبدو إلى اليمين صورته في مرحلة متأخرة من حياته) رسم فجوات بين العصبونات التي تنبأ بأنها تعمل حواجزَ تماس contact barriers. وبعد عامين من ذلك اكتشف الفيزيولوجي الإنكليزي مثل هذه الفجوات وسماها مشابك synapses. |
لقد توقع فرويد نفسُه مجيء اليوم الذي تنقح فيه بيانات علم
الأعصاب أفكاره النفسية وتتممها.
أما منظومة الالتماس التي ينظمها الناقل العصبي المسمى دوپامين، فإنها تشابه إلى حد بعيد الليبيدو libido الفرويدي. وطبقا لرأي <فرويد>، فإن الدافع الليبيدي أو الجنسي هو منظومة التماس اللذة تحرك معظم أهدافنا وتفاعلاتنا مع العالم الخارجي. وتبين الأبحاث الحديثة أن المعادل العصبي لها يتدخل بشدة في جميع أشكال الاشتهاء والإدمان تقريبا. ومما يدعو إلى الاهتمام أن تجارب <فرويد> المبكرة على الكوكائين (التي أجراها على نفسه بصفة أساسية) أقنعته بأن الليبيدو لا بد أن تكون ذات أساس كيميائي عصبي نوعي. وخلافا لآراء خلفائه، لم يجد <فرويد> سببا للتضاد بين التحليل النفسي والفارماكولوجيا النفسية. فقد كان يتوقع بحماسة قدوم اليوم الذي ستتحكم في طاقات (ال«هي») id energies على نحو مباشر «موادُّ كيماوية معينة». واليوم، تم الاعتراف بأن العلاجات التي تدمج العلاج النفسي في الأدوية النفسية المؤثرة، تعد أفضل مقاربة للعديد من الاضطرابات. ويبين التصوير الدماغي أن العلاج التحادثي talk therapy يؤثر في الدماغ بطرق شبيهة بمثل هذه العقاقير.
للأحلام معان(********)
أخذت أفكار <فرويد> تستيقظ من جديد في مجال النوم والأحلام. فنظريته القائلة بأن الرؤى في الليل هي لمحات جزئية لتمنيات لاشعورية، فقدت مصداقيتها لدى اكتشاف النوم الرِّيْمي (بمعنى النوم ذي الحركة العينية السريعة) وعلاقته القوية بظاهرة الحلم، وذلك في الخمسينات من القرن الماضي. وبدا أن رأي <فرويد> هذا فَقَد جميع مصداقيته حينما أظهر الباحثون في السبعينات من القرن الماضي أن دورة الحلم ينظمها الأستيلْكولين، وهو مادة كيماوية دماغية سريعة النفاذ تتولّد في جزء «غير عقلي» mindless من جذع الدماغ brain stem. ونشير هنا إلى أن النوم الريمي يحدث آليا كل تسعين دقيقة أو نحو ذلك، وتبعثه كيماويات وبنى دماغية لا علاقة لها بالانفعال أو بالدافعية من قريب أو بعيد. إن هذا الاكتشاف يقتضي ضمنا أن الأحلام لا تحمل معاني، بل هي مجرد قصص يحكيها الدماغ الأعلى محاولا عكس النشاط العشوائي للقشرة المخية الذي تسببه الحركات العينية السريعة أثناء النوم الريمي.
تُظهر صورُ المسح الدماغية التلفَ الذي يسبب اضطرابات الوظيفة النفسية التي لم يستطع <فرويد> دراستها إلا سريريا. وتُبين صورة حديثة بالمرنان (التصوير التجاوبي المغنطيسي) لمريض يُخَرِّف confabulate قصصا مهيبة عن حياته وجودَ تهتك lesion (انظر السهم) في التلفيف الحزامي cingulate gyrus الذي هو جزء من الفص الجبهي الأوسط ويدير الوظائف التي افترض <فرويد> أنها تمنع في الحالة السوية الرغبات اللاشعورية من تغيير الصورة الذاتية المنطقية للمرء. |
بيد أن الأبحاث الأكثر حداثة كشفت أن الحلم والنوم الريمي حالتان منفصلتان تتحكم فيهما آليتان مستقلتان وإن كانتا متآثرتين؛ إذ يتبين اليوم أن الحلم تولده شبكة بِنًى متمركزة في الدارة الدافعية الغرائزية للدماغ الجبهي. وقد أثار هذا الاكتشاف العديد من النظريات حول الدماغ الحالم، يستذكر عدد منها بقوة نظرية <فرويد>. وما هو أكثر إثارة للاهتمام إنما يتمثل في الملاحظة التي سجلتُها وآخرون غيري من أن الحلم يتوقف تماما لدى قطع ألياف معينة تقع عميقا في الفص الجبهي للدماغ، وهو عَرَض يتزامن مع الانخفاض العام في السلوك الدافعي. ويماثل هذا القطع تماما التلف الذي يولده خزع المادة البيضاء في فص الدماغ قبل الجبهي prefrontal leukotomy، وهو عملية جراحية عفا عليها الزمن، كانت تستخدم في الماضي للتحكم في الهَلَسَات hallucinations والتوهمات delusions. ففي الستينات من القرن الماضي حلّت محل هذه العملية أدوية تُضْعِف فعالية الدوپامين في المنظومات الدماغية ذاتها. وهكذا قد تكون منظومة الالتماس هي المولد الأولي للأحلام. وقد غدت هذه الإمكانية بؤرة رئيسية في الأبحاث الحالية.
إذا استطاع العلماء التوفيق بين علم الأعصاب وعلم النفس،
فإن المرضى سيتلقون حينئذ معالجة أكثر تكاملا.
إذا تأكدت هذه الفرضية، فإن نظرية تلبية الأحلام للرغبات يمكن أن تحدد مرة أخرى أجندة أبحاث النوم. ولكن حتى لو ظهرت تأويلات أخرى للبيانات الجديدة في علوم الأعصاب فإن جميع هذه التأويلات تبين أن المفاهيم النفسية للأحلام صارت من الناحية العلمية تتمتع بالاحترام من جديد. ولا تزال قلة من المختصين بعلوم الأعصاب تدعي (مثلما دأبت في الماضي وهي في مأمن من العواقب) أن محتوى الحلم ليس له آلية انفعالية رئيسية.
حسم القضية(*********)
لا يتحمس الجميع لعودة ظهور المفاهيم الفرويدية في درب العلوم العقلية. فعلى سبيل المثال، ليس من اليسير على الجيل القديم من المحللين النفسيين التسليم بمقدرة زملائهم وطلبتهم الشباب على إخضاع المعرفة التقليدية إلى مستوى جديد تماما من التفحص البيولوجي. ولكن عددا مشجعا من العلماء القدامى على جانبي الأطلسي ملتزمون بالتعامل بعقول منفتحة، حسبما تشهد القائمة المذكورة آنفا للمحللين النفسيين البارزين أعضاء المجلس الاستشاري لهيئة تحرير مجلة التحليل النفسي-العصبي، وبدلالة العدد الكبير للمشاركين الشيب في الجمعية الدولية للتحليل النفسي العصبي.
وبالنسبة إلى علماء الأعصاب القدامى، فإن مقاومة عودة أفكار التحليل النفسي تنجم عن التخوف من الصرح المكين ظاهريا لنظرية <فرويد>، الذي عهدوه في السنوات الباكرة من مسيرتهم العلمية. إنهم لا يستطيعون الاعتراف بأفكار فرويد الأساسية حتى لو جزئيا [انظر الإطار في الصفحة 80]. وبحسب أقوال [وهو باحث في النوم ذائع الصيت وطبيب نفسي في كلية طب جامعة هارڤارد]، فإن الاهتمام المتجدد بفرويد لا يتعدى كونه تعديلا غير مفيد يتضمن إدخال بيانات حديثة ضمن إطار نظري عتيق. بيد أنه بحسب قول <پانكسيپ> لعلماء الأعصاب المتحمسين للتوفيق بين علم الأعصاب والطب النفسي، وذلك عبر مقابلة له مع مجلة نيوزويك في عام 2002، فإن الموضوع «ليس مسألة برهنة على صحة أو خطأ <فرويد>، بل حسم هذا الأمر.»
إذا أمكن إنهاء تلك القضية، أي لو أمكن ترسيخ «إطار <كاندل> الفكري الجديد للطب النفسي»، فإن المصابين باضطرابات انفعالية لن يحتاروا بعدئذ في الاختيار بين المعالجة التحادثية talk therapy (التحليل النفسي) التي قد تكون غير ذات صلة بالطب الحديث المبني على الأدلة، وبين العقاقير التي تقدمها الفارماكولوجيا النفسية لمرضاها والتي قد تفتقر إلى إدراك علاقة كيميائيات الدماغ brain chemistries التي تتعامل معها بمسارات الحياة الحقيقية المعقدة التي تبلغ الذروة في الضائقة الانفعالية emotional distress. هذا ويعد الطب النفسي بأن يقدم للمرضى عونا يقوم على فهم متكامل عميق للكيفية التي يعمل وفقها العقل البشري.
أيما كان ما سيأتي به المستقبل من معالجات ليست بالحسبان، فإن المرضى لن يستفيدوا إلا من معرفةٍ أفضل للكيفية الحقيقية لعمل الدماغ. وفيما يتصدى علماء الأعصاب الحديثون مجددا للمسائل العميقة في علم النفس البشري التي سبق أن شغلت بال <فرويد>، فإن من دواعي الرضا أن نجد أننا يمكن أن نبني على الأسس التي وضعها، عوضا عن أن يكون علينا أن نبدأ كل شيء من جديد. حتى ونحن نقوم بتحديد نقاط الضعف في نظريات <فرويد> البعيدة الأثر ونحاول تصحيح أعماله ومراجعتها وإكمالها، فإننا مبتهجون لأنه ستتاح لنا الفرصة لحسم هذه القضية.