12 فبراير 2015 بقلم
عبد الله المتوكل قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:مصدر المقال:
Bjarne melkevik ; tolérance et modernité juridique Québec les presses de l’université Laval coll. dike 2006 p 15_ p24
تقديم:
لعل أهمية هذا النص تكمن، ليس فقط في طريقة طرحه وتناوله لموضوعة التسامح، بل في كونه يشكل نافدة نطل من خلالها على ما تعرفه الجامعات ومراكز البحث الكندية من طرق في الاشتغال ومن اجتهاد وتجديد في مجال الفلسفة، خاصة الفلسفة السياسية. وربما أن ارتباطنا بالفلسفة القارية، بل تبعيتنا لها في كثير من الأحيان، يحول دون الانتباه إلى التطورات الحاصلة في الفلسفة خارجها. وإذا كانت كندا لا تزخر ب "النجوم" والأسماء اللامعة في هذا الميدان، فميزتها الأساسية تتجلى في البحوث والمنشورات الجماعية المكثفة، بل إننا نجد لديهم، في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة لهذا النص الذي قمنا بترجمته، أن الباحث بعد أن يصوغ نصاً وينشره، يعيد كتابته بتعاون مع زميل آخر، لينسجم مع إشكالية وأهداف بحث آخر (انظر الهامش رقم 1).
وبجارن ميلكوفيك Bjarne Melkovek هو أستاذ في كلية الحقوق بجامعة لافال بالكيبيك، تتوزع اهتماماته ومجالات تدريسه بين فلسفة الحق وميتودولوجيا وإبيستيمولوجيا العلوم القانونية والمنطق والحجاج في القانون وعلم القانون المقارن وقانون الأهالي. وله العديد من الدراسات والأبحاث الفردية والجماعية يرد بعضها في هوامش هذا النص.
وهو في هذا الدراسة، يقوم بنوع من جينيالوجيا مفهوم التسامح موضحاً شروط إمكانه من حيث هو مفهوم حديث، والتي لا تخلو من مفارقة؛ إذ في الوقت التي يتحدد فيه التسامح بوصفة قيمة مناهضة للاستبداد، نجد أن ظهوره ارتبط بقيام الأنظمة المطلقة، بل إن هذه الأخيرة في عرف منظريه الأوائل هي الضامن لتحققه. ويتابع تطور دلالاته من الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية التي اعتبرته فضيلة فردية إلى دلالته في الليبرالية المعاصرة التي، وإن لم تقطع مع الدلالة الأولى، فإنها حولت مكان اشتغاله من الفرد إلى المؤسسات لضمان حمايته.
التسامح: من الفضيلة الفردية إلى المنطق المؤسساتي
لنسلم، في آخر التحليل، بأن مفهوم التسامح يحيل، بطريقة لا محيد عنها، إلى الممارسة؛ أي إلى الحياة اليومية، وإلى علاقة الأفراد فيما بينهم داخل سياقاتهم الخاصة
[sup][1][/sup]، على الأقل، هذا ما يقترحه التعريف الذي يعطى للتسامح، من حيث إنه يشير إلى أن التعبير عن الآراء والمعتقدات والأفعال يرتبط بحكم وسلطة الضمير الفردي وحدهما.
[sup][2][/sup]والحال أن المجتمعات الحديثة، الديمقراطية والتعددية، قد انخرطت منذ مدة في سيرورة توسيع وتنمية دوائر التسامح ودلالته؛ أي في سيرورة مضاعفة وتنويع السياقات الخاصة التي اعتُرف بالتسامح داخلها أو ينظر إليه في إطارها، باعتباره شيئاً مرغوباً فيه. وفيما يتعلق بمجال الحق، يتمظهر هذا التطور من خلال بعض التغيرات التي طرأت على المواقف من بعض الظواهر، من مثل الموقف من تفكك الأسرة ومن الزواج غير الشرعي ومختلف أشكال "الانحراف" الجنسي، ومن ممارسات أخرى متعددة.
لا ينبغي، أن نذهب إلى اعتبار مجتمعاتنا متسامحة، بالمعنى التام للكلمة، لنفكر في ظواهر الإقصاء والعنصرية، دون أن نتحدث عن الجرائم التي تحط من الكرامة. إن اللاتسامح له نصيبه في واقعنا الاجتماعي، وهو ما تثبته العديد من الأحداث التي شكلت، في السنوات الأخيرة، موضوع افتتاحيات الجرائد. فمسألة "الحجاب الإسلامي" التي هزت الرأي العام، سواء في فرنسا أو الكبيك، تبين بطريقة نموذجية، أن التسامح يبقى موضوعا باعثاً على القلق وبالغ التعقيد.
إذا كان التسامح، قبل كل شيء، يرتبط بممارسة العيش المشترك، فإن طابعه المعقد يقودنا بالضرورة إلى التفكير الفلسفي في هذه الممارسة ومفترضاتها. وبما أن الحق يشكل "نثر" العالم الحديث، فمن الطبيعي أن نفحص مطلب التسامح هذا على ضوء فلسفة الحق.
إن دراسة مفهوم التسامح، من وجهة نظر الحق، ليست ممكنة ما لم نهتم بالتحولات التاريخية التي عرفتها دلالة هذه الكلمة، حتى نتمكن من فهم تعدد الدلالات التي يثيرها اليوم هذا اللفظ. ويبدو لنا أن اثنتين من هذه الدلالات أساسيتان: الأولى تحدده كحاجة ضرورية بالنسبة للفرد، والثانية تنظر إليه، باعتباره خاصية للمؤسسات السياسية والقانونية. والطريقة التي سنسلكها في تناول هذه المسألة هي كما يلي: في مرحلة أولى، سنذكر، بطريقة مختصرة، بالخطوط العريضة لبعض الأحداث التاريخية الكبرى التي طبعت الخطاب الفلسفي الحديث حول التسامح. وفي مرحلة ثانية، سنتطرق لمسألة تعدد الدلالات التي يكتسيها اليوم مفهوم التسامح، مركزين على الاختلاف بين التسامح من حيث هو مطلب فردي والتسامح بمعناه المؤسساتي.
التسامح والحداثة:
ما يجدر قوله في البداية، هو أن المجتمعات ما قبل الحديثة، كانت هي أيضاً، على طريقتها الخاصة، وإلى حدود لا يستهان بها، مجتمعات متسامحة.
[sup][3][/sup] إذا فحصنا المجتمعات الغربية القديمة، مثل مجتمعات القرون الوسطى، سيُفرض علينا الاعتراف بأنها كانت تتضمن دوائر واسعة للتسامح. فقد عرفت التعدد على مستويات عدة؛ إنسانية واجتماعية وثقافية وقانونية. وبعبارة أخرى، إذا كانت هذه المجتمعات تتميز بسيادة التفاوت بين الناس، وإذا كانت ممارسة السلطة السياسية فيها، حكرا، في الغالب، على طبقة معينة، فقد كانت في كثير من الأحيان، تسمح، بقدر مهم نسبيا، من الاختلافات الإثنية والثقافية والدينية. يبدو أن هذه الملاحظة مهمة؛ لأنها تتضمن، إلى حد كبير، أن مجيء الحداثة هو الذي طرح وأقحم مشكل التسامح كما نعرفه اليوم.
الواقع أن الحداثة (انطلاقاً من القرن السادس عشر)، قد تجلت على المستوى القانوني والسياسي أيضا، بفعل قيام الأنظمة المطلقة. وقد رأت النزعة الإطلاقية القانونية والسياسية l’absolutisme juridique et politique النور مع الحداثة وفي إطار علاقة وثيقة بها. غير أن هذه النزعة قد احتوت التعددية القديمة لفائدة الملك والدولة والأمة والدين والقانون. وقد تميزت الحداثة، كحدث تاريخي، بالإرادة الفوقية، إرادة الأخذ بيد الأفراد وقيادتهم نحو الطريق التي عليهم اتباعها، وتربيتهم؛ أي تكييفهم تبعا لحاجات الدولة. إن التربية "العمومية" من مميزات الحكم المطلق، وتبقى أحد ركائز العالم المعاصر.
يمكن أن نتوقع بأن الأنساق الأولى لفكر التسامح كانت مناهضة للحكم المطلق. غير أن الأمر، كما سنرى، ليس بهذه البساطة. إن الدين عكس الدولة - الأمة أو القانون - ولأنه يتضمن سلفا، كما بين ذلك حجاج لوك من بين آخرين، نوعاً من الاتهام الموجه ضد الحكم المطلق بصدد المسألة الدينية ودفاعاً عن حرية الاعتقاد الديني - يمثل، بمعنى ما، القطاع الأكثر ضعفاً في ظل أنظمة القرن السابع عشر الاستبدادية والأكثر انفتاحاً على النقد. وإذن، فليس من المفاجئ أن تكون المعركة الحديثة من أجل التسامح؛ أي من أجل حرية التفكير والحكم والتصرف في الشؤون الخاصة وفق مقتضيات الوعي الفردي، قد دارت رحاها لأول مرة على أرضية التسامح الديني.
والحالة هذه، من المهم ملاحظة أن المنظرين الأوائل للتسامح، أمثال بايل Bayle وهوبز Hobbes واسبينوزا Spinoza، بل أيضا لوك Locke على طريقته، على الأقل في مرحلة أولى، كلهم جعلوا من الاستبداد السياسي شرط إمكان وجود التسامح الديني. واعتبروا أن السلطة السياسية الضعيفة جدا، تخاطر بأن تصبح لعبة في يد عُصبة دينية معينة، لإقصاء الآخرين. وأن التسامح لا يكون ممكناً إلا نتيجة تدخل سلطة سياسية قوية، ولو أن ذلك يقتضي حسب لوك، بصفة خاصة، تحديد المجال الذي من المحتمل أن تمارس فيه هذه السلطة القوية نفوذها. إن هذا السند الذي وجده التسامح الديني، في مرحلة أولى، في نظامالحكم المطلق، شيء أساسي، لأنه يشير إلى الرباط الوثيق الذي وجد، منذ البداية، بين نوع من السيادة الساسية والتسامح من حيث هو حرية في الاعتقاد تدخل ضمن شؤون الفرد الخاصة.
تشكل أعمال لوك داخل هذه المعركة علامة بارزة، لأنه في رسالته الشهيرة حول التسامح (1648)
[sup][4][/sup] ثم في كتاب "في الحكم المدني" (1690)
[sup][5][/sup]، رغم أنه حافظ على التصور الذي تبناه سابقوه حول مفهوم السيادة
[sup][6][/sup]، قد تصور التسامح، لأول مرة، كحد مفروض على السلطة السيادية. ويشكل لوك داخل العالم الأنجلوساكسوني الشخصية الرمزية لمطلب التسامح. من المفيد التذكير بأن لوك الذي كان قد تلقى تكوينيا لاهوتيا ثم تخلى عن شغر منصب كنسي، هو جد مؤهل للتفكير في موضوع التسامح الديني. والحالة هذه، فإن لوك عندما كتب في موضوع التسامح، فينبغي أن نفهم هذا التسامح كبراديغم قابل للتطبيق أيضاً على التسامح السياسي، لأن ما كان لوك يستهدفه، ليس فقط أن يبرز لامعقولية اللاتسامح من وجهة نظر دينية، وهو ما قام به آخرون قبله، بل إقرار التسامح كحدث سياسي.
يأتي جزء كبير من قوة حجاج لوك في دفاعه عن التسامح الديني من بساطته: إن التسامح مع أولئك الذين يختلفون معنا في العقيدة الدينية، هو أمر متطابق مع تعاليم الإنجيل ومع الحس المشترك لدى جميع البشر، حيث يمكن أن يبدو لنا شيئا فظيعاً، وجود أشخاص أعماهم التعصب ولا يرون في التسامح أية ضرورة أو مصلحة، رغم أن أنواراً كثيرة تحيط بهم وترشدهم.
[sup][7][/sup]هناك إذن أساسان للتسامح: الإنجيل والحس المشترك لدى جميع البشر؛ أي الإلزام والمصلحة. ينجم عن ذلك، وهو ما ينبغي التشديد عليه، أن لوك لا يتصور أبداً مسألة التسامح من زاوية حق (حقوق) أخلاقي للشخص. فلا أحد من مصدري التسامح السالفي الذكر، يحيل على الفرد بما هو كذلك.
يدين المصدر الأول؛ أي التسامح الذي يدعو إليه الإنجيل، اللاتسامح، باعتباره رذيلة، ونفياً "للكنيسة المسيحية الحقة".
[sup][8][/sup] إنها حجة وازنة تجعل من الواجب إخضاع الفرد والحكومات لمطلب التسامح الإنجيلي والمسيحي.
أما المصدر الثاني الذي لقي اهتماماً كبيراً فيما بعد؛ فهو حجة ذات منزع براجماتي ونفعي: اللاتسامح هو مصدر الاضطرابات السياسية والعنف، وبالتالي فباسم الحس المشترك والمصلحة الاقتصادية والتجارية، يفرض على الجميع احترام الضمير الفردي حتى عندما يضل.
[sup][9][/sup]يستدعي الترابط بين هاتين الحجتين، ألا ننظر إلى الثانية منهما (البراجماتية) من منظور احتراسي خالص، إذ بالفعل لا يقول لوك بأن التسامح يدخل ضمن نظام ما هو "عادل"، بل يذهب إلى القول بأن على الدولة والمواطن، لأسباب ترتبط بالمحافظة على الأمن والنظام العام، أن يلتفا حول ما هو "عادل". فمن باب اللامعقول، حسب لوك، أن تحشر الدولة أنفها في شؤون المواطن الخاصة، خاصة ما تعلق منها بمعتقداته الدينية. لا يتلاءم اللاتسامح مع مجتمع منظم بطريقة جيدة، وكونه يشكل حماقة سياسية، فذلك علامة على أن بوسعه أن يمثل بؤرة لاضطراب ممكن.
إن التصور الذي يقوم على التمييز الصارم بين ما يهم الدولة وما ينتمي إلى مجال الدين، أو بعبارة أدق، إلى الحريات الفردية
[sup][10][/sup]، يحضر بطريقة متواترة عند لوك، وأصبح بعده مركزياً في الليبيرالية الكلاسيكية. إن هدف الحكومة السياسية هو تفضيل وتشجيع المصالح المدنية للمواطنين وحرياتهم، والعمل على تنمية خيراتهم الدنيوية وليس شيئاً آخر. إن مثل هذا الهدف يفرض حدوداً دقيقة على ما يمكن للدولة القيام به، وعلى الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وعلى الوسائل التي يمكن أن تستعين بها في أداء مهامها بطريقة مشروعة.
يمكن أن نرسم معالم على التصور البراديغمي للتسامح عند لوك، من خلال ثلاثة محاور:
1 – التسامح هو استعداد للفكر أو الضمير، يتمظهر كقاعدة للسلوك تمنع علينا ممارسة أي إكراه في حق الأشخاص الذين لايشاطروننا نفس القناعات.
2 – التسامح تعبيرعن الحس المشترك. ولا يمكن للشؤون الخاضعة لسلطة الضمير الفردي وتقديره، أن تكون موضوع أي تنظيم خارجي.
3 – ينجم التسامح الكلاسيكي، بمعناه الدقيق، عن فصل بين الشؤون الخاضعة لسلطة الشخص الفردية وتلك التي تهم الخير المشترك. والتسامح يمؤسس هذا الفصل بإضفاء طابع المشروعية على الأفعال التي لا تتعسف على حياة الغير وحريته وممتلكاته في إطار الشريعات التي تضعها الدولة.
يحدد هذا التصور التسامح، ليس باعتباره حقاً، بل كفضيلة حديثة جوهرياً، لأنه لا ينفصل عن تصور معين للفرد. وهكذا فالتسامح المفهوم على هذا النحو يبقى بمثابة استعداد دائم للفكر، يخضع معه الفرد لإلزام احترام اختيارات وقناعات وقيم الغير، كما تُصدق عليها، عقليا، محكمة الضمير، وتؤكدها تشريعات الدولة.
إن ما يثبت بأن هذا الاستعداد هو بمثابة فضيلة حديثة، كونه يفرض على كل فرد احترام اختيارات وقناعات وقيم الآخرين، لا لأن هذه الأخيرة حسنة أو متعقلة، بل بفعل الاحترام الخالص للفرد صاحب وصانع تلك الاختيارات. لا يتعلق الأمر هنا، أبداً بالاعتراف بحق ما، حتى لو أن لكل واحد الحرية في تفضيل تصوره الخاص للعالم، بل يتعلق الأمر بفضيلة، احترام الغير، والتي تكمن ميزتها الأساسية في فتح حوار حول الأسس التي تستند عليها قناعات هؤلاء الأشخاص أو أولئك. وبعبارة أخرى، إن المجتمع المتسامح، من وجهة النظر هذه، هو الذي يسود فيه هذا الحوار. والمجتمع الذي يبقى فيه كل واحد متقوقعاً داخل مواقفه، وينظر إلى الآخر بحذر، وحيث لا يكون فيه أي حوار ممكناً بين الحاملين لمعتقدات متعارضة، ليس مجتمعاً يسوده التسامح، حتى لو لم يتعرض داخله أي فرد لاعتداء ما بسبب قناعاته المختلفة عن قناعات الآخرين.
من الفضيلة الفردية إلى المنطق المؤسساتي:
لا يزال التسامح يقدم نفسه اليوم، باعتباره فضيلة حديثة مؤسسة على احترام الغير، مثلما كان الأمر عليه في الليبرالية الكلاسيكية، رغم تطور الحجاج الذي يستند عليه بطرق مختلفة. ويمكن أن نؤكد، دون خشية السقوط في الخطأ، بأن إرث الحداثة هذا، هو الذي نلفيه اليوم متمثلا في الممارسات الدستورية للمجتمعات الديمقراطية كالولايات المتحدة وكندا والكبيك وانجلترا أو فرنسا. والواقع، أن التسامح فيها يظهر دوما كتوازن بارع بين الحريات الفردية والمتطلبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ينظر إليها في ترابطها. لكنه يظهر فيها أيضا، أكثر من مجرد طريقة للعيش ناجمة عن استدلال احتراسي خالص.
يتضمن هذا التصور للتسامح في عالمنا الحديث، شكلين بارزين: يتميز الأول منهما بخاصية إلقاء كل ثقل التسامح على كاهل الفرد وحده، على المستويين النظري والعملي معا. إذ على الفرد أن يتحمل مسؤولية ضمان سيادة التسامح في المجتمع، وبهذا المعنى يشكل التسامح فضيلة، بما في الكلمة من معنى. غير أن هذا المطلب الأخلاقي والمدني سيتطور في الفكر المعاصر، وبصفة خاصة، في فلسفة نهاية القرن العشرين، حيث سيتجلى التسامح، أكثر فأكثر، كصفة للمؤسسات. هذه الأخيرة، حسب هذا التصور، هي التي ينبغي أن تتحلى بالتسامح. وبهذا المعنى، ينبغي أن يكون التسامح روح المؤسسات، إذ لم يعد مجرد مطلب يحث الناس على احترام بعضهم البعض، بل أضحى إلزاماً مؤسساتيا، يحدد ويميز المجتمع العادل؛ أي المجتمع الذي يحترم مجموعة من الحقوق الفردية.
إن هذا التحول الذي طال مكان اشتغال موضوعة التسامح، من الأفراد نحو المؤسسات، وما صاحب ذلك من إخضاع هذه الأخيرة لاختبار فلسفي يتوخى ضمان التسامح مع الأقليات المرئية وغير المرئية، لهو ظاهرة نموذجية مرتبطة بفلسفة نهاية القرن العشرين، فلسفة الليبرالية المعاصرة، خاصة منها بعض التحليلات الحديثة العهد التي استهدفت خلق مجتمع متعدد. وقد تبنى هذا التصور للتسامح، كتاب أمثال راولز Rawls
[sup][14][/sup] ورولاند دوركين Roland Dworkin
[sup][15][/sup] وريشارد رورتي Richard Rorty.
[sup][16][/sup]لكن هذا التصور يتجلى، بصفة عامة، في مثال حياد الدولة، والذي يمكن أن تنظر إليه بعض المذاهب السياسية، باعتباره الشكل الذي يحقق بامتياز التسامح المعاصر. لكن قبل أن نتصدى بالتحليل النظري لهذا المثال، من المفيد أن نرى في البداية، كيف أمكن لهذا التصور الجديد حول التسامح أن يوجد انطلاقاً من تحول نظري مزدوج.
هل يتعلق الأمر، أولا، بتحول طرأً على النظرة إلى "الفردانية"؟ إذا كان لوك قد جعل من الفرد مكان تفسير التسامح، فإن الليبرالية المعاصرة، الداعية إلى إصلاح وتنظيم المؤسسات، تلح، بالأحرى، على أن الفرد هو مكان إيديولوجي. وحيث إن لوك كان يؤسس التسامح على استعداد الفكر والفضيلة الفردية واحترام الآخر، فإن المعاصرين، عكس ذلك، ينظرون إلى التسامح من زاوية عقلانية، مثل نظرتهم إلى مسألة "الاختيارات" الفردية والوسائل المؤسساتية التي تضمن حمايتها. والأكثر من ذلك، فإن المنظور الذي يستند عليه "الاختيار" أصبح المكان المفضل لتفسير الإنسان. تسلم الليبرالية بأن الأفراد لا يختارون السياق العام الذي يعيشون في إطاره. ومع ذلك ترى أن هذا السياق لا يمارس أية سلطة أخلاقية على اختياراتنا. وعلى الرغم من أن الاختيارات التي يتخذها الأفراد تابعة بطريقة جلية للسياق الذي يولدون فيه ويتصرفون (السياق الاجتماعي والتاريخي واللغوي والجماعاتي والديني والاقتصادي...)، فإن الليبرالية تتشبت بالقول بأن هذه السياقات ليست لها وضعية أخلاقية وأن الأفراد ليس لهم أي "واجب" نحو هذه السياقات التي يعيشون في إطارها. هكذا وقد أُفرغ السياق من القيمة، فإن الفرد حر في تصريف اختياراته في "سوق" الحياة دون الخضوع لإكراهات أو واجبات سياقية. ولكي يكون هذا الاختيار حرا، يجب توفر بنية مؤسساتية عقلانية ترفع الإكراهات السياقية وتمنح الأفراد مساواة في ممارسة اختياراتهم.
ثم هل يتعلق الأمر بتحول في "المعيارية"؟ الواقع أن مثال حياد الدولة، يستند على فكرة نجدها سلفاً عند لوك وتشكل جوهر الليبرالية منذ ستيوارت ميل.
[sup][17][/sup] وتبعاً لهذه الفكرة، لا يجب على الدولة أن تتدخل في مجال الكفاءة الخاصة بالأفراد، خاصة وأن لكل فرد الحق في اختيار تصوره الخاص للخير الذي يقود حياته، والذي يعتبر حقا مشروعاً وشأنا فردياً خالصاً، ما دام أنه لا يلحق أي ضرر بحريات وممتلكات الغير. ولما كان اختيار "الخير" أمراً متروكا للفرد، فليس دور الدولة أن تحل محل هذا الاختيار، ولا أن تفرض على الأشخاص تصوراً معينا للخير، حتى ولو كان هذا التصور كريماً ومنفتحا. إن مثل هذه المحاولة، تسقط في نظر الليبرالية، في دائرة ما سبق لكانط أن أدانه، باعتباره "وصاية أبوية" «Paternalisme». يتحدد دور الدولة، إذن، في أن تكون "عادلة"؛ أي أن توفر، بواسطة المؤسسات، شروط الاختيار التي تكون متساوية بالنسبة للجميع. من هنا، ينبع ذلك الاهتمام المهيمن في الفكر الليبرالي، بتأسيس مؤسسات عادلة، لا تحابي أحداً على حساب الآخرين. لكنها تنشغل أيضاً ببناء مراتبية اجتماعية، تاركة مفهوم "العدالة" للاستعمال الإيديولوجي من طرف الدولة ومفهوم "الخيرات" للمجال الخاص. غير أن غياب أشكلة ما تسميه هذه الليبرالية بمفهوم "العدالةً" (باعتبارها فضيلة مؤسسات الدولة)، هو ما يلغي ويعثم هذا المفهوم على حساب كل حوار ديمقراطي يستهدف تحديد المعنى الذي ينبغي أن يمنح له.
إن الهدف الذي يسعى إليه مثال الحيادية، من بين أهداف أخرى، هو حماية الأفراد داخل وضعيات أو سياقات لم يختاروها. فالحيادية تحمي الحرية الفردية، المتصورة، باعتبارها حرية تكوين اختيارات فردية، وتحول، أو على الأقل، تتوخى الحيلولة دون خضوع الأفراد لإكراهات سياقات ورثوها وكان من المستحيل عليهم اختيارها. لنفكر، على سبيل المثال، في تكافؤ الفرص، وفي الإرادة التي تكون لدى كل واحد، وباستقلال عن انتمائه السوسيواقتصادي أو الإثني، في ولوج نفس النظام المدرسي إسوة بمن يختلفون عنه في هذه السياقات. إن التسامح المنظور إليه على هذا النحو، هو عبارة عن براديغم يستدعي إقرار معيارية كونية، تكون "متساوية" بالنسبة للجميع، ويترتب عنها إلغاء الاختلافات في الوضعية القانونية بين مختلف فئات المواطنين. يشكل هذا التصور للتسامح حجة قوية ضد كل أشكال التمييز والتمايز الاجتماعي غير المؤسسة.
يمكن تلخيص هذه الطريقة في تصور التسامح في ثلاث نقط:
1 – إن التسامح "فضيلة" أساسية للدولة وللمؤسسات وللتدبيرات الجماعية...
2 – يتطلب إقرار التسامح أن تكون هذه المؤسسات محايدة في علاقتها بالقناعات الفردية، ويفرض ألا تتعسف هذه الأخيرة على حياة وحرية وممتلكات الغير.
3 – ينتمي التسامح إلى ميدان الحرية. وقد حلت اليوم، محل لغة التسامح، باعتباره فضيلة، وعلى نطاق واسع، لغة تعتبر مطلب التسامح عبارة عن حماية "مؤسساتية". وتبعا لذلك، يقتضي التسامح وضع وتفعيل جهاز معياري ومؤسساتي يجعل اللاتسامح مرفوضاً ويضعه خارج القانون.
يظهر التسامح، إذن، كمنطق مجرد، قواعده معيارية كونية، وشبه "علمية"، وكتقنية مؤسساتية تستهدف تكييف التدبيرات الاجتماعية، بأن تفرض عليها أن تكون مطابقة لمثال فلسفي معين للعدالة. هكذا يطبق هذا المنطق على المؤسسات بطريقة تتوخى أن تصبح متسامحة في مواجهة التعقيدات السياقية (السوسيواقتصادية) وتعدد التعبيرات الإثنية والثقافية في مجتمعاتنا الحديثة.