التسامح في العربية على صيغة تفاعل، التي تقتضي طرفين يقومان بالفعل نفسه، في الوقت نفسه، أو عدة أطراف تقوم جميعها بالفعل نفسه، في الوقت نفسه، كالتفاعل الكيمياوي؛ فهي صيغة لا تقبل التجزئة ولا تقبل الإرجاء. فإذا اقتصرت على المفرد تحمل معنيين متضادين: أحدهما هو التسامح الفعلي والثاني هو التظاهر به وادعاؤه ادعاء. هذه الدلالات اللغوية جزء من نسيج المصطلح، الذي راج في العقدين الماضيين أو ثلاثة العقود الماضية وأثار جدالات لم تنته بعد، وغدا مرادفاً للاعتراف المتبادل ومشروطاً به. التسامح من باب الاعتراف المتبادل والتقبُّل المتبادل شرط أولي للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، فلا أحد يقبل أن يكون غير معترف بأهليته وجدارته واستحقاقه الحقوق التي يتمتع بها مواطنوه، ولا أحد يطيق أن يكون غير مقبول من الآخرين.
لكن الاعتراف شيء وتقبل الآخر المختلف، على ما هو عليه وما يمكن أن يكونه، شيء آخر، إذ يمكن أن نعترف بأن للآخر مثل ما لنا من كرامة إنسانية وجدارة واستحقاق، ولكننا نميل، مع ذلك، إلى تجنبه وعدم الرغبة في مشاركته، لأسباب عرقية أو دينية أو مذهبية أو حزبية أو طبقية .. ما يعني أن الاعتراف موقف موضوعي صادر عن أحكام عقلية، أو أحكام واقع، مؤداها الاعتراف بموضوعية الواقع. أما التقبل، فهو موقف ذاتي صادر عن أحكام قيمة سريعة التغيُّر وفقاً لأحوال النفس البشرية وانفعالاتها وغالباً ما تصدر عن رؤى ذاتية وأوهام مترسبة في اللاوعي الفردي والجمعي، مؤداها أن اختلاف الآخر يجعله منافساً أو خصماً أو عدواً لدوداً أقل أهلية وجدارة واستحقاقاً. وهذا ما يفسر كثافة العلاقات المتبادلة، القائمة على الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل، بين من تجمعهم عَصَبَة واحدة أو عصبية واحدة، وشحَّها أو ندرتَها خارج هذين الإطارين. لكن الاعتراف والتقبل، هنا، مشروطان بالتزام "مصالح" العصبة أو العصبية وأيديولوجيتها أو تحديداتها الذاتية، وأعرافها وعاداتها وتقاليدها والاتصاف بالصفات التي تنسبها كل جماعة إلى نفسها، وتنزعها عن الآخرين.
إن تقبل الآخر المختلف على ما هو عليه، وما يمكن أن يكونه قرينة على تقبل الذات وتقبل العالم شرطاً للتأثير فيه والعمل على تحسينه باطراد، فالاغتراب عن العالم هو في الوقت ذاته اغتراب عن الذات. الإنسان مرآة الإنسان، والآخر هو شرط تشكل الذات وانفتاحها على الألفة والمحبة والتعاون والتعارف والتثاقف والتشارك الحر في الحياة النوعية، الوطنية والإنسانية، بل الإنسانية أبدأ وأولى بالتقديم.
قد نتقبل الآخر على ما هو عليه، من باب الاعتراف بأنويته، أي بمحض وجوده الكياني وكونه (أنا) ولكن، من الصعوبة بمكان أن نتقبله على نحو ما يريد أن يكون، أي من الصعوبة بمكان أن نتقبل ذاتيته، أي حريته واستقلاله الذاتي، لأننا نميل دوماً إلى أن يكون الآخر مثلنا، موافقاً لنا ومتفقاً معنا، حتى في الذوق، ناهيك عن الأفكار والتصورات والمعتقدات. أجل "الأنا" هو ما نحن عليه، وما يكون الآخر عليه بوصفه "أنا"، لكن الذات هي ما يمكن أن نكون[1]، وما يمكن أن يكون الآخر المختلف. في ضوء هذه الحيثية، يمكن القول إن الصداقات والتوافقات والتحالفات وأشكال التعاون المختلفة، الفردية منها والجمعية، هي، على الأغلب، علاقات بين أنوات (جمع أنا)، لا بين ذوات حرة ومستقلة. ولا يخلو أن تكون بعض الأنوات منتفخة وغارقة في رؤيتها المرآوية لنفسها، وهويات خاوية، كل منها (نحن) بلا أفراد، و"هوية بلا ذات"، بتعبير فتحي المسكيني. "فإن الإجابة الهووية عن السؤال المرير "من نحن" قد انقلب اليوم إلى عائق أخلاقي أمام التجربة الحرة لأنفسنا بأنفسنا، وهي عائق من فرط أنها لا تعدو أن تكون دفاعاً عدمياً عن إجابة فقدت كثيراً من أصالتها"[2] وما تبكيت النفس إثر كل هزيمة أو محنة أو كارثة، كالي نعيش في خضمها، سوى علامة على هذا الفقدان وذلك الخواء. - اقتباس :
إن الصداقات والتوافقات والتحالفات وأشكال التعاون المختلفة، الفردية منها والجمعية، هي، على الأغلب، علاقات بين أنوات، لا بين ذوات حرة ومستقلة
هذا يعني أن التسامح الحق، مشروط بالحرية والاستقلال شرطاً لازما، حرية الفرد الذاتية واستقلاله الذاتي، بالمعنى الكانتي للاستقلال الذاتي وحرية الإرادة[3]، وحرية الجماعة واستقلالها الذاتي، بالمعنى نفسه، أي تمكن الفرد من "التشريع لنفسه"، وتمكن الجماعة والمؤسسة أو المنظمة .. من التشريع لنفسها، على النحو الذي يقبل به جميع أفرادها ويحترمونه بالتساوي، أو يتوقع كل منهم أن الآخرين يحترمونه، ومن ثم، تمكن المجتمع الكلي من التشريع لنفسه. بهذا فقط، يمكن أن يكون كل فرد مشروع تحقق كياني وشخصية قانونية وأخلاقية وفاعلة اجتماعية أو فاعل اجتماعي، وكذلك كل جماعة وكل شعب وكل أمة. لا قيمة للمساواة، ولا معنى لحقوق الإنسان من دون هذين الحرية الفردية والاستقلال الذاتي، ولا معنى للحقوق المدنية والسياسية إذا لم يكن جميع مواطني الدولة قادرين على ممارستها والتمتع بها. الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل هما ركنا التسامح، لا يكون من دونهما معاً. بهذين الركنين من أركان التسامح تنفتح إمكانية "الصداقة المدنية"، أي إمكانية المواطنة المتساوية، على قاعدة الحرية الذاتية والاستقلال الذاتي للأفراد والمؤسسات، سواء مؤسسات المجتمع الأهلي، الحامل جنين المجتمع المدني، أم مؤسسات المجتمع المدني الحديثة. وهذه الأخيرة، ولا سيما الأحزاب السياسية منها، لا تستحق اسمها ما لم تقطع الحبل السُّري الذي لا يزال يصلها بالمجتمع التقليدي، حتى لتبدو كأنها عصبية من عصبياته أو بنية موازية لبناه الاجتماعية والذهنية والثقافية، بالمعنى الواسع للثقافة، باعتبارها ممارسة اجتماعية.
ودفعاً لأي التباس، تجب الإشارة إلى أن التسامح لا يعني المسامحة أو التغاضي عن الحقوق المادية والمعنوية أو النزول عنها. مع أن المسامحة على صيغة مفاعلة أيضاً، كالمشاركة والمجالسة والمؤاكلة والمعاشرة والمناقشة ...، ولكنها لا تشترط تكافؤ الطرفين أو الأطراف المختلفة، في الأهلية والمكانة أو المنزلة، ما يعني أن التكافؤ في الأهلية شرط أولي للتسامح وإلا غدا التسامح مسامحة تعني، إما التخلي عن حقوق، وإما التغاضي عن التزامات أو واجبات. نقول ذلك ونحن نفكر في العدالة، بوجه عام، والعدالة الانتقالية، حيثما غدت واجبة، بوجه خاص[4]. فقد ارتكبت الجيوش النظامية والأجهزة الأمنية، في سوريا وغيرها من البلدان المشابهة، جرائم موصوفة لا يمكن نسيانها ولا يمكن الصفح عنها ومسامحة مرتكبيها، وكذلك الجرائم التي ارتكبتها الجماعات المسلحة الأخرى. التسامح المطلوب في بلادنا أكثر من أي وقت مضى ليس التسامح الديني بين أتباع الديانات المختلفة والمذاهب المختلفة فقط، بل بين الجماعات السياسية "العلمانية"، ومنها جماعات الإسلام السياسي. فلا يستقيم النظر إلى هذه الجماعات الأخيرة على أنها جماعات سياسية وجماعات دينية أو مذهبية في الوقت نفسه، لذلك لا نستطيع أن نرى فيها سوى جماعات سياسية علمانية متطرفة، ذات عقائد وضعية ودوغمائية، وتتصف، كغيرها من الأحزاب العقائدية بتفارق خطابها عن ممارستها. السياسة علمانية بطبيعتها، فليس هنالك من سياسة دينية، وإلا لكانت الدولة الدينية ممكنة[5]، نعني الجمهورية الفاضلة أو مملكة الله. - اقتباس :
السياسة علمانية بطبيعتها، فليس هنالك من سياسة دينية، وإلا لكانت الدولة الدينية ممكنة
ندعي أن المذاهب الدينية تسامحت، من باب الاعتراف المتبادل، لا من باب التقبل المتبادل، وتعايشت في مختلف المجتمعات، وكان يمكن لهذين التسامح والتعايش أن يترسخا، في سوريا والبلدان المشابهة لها، لولا تعثر قيام دول وطنية حديثة، على مبادئ المواطنة المتساوية والعدالة وسيادة القانون، تعبر عن الحياة المدنية لمجتمعاتها، وسلطات سياسية منبثقة من الشعب ومسؤولة أمامه.
صحيح أن كل مذهب من المذاهب الدينية وغير الدينية يعتقد أتباعه بأنه "المذهب القويم" أو "الملة الناجية"، وهذا من طبائع الأمور، وإلا لتخلى أتباع هذا المذهب عنه أو هجروه إلى مذهب آخر. وإذ يعتقد أتباع كل مذهب أن مذهبهم هو المذهب القويم، فلا بد أن يعتقدوا أن أتباع المذاهب الأخرى على ضلال، ولكنهم مقتنعون أن ضلال أولئك لا يضيرهم في شيء، لا في الدنيا ولا في الآخرة، حيث "لا تزر وازرة وزر أخرى". وإذ يعتقدون بوجوب هدايتهم من أجل خلاص نفوسهم، في الدنيا أو في الآخرة فإنهم لا يتوسلون إلى ذلك بأي شكل من أشكال العنف وأي وسيلة من وسائله. ولكن ما أن تتنطع "نخبة متعلمة" إلى "قيادة الدولة والمجتمع"، فتعمل على أدلجة "التاريخ" الاجتماعي والسياسي وتختزله في "التدافع" أو "الصراع الطبقي"، وأدلجة "التراث" والمأثور الديني .. وتحشد لها جماهير الريف وفقراء المدن حتى يصير العنف سيد الموقف، ما يعني أن الأيديولوجيا وإرادة السيطرة هما مما يولد الكراهية والعنف ويحض عليهما، كما بينا في مقال سابق. فهل التسامح ممكن في ظل عربدة الأيديولوجيات وغطرسة حامليها؟
نحن لا نرى فروقاً نوعية بين حزب البعث العربي الاشتراكي وأي حزب شيوعي وبين جماعة الأخوان المسلمين أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي، على اعتبارهاً جميعاً أحزاباً سياسية أولاً، وعلى اعتبار الأيديولوجيا هي الأيديولوجيا، قومية كانت أم اشتراكية أم إسلامية، ثانياً، ونضعها جميعاً تحت عنوان الأحزاب العقائدية والشمولية. فإذا نظرنا إلى الجماعات الإسلامية كافة على أنها جماعات سياسية ليس غير، لكل منها أيديولوجيتها، كالأحزاب "العلمانية" المعروفة في العالم العربي، لا يجوز لوم هذه الجماعات المتشددة على تشددها من دون رؤية موقف الدولة وسلطتها السياسية من هذه الجماعات وغيرها. الدولة في أي بلد من بلدان العالم العربي ليست محايدة إزاء عقائد رعاياها واتجاهاتهم الفكرية والسياسية، كلها أشباه دول، ودساتيرها أشباه دساتير، وقوانينها أشباه قوانين، وسلطاتها مستبدة، وحكامها طغاة، ومع ذلك، ثمة من يصفون بعضها بأن دول علمانية وحديثة افتراءً على الحداثة والعلمانية.
لا يمكن إقناع الإسلاميين المتشددين بفصل الدين عن الدولة والمدرسة، مثلاً، ولا يجوز إجبارهم على ذلك بأي شكل من أشكال القسر والإرغام وأي وسيلة من وسائله، فما العمل؟
إذا كان إقناع هؤلاء بذلك أقرب إلى المستحيل، وإجبارهم عليه غير جائز بأي وجه من الوجوه وأي معيار من المعايير الإنسانية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، فلا بد من الاعتراف بحقهم في أن يعتقدوا بما يعدونه عقيدتهم القويمة، ويتعصبوا لها مطالبةً ومدافعةً، والاعتراف قبل ذلك وبعده بحقوقهم المدنية والسياسية كاملة غير منقوصة أسوة بغيرهم، ومنها حقهم في التبشير والهداية، "بالتي هي أحسن"، وممارسة طقوسهم وشعائرهم بحرية تامة، وحقهم في التعبير بجميع الوسائل المتاحة لغيرهم، كالصحف والمجلات والكتب ومحطات الإذاعة والقنوات الفضائية والاجتماعات العامة. في هذه الحال فقط يمكن أن ينزاح النقاش من مجال العقيدة، كما هي الحال، إلى مجال السياسة والاجتماع المدني والتنافس الديمقراطي، فتتخلص السياسة من الحميَّة الأيديولوجية والصخب الدوغمائي، وتنصرف إلى تدبير الشؤون العامة، من دون أن ننفي أن ما يوجه السياسة هذا الاتجاه أو ذاك هو ميزان القوى.
إذا كان الأمر كذلك فلا سبيل إلى التسامح والسلام الاجتماعي إلا بتدخل المجتمع المدني عنصراً وازناً، إن لم نقل حاسماً، في ميزان القوى، بحكم طبيعته الديمقراطية وميل مؤسساته إلى الاعتدال وابتغاء الخير العام وانبنائها على مبادئ الاعتراف المتبادل والتقبل المتبادل والاحترام المتبادل وقيم التعاون والتشارك الحر والعمل التطوعي، بشرط حرية هذه المؤسسات والتنظيمات والانتظامات واستقلالها، باعتبارها الأطر التي تُمارس فيها الحياة النوعية العامة، والبنى الوسيطة بين الأفراد والدولة، والقوى المجتمعية، التي تحول دون تجاوز السلطة على حريات الأفراد وحقوقهم.