21 فبراير 2015 بقلم
محمد الحاج سالم قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر: في التوظيف السياسي للمقدّس: قراءة إناسيّة*
ينطلق هذا البحث الموجز من تأكيد بعض التّحليلات الفلسفيّة المعاصرة على أنّه ما من شأن سياسيّ في تاريخ الإنسانيّة إلّا وهو مدموغ بطابع دينيّ، وأنّه ما من حدث سياسيّ إلاّ ويحمل في أصله أو في هدفه أو عبر مساره فكرة دينيّة، حتّى تلك الأحداث التي تدّعي أو تظهر على أنّها مضادّة للشّأن الدّينيّ نفسه. فيجب البحث عن أصل السلطة السياسية، حسب ميشال مافيزولّي (Michel Maffesoli)، في تلك الضّرورة الحيويّة للجماعة في تأمين حمايتها وتأمين حسن اشتغالها الاجتماعيّ وتطوّره، وهو ما يستتبع خضوع الجماعة إلى سلطة سياسيّة(
[1]) ما دامت هذه الأخيرة قادرة على القيام بتلك المهامّ المطلوبة منها، شريطة أن تتمكّن من تجييش القوّة التخيّليّة للجماعة وصرفها نحو هدف اجتماعيّ مّا يعتقد الجميع بإمكانيّة تحقيقه، بل وفي وجوب تحقيقه. فالسّعي نحو هذا الهدف، هو ما يجعل أفراد الجماعة يتخلّون عن استقلاليّتهم الفرديّة ويخضعون لكلّ سلطة تتولّى عنهم مهمّة العمل على تحقيق ذلك الهدف، وذلك لتحقيق الأمن الجماعيّ. واستخدام القوّة التخيّليّة للمجتمع من قبل السّلطة إنّما يعني استخدامها الدّين نفسه، فما الدّين إلّا تلك القوّة التخيّليّة نفسها التي تقف وراء الأفكار الجماعيّة المسبقة، سواء أطلق على هذه الأخيرة اسم "المقدّس الاجتماعي" كما عند إميل دوركايم،(
[2]) أو "السّياسة كشكل دنيويّ للدّين" على ما يرى كارل ماركس.(
[3])
I- المقدّس في قلب الاجتماع السياسي:
يحتل المقدّس مكانة كبيرة في البنية السّياسيّة لأيّ جماعة بشريّة، وهو ما يمكن ملاحظته بكلّ وضوح سواء نظرنا إلى المسألة على مستوى الزّعامة السّياسيّة أو على مستوى الجماعة نفسها. وإنّ قراءة التّاريخ تعلّمنا أنّه ما من إمبراطورية عظيمة إلاّ وانبنت على تكريس مقدّس مّا. وما مقدار عظمة الإنجازات السّياسيّة لأيّ دولة إلّا صدى لما يبلغه المقدّس المكرّس فيها من عظمة.(
[4]) وغزو الأرواح عبر المقدّس يسبق غزو الممالك، فالفتوحات الإسلاميّة مثلاً، كانت في جانب كبير منها سعيًا لتكريس مقدّس يُبرَّر به شأن سياسي لم يكن له في كثير من الأحيان علاقة بالدّين. وهذا ما فعله الإسبان في غزوهم "الدّينيّ"، إذ سبق التّبشير المسيحيّ ومهّد لغزوهم العسكريّ للعالم الجديد.(
[5])
ولعلّ أقرب مثال هو ما فعلته الماركسيّة حين فرضت هيمنتها على العقول من خلال نقدها اللاّهوتيّ للسّماء وتعبئتها الجماهير حول أسطورة فردوس موعود وقدّيسين وشهداء، إذ كان تغافلها عن "الجَيَشَان الدِّينيّ" الذي أحدثته، للمفارقة، هو بالذّات ما تسبّب في سقوط إمبراطوريّتها السّريع والمدوّي. وهذا ما استغلّه الفاتيكان حين تمكّن دون جيوش أو حروب عسكريّة من الانتصار على كلّ الجيوش الحمراء مجتمعة، ويتثمل ذلك في "النّموذج البولنديّ"(
[6]). أمّا المثال الأقصى، فقد جسّدته "القيصريّة البابويّة" (Césaropapisme) في أوروبّا القرون الوسطى.(
[7])
ولا ننكر، في هذا الخصوص، أهميّة الصّفات الشخصيّة المشترطة في الزّعيم لإنجاح مشروعه السّياسيّ، ولا ننفي "شبق الهيمنة" (Libido dominandi) الذي يحرّك الزّعيم، وما تأكيدنا على وجوب إيمان الزّعيم العميق بمشروع الجماعة وجهده في سبيل تحقيقه عبر إكسائه طابعًا دينيًّا، سوى بيانٌ لتوافق توظيف المقدّس مع الرغبة في الهيمنة، وألّا تعارض بين الأمرين. وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ سرّ نجاح أيّ مشروع سياسيّ، مهما عظم شأنه أو صغر، يكمن في اعتماد الدّين، في معناه الأوّلي المباشر المحدّد أعلاه، والتلبّس بلبوسه ورفع مقدّس مّا شعارًا يعمل على تكريسه. فالمقدّس يحتلّ مكانة كبيرة في البنية السياسيّة، وهو ما يمكن ملاحظته على مستوييـن: مستوى الزعيم السياسي، ومستوى الجماعة.
1- مستوى الزّعيم السّياسيّ:
تُشير الأدبيّات الإناسيّة إلى أنّه كثيرًا ما يُنظر إلى الزعيم في المجتمعات "ما قبل الحديثة" بوصفه حلقة الوصل بين المحيط الاجتماعي والمحيط الطّبيعي للجماعة. ومن أمثلة ذلك أننا نجد عند قبائل "الألور" في أوغندا أنّ "تحكّم الزّعماء في القوى الحيويّة...هو ما يبرّر تحكّمهم بالبشر"،(
[8]) مع الإشارة إلى أنّ الزّعماء ليسوا مخيّرين في هذه الحالة في قبول هذا الدّور المسند إليهم بقدر ما هو مفروض عليهم، فهم مجرّد أدوات في يد القوى العليا، وهو ما يحوّلهم قسرًا إلى "آخر" في نظر الجماعة التي تصبّ جام غضبها عليه في صورة عجزه عن تحقيق الهدف الجماعيّ الذي اختير من أجله وفُرض عليه أن يتولّى إنجاح السّعي إليه على ما يشير بيار كلاستر (Pierre Clastres) في تحليله النّظام السّياسي عند قبائل الهنود الحمر "الغاياكي".(
[9]) ويمكن الإشارة إلى مثال ثانٍ من الدّائرة الحضاريّة الإسلاميّة، فصرخة الصّحابي المعروف أبي ذرّ الغفاري لا تزال تدوّي في أرجاء ذاكرتنا الجماعيّة بوجوب الخروج على السّلطة إذا لم تتمكّن من إشباع الجياع.(
[10])
وربما لا يكون إخفاق الزّعيم إخفاقًا سياسيًّا بالمعنى الضيّق لكلمة سياسة، بل إخفاقًا في ترضية الآلهة التي تسلّط عقابها على الجماعة كلّها في صورة قحط ومجاعة أو وباء أو غزو أجنبيّ... إلخ. وهنا يُحمَّل الزّعيم مسؤوليّة الكارثة، ويُعاقب بالتخلّي عنه إن لم يكن بتصفيته جسديًّا،(
[11]) فالمسؤوليّة السّياسيّة مسؤوليّة دينيّة في جوهرها، وما من إخفاق دينيّ إلاّ هو إخفاق سياسيّ بالضّرورة، وما من نجاح سياسيّ إلاّ وهو نجاح دينيّ أيضًا.
2- مستوى الجماعة:
ويبدو المقدّس أكثر وضوحًا في عمله التّوحيديّ للجماعة على المستوى السّياسيّ، فإذا كان الدّور الأوّل للمقدّس هو تحقيق التّوافق بين كلّ جماعة ومحيطها الطّبيعي، فإنّ الدّور الأساسي للزّعيم هو تولّي مسؤوليّة تحقيق ذاك التّوافق، وهو ما يتطلّب جمع الجماعة حول مقدّس مّا، فكرة أو صورة أو عاطفة، يساعده في ذلك حاجة الجماعة إلى التجمّع وبحثها الدّؤوب عمّن تسند إليه مسؤوليّة تحقيق التّوافق بينها وبين محيطها الطّبيعي. ونحن نلاحظ أنّ هذه "الرّغبة البشريّة العجيبة في الخضوع"(
[12])، كما يُشير ميشيل مافيزولّي، وتتبدّى أكثر ما تتبدّى في وجود ما يُسمّيه إميل دوركهايم "الجَيَشَان الذي يميّز الفترات الثّوريّة أو الخلاّقة"(
[13])، أي الفترات التّاريخيّة التي تتميّز بتغيّر القِيَم والتي تجعل من فكرة ما، أو مجتمع ما، أو صورة مّا، شيئًا مقدّسًا و"موضوع طقس حقيقيّ" (
[14]) يمكّن الجماعة من إعادة إنتاج نفسها مقابل الخضوع لإكراهات سلطة سياسيّة تقبل مقاسمة الجماعة مقدّسها، أي فكرتها أو هدفها الجماعي الذي يتجسّد في زعامة مُلْهِمَة "كاريزميّة". فإذا ما استطاعت تلك الزّعامة السّياسيّة حمل المشروع الجماعيّ، أي احتواء النّزوع الجماعيّ غير الواعي غالبًا نحو الانقياد، وتوظيفه لخدمة المقدّس الجماعيّ، فإنّ التّمييز حينها بين الملامح الدّينيّة والملامح السّياسيّة لصورة تلك الزّعامة، كما تتبدّى للجماعة المؤمنة بها، يغدو صعبًا، إذ تتوحّد شخصيّة الزّعيم وتندمج في المشروع الذي تجسّده ويغدو الأمران عندها شيئًا واحدًا.
ولعلّ هذا ما يفسّر النّجاح المدوّي للأنظمة الشموليّة في التّاريخ الحديث التي تعتلي سدّة الحكم في فترات الأزمات أو الفترات التي تعقب الحروب أو التحرّر من الاستعمار، وهي فترات "جَيَشَان" وتغيّر في القيم تجعل الشّعوب تبحث عن "منقذ" يجسّد طموحاتها وآمالها أو "ملهم" تسقط عليه أحلامها ليعبّر عمّا تعتقد أنّه "رسالتها الخالدة"، ويؤدّيها نيابة عنها.
وإنّ التمييز بين عنصري السّياسة والدّين في منظومة حضاريّة مّا، لا يخلو من مصاعب، إذ إنّ مجرّد الحديث عن أحدهما بمعزل عن الآخر هو في أحد وجوهه اعتراف باستقلالية أحدهما عن الآخر نسبيًّا، واعتراف بالتّالي بالعلاقة التي تربط بينهما. وبما أنّه لا يمكن الرّبط والمزج إلّا بين متمايزين، كما لا يمكن في الحالة العكسيّة التّمييز إلّا بين متقاربين، فإنّ التصورّات أو المؤسّسات السّياسيّة والدّينيّة وعلاقاتهما، مهما كان شكل تلك العلاقات ودرجة تشابكها وتفاعلها، لا تنفصل عن السّياق الاجتماعي والثّقافي الذي تنخرط فيه، والذي يكوّن نسغها الذي تغتذي منـه،(
[15]) فكيف كان الأمر في حضارتنا العربيّة الإسلاميّة؟
II– المقدّس في الاجتماع السياسي الإسلامي:
لاحظ الماوردي وابن خلدون أنّ "الدّين هو أصل الملك"(
[16]) لا في ما يختصّ بتاريخ الإسلام السّياسيّ فحسب، بل في جميع الأمم، وهو ما يتوافق كليًّا مع ما أثبتته معطيات البحث الإناسيّ الحديث، وهو ما معناه باختصارٍ أنّ الدّين هو المشكّل تاريخيًّا لإمكان نشوء الدوّلة. إلاّ أنّ الاطمئنان إلى هذه النّتيجة النّظريّة العامّة حول اكتساء الدّولة طابعًا دينيًّا بحكم نشأتها في رحم الدّين، لا ينفي حرارة الشكّ وبالتّالي بروز السّؤال التّالي: هل يقتصر الأمر على وظيفة يؤدّيها الدّين في لحظة تاريخيّة معيّنة لينسحب بعدها تمامًا، أم يظلّ على تخوم الدّولة مراقبًا تصرّفاتها من خلال المجتمع الذي ارتضى الانتظام بإرادته في إطار دولة، شرط ألّا تحيد الدّولة عن المبادئ العامّة التي أسّسها الدّين، وأنشأ الدّولة منها، وعليها، ومن أجلها؟
إنّنا نلاحظ في مرحلة التّأسيس الإسلاميّ تطابقًا تامًّا بين "وحدة الأُمَّة" و"وحدة السّلطة" حين مثّل الدّين الجديد الرّابطة الاجتماعيّة الجديدة بين مكوّنات الجماعة الإسلاميّة الأولى؛ فقد اتّخذ الدّين وقتها شكل بوتقة التّنظيم المجتمعيّ لتلك "الجماعة الأُمَّة" باستبعاده كلّ انقسام اجتماعيّ فيها، وذلك رغم الاعتراف بالتعدّد الدّينيّ داخلها، بدليل وجود يهود ونصارى مكوّنًا أساسيًّا لها. إلّا أنّنا نرى أنّ هذا الأمر ما كان له ليتمّ إلاّ بعد تحييد السّلطة النّبويّة رمزيًّا بوصفها النّاطقة باسم المتعالي، إذ اعتبر القرآن النبيّ طوال جميع مراحل الدّعوة سواء في مَكَّة أو في يَثْرِب مجرّد مبلغّ سلبيّ عن الله، ولا دخل له بالتّالي في هداية البشر أو إكراههم وقسرهم على الانخراط في الدّين الجديد، وبالتّالي في الجماعة الوليدة ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة، 256)، و﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون، 6)، مادام الله هو المشرّع والنبيّ مجرّد مبلّغ ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾(الغاشية، 22).
إلاّ أنّه لا مناص من اعتبار السّلطة النّبويّة، إذا ما نظرنا إليها من مسافة نقديّة، ومهما كانت زاوية النّظر، شكلاً سياسيًّا لتنظيم المجتمع عبر تقنين ممارساته وبناء مؤسّساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الخاصّة من خلال تشريعات جديدة تتّفق مع الأهداف المرجوّة من الجماعة، وهذا ما جعل التّشريعات، وقد اتّخذت شكل التّحليل والتّحريم وشكل أحكام دينيّة، أحكامًا سياسيّة. ذلك أنّها كانت متّصلة بالعلاقات الاجتماعيّة بين المسلمين، لأنّها كانت المنظّمة للعلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة بين جماعة المسلمين وسائر الجماعات الأخرى المناوئة أو الحليفة، ممّا يكسب الجماعة الإسلاميّة تفرّدًا، واستثنائيّة، ووحدة داخليّة، وبالتّالي استقلاليّة تجاه الخارج. وفي جميع الحالات، فإنّه لا يمكن تمثّل الدّينيّ بمعزل عن شكله السّياسيّ أو مضمونه الاجتماعيّ.
لقد غدا النبيّ، صلى الله عليه وسلم، تحت غطاء التّبليغ عن المتعالي على مستوى الخطاب الديني، أي تبليغ القرآن الكريم، نائبًا عن الله على المستوى الاجتماعيّ، وأضحى الرّضا بأحكامه في المنازعات بين الأفراد والجماعات من شروط الإيمان بالدّين ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(النّساء، 65)، وأضحى الدّين حاضًّا على اتّباع ما يسنّه من تشريعات وإن كان ذلك باسم الله ﴿
مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(الحشر، 7)(
[17]). وقد سمحت هذه الاستراتيجيّة بأن يغدو النبيّ صاحب سلطة أو بالأحرى "صاحب السّلطة"، وذلك منذ أن ارتضت الجماعة الجديدة، أو الأُمَّة، أن تكون أقواله وأفعاله مبادئ فعل وقواعد سلوك اجتماعيّة لابدّ على المؤمنين من اتّباعها، أي أحد مصادر النظام الاجتماعي.
ونحن نفهم، من خلال النصّ القرآنيّ على الأقلّ، أنّ النبيّ لم يفصل بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ، إلاّ أنّه لم يماهِ بينهما، بل كان سبيله التّمييز بين الشّأنين بمعنى حضور الدّين في السّياسة، باعتبارها مبادئ موجّهة، مع الاعتراف باستقلاليّة الممارسة السّياسيّة عن كلّ سلطة باسم الدّين، حتّى إن كانت سلطة دينيّة في جوهرها، إذ لا وجود تاريخيًّا لمؤسّسة دينيّة في الإسلام.(
[18])
وقد كان النبي الكريم، بتعبير آخر، "إمامًا للأمّة"، بما يتضمّنه هذان اللّفظان من معاني التّأسيس لواقع اجتماعيّ اقتصاديّ جديد والقيادة الرّوحيّة للجماعة المنتظمة في ذلك الواقع. فقد كان من مهامّه إرساء المبادئ الأخلاقيّة العامّة المنتظمة لعمليّة التّأسيس تلك، إلى جانب إقامة سلطة تشريعيّة تنفيذيّة كانت هي الوحيدة القادرة على ضمان بلوغ الهدف الأسمى من الرّسالة المحمّديّة، ألا وهو "تحققّ الوحي في التّاريخ" بعبارة المؤرّخ هشام جعيط، أو بالتّعبير القرآنيّ حتّى تكون الأُمَّة الإسلاميّة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران، 110). ولئن كانت هذه الثّنائيّة المميّزة للسّلطة النّبويّة هي ما مكّن من تأسيس نواة دولة كانت بحقّ قائمة على سلطة عليا هي سلطة النبيّ، فإنّها كانت سلطة مدنيّة منذ أن أعلن قيام الدّولة ذاتها من خلال "وثيقة المدينة"، فقد وضعت تلك الوثيقة الدّستور أسسًا جديدة للاجتماع السّياسيّ على أساس "تعدّديّ" يعتمد حرّية العقيدة والعبادة مما جعل المقيمين في دولة المدينة "مواطنين" فيها، بالتّعبير الحديث، مهما اختلفت ديانتهم، فهم بتعبير الصحيفة أمّة، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات ما للمسلمين وما عليهم. وقد كانت الوثيقة تصرّفًا دنيويًّا من النبيّ بوصفه رئيسًا للدّولة، إلاّ أنّها تضمّنت في توجّهاتها العامّة جملة المبادئ الإسلاميّة العليا التي يجب على الجميع اتّباعها تحقيقًا للمصلحة العامّة، أي مصلحة المجتمع المنضوي تحت لواء الدّولة بكلّ فئاته الدّينيّة.
إنّنا نرى وبكلّ وضوح أنّ النبيّ لم يؤسّس "سلطة سياسيّة نبويّة" هي ما سيبرّر لاحقًا ما يشطّ البعض في مماهاته بما عرفه الغرب الأوروبيّ من حكم باسم "الحقّ الإلهيّ". وهذا لا ينفي بأيّ حال أنّ النبيّ كان بحقّ مؤسّس دولة وأنّه كان صاحب سلطة. ونحن نذكّر هنا أنّ مصطلح السلطة في اللغة اللاتينيّة (Auctoritas) مشتقّ من الجذر الهندوأوروبّي (Aug) الذي يعني "قوّة ذات طبيعة وكفاءة فريدتين، وهي خاصيّة تمتاز بها الآلهة"(
[19]) وهذا ما يؤكّده القرآن نفسه، حين يُشير إلى أنّ السلطة، السلطان، والقوّة، والأمر، والحُكم، والمُلك، والقهر، هي صفة إلهيّة بصفة حصريّة، لكن يمكن لله تفويضها لمن يريد من البشر. وبفضل تلك السلطة الكاريزميّة، بحسب الاصطلاح الفيبري، أمكن للنبيّ إقامة نظام اجتماعي جديد وإرساء أسس إمبراطوريّة وبناء حضارة، لكن وفاة النبيّ بوصفه الضامن المختار للحديث باسم السّلطة الإلهيّة، طرحت مشكلة تطبيع (Routinisation) الكاريزما التي كانت له، وبالتّالي برزت مشكلة: من المخوّل وراثة صلاحيّاته؟
ورث الخلفاء صلاحيّات النبيّ، بدايةً، لكن توسّع الإمبراطوريّة الجديدة والافتقار إلى هيئة يُناط بها تنظيم شؤون المعاد وحاجة الفاتحين إلى التمايز الثقافي الهوياتي، أبرز الحاجة إلى أطر تنظيميّة وتشريعيّة وثقافيّة ثابتة لتدعيم بنية الدّولة وإكسابها شرعيّة بسط سلطانها الدنيوي على جموع المؤمنين، فـ"الله يَزَعُ بالسّلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن" كما جاء في الأثر.(
[20]) ومن هنا، ولدت مؤسّسة العلماء التي استولت تدريجيًّا بُعيْد الفتنة الكبرى على قسم كبير من سلطة الخلفاء الدينيّة التي أصيبت بالوهن نتيجة الصراعات السياسيّة الدينيّة صلب الأمّة الناشئة.(
[21]) فما هي طبيعة هذه السلطة العُلمائيّة؟
III– سلطة العلماء والتوظيف السياسي للمقدّس:
سبق لماكس فيبر أن صنّف السلطة إلى ثلاثة أنماط: السلطة التقليديّة القائمة على "التقاليد المقدّسة بفعل شرعيّتها العتيدة وعادة احترامها المتأصّلة في الإنسان"(
[22]) وهذا النمط المثالي يجد تمثلّه في تراثنا في صورة أهل الحديث ومؤسّسة الأشراف وشيوخ الطرق الصوفيّة، والسلطة الكاريزميّة القائمة على "صفات استثنائيّة وخارقة [كاريزما] لشخص تضمن ثقة أتباعه وطاعتهم المطلقة"(
[23]) وهذا النمط المثالي يجد تمثلّه في تراثنا في صورة المهدي والمجاهد والمجدّد والمجتهد، بعضه أو كلّه بنسب متفاوتة، والسلطة القانونيّة العقلانيّة "التي تفرض نفسها بموجب الشرعيّة وبموجب الاعتقاد في صلاحيّة وضع قانوني وفي كفاءة مستندة إلى قواعد عقلانيّة."(
[24]) وهذا النمط المثالي يجد تمثلّه في تراثنا في صورة وكلاء المؤسّسات الدينيّة؛ كالقضاة والمفتين والمحتسبين والقائمين على الأوقاف...إلخ.
إنّنا هنا إزاء ثلاثة أنماط مثاليّة للسّلطة التي يمكن أن يمارسها العلماء، إلاّ أنّ ماكس فيبر يميّز في الواقع بين أربعة أنماط مثاليّة من الفعل الاجتماعي: فعل عقلاني في غايته يتحّدد بحسب توقّع سلوك الآخرين، وفعل تقليدي يحدّده تقليد راسخ، وفعل عاطفي تحدّده الانفعالات، وفعل عقلاني في قيمته يتحدّد وفق الإيمان بقيمته الأخلاقيّة أو الجماليّة أو الدينيّة... إلخ.
ولاستكمال الخطاطة الفيبريّة والمواءمة بين الأنماط المثاليّة الثلاثة للسّلطة وبين الأنماط المثاليّة الأربعة للفعل الاجتماعي، يقترح ديفيد ويلر (David Willer) تسمية النمط المثالي للسّلطة الناجمة عن الفعل العقلاني القائم على القيم باسم "السّلطة الإيديولوجيّة" لأنّها "تمثّل الإيمان بالقيمة المطلقة لبنية معقلنة من القيم"(
[25]) وبعبارة أخرى، فإنّ هذا النمط من السلطة يعتمد القدرة الرمزيّة المتاحة لفاعل اجتماعي على إنتاج معتقدات مستوحاة من مرجع أوّلي، كالوحي، والمذهب، والإيديولوجيا،... الخ، وتأويلها بما يحقّق هدفًا مزدوجًا هو تخليد الإيديولوجيا التي يبشّر بها قائد كاريزمي، وتمكين تلك الإيديولوجيا من التكيّف مع متغيّرات الواقع، وهذا ما يضمن لها "تحقيق توازن بين الضرورات الأخلاقيّة والدينيّة من جهة، والمتطلّبات السياسيّة والتاريخيّة من جهة أخرى."(
[26])
وهكذا يمكن القول إنّ مشروعيّة سلطة العلماء وقوّتها إنّما تقوم على ما يتمتّعون به من سلطة إيديولوجيّة، وأنّ سلطتهم التقليديّة والقانونيّة العقليّة والكاريزميّة، تعتمد أساسًا على
"استخدام جيّد للإيديولوجيا"(
[27])
المستمدّة من تأويلهم النصوص المقدّسة، مما يسمح لهم بإنشاء نظام من المعتقدات والتمثيلات المتجانسة المتعلّقة في آنٍ بالغيب، وبالتّنظيم الاجتماعي والسياسي للمجتمع. وهذا ما يحوّل الدين إلى إيديولوجيا، وبالتّالي يسهّل استخدام هذا "الرأسمال الرمزي"، بتعبير بيير بورديو، وتوظيفه في فرض ما يرونه العقيدة الصحيحة (Orthodoxie) والسلوك القويم (Orthopraxie).
ومن البدهي أن يكون فرض هذين الأصلين مشروطًا بتوفّر مناخ من الأمن، أي وجود نظام سياسي شرعيّ يقبل بصفقة توافقيّة، معلنة أو ضمنيّة، تضمن مصلحة الطرفين المتربّعين على قمّة الهرم الاجتماعي، السلطان والعلماء، وتحظى بإجماع النّاس.(
[28]) وهذا ما نرى أنّه مكّن السلطة السياسيّة في مراحل مختلفة من تاريخنا العربي الإسلامي من الحصول على دعم العلماء الإيديولوجي من خلال تقنين مبدأ الطّاعة، وتنظيم الضرائب، وتحريض، أو تهدئة، الجموع من خلال الخُطب أو الكتابات أو الفتاوى، وغيرها، ومكّن العلماء، بالمقابل، إضافة إلى احتكارهم وظائف القيام على العبادات والتّعليم والقضاء، من النّفاذ إلى مختلف الوظائف العليا في الدّولة، فكانوا وزراء وسفراء ومستشارين وكتبة... إلخ.
إلاّ أنّ سلطة العلماء، وعلى غرار كلّ سلطة تتولّى تنظيم المعنى، لا تخلو من نزاعات حول تأويل النصوص ومن تضارب المصالح، وهذا ما ولّد عبر العصور صراعات إيديولوجيّة بين الأفراد والجماعات والفِرَق، وبالتّالي تعدّد سُبُل النجاة المقترحة في سوق الخيرات الدينيّة وتعدّد طرائق المجتمع في سلوك تلك الطرائق، بحيث كانت "النتيجة الطبيعيّة لهذه الخلافات هي ظهور طوائف فرعيّة [مدارس فقهيّة وكلاميّة، طرق صوفيّة، حركات سياسيّة دينيّة، أحزاب... إلخ] تعيد تقريبًا إنتاج نفس النمط، مع إضافة الانتساب إلى مؤسّس يكون أحد رموز التفسير الأرثوذكسي للنّصوص ولاستمراريّة العصر الذهبي للإسلام."(
[29])
ومع ذلك، فإنه لا ينبغي أن تختلط علينا الأمور، فلئن كان الهدف الأسمى للعلماء دائمًا هو تحقيق مصالح هي في المقام الأوّل ذات طابع ديني، ألا وهي هداية البشر لخير الدنيا والآخرة، فإنّ بعضهم لم يعدم مصالح دنيويّة عمل على تحقيقها، إمّا لفائدته أو لفائدة جماعة اجتماعيّة أو سياسيّة. فالمشاركة في السّلطة السياسيّة أو العمل على تبرير هيمنتها كان دائمًا بهدف المحافظة على النّظام، أي المحافظة على الشرط اللازم لفرض العقيدة الصّحيحة والسلوك القويم من وجهة نظر لم تخلُ في حالات عديدة ومتكرّرة طوال تاريخنا من خدمة مصالح فئويّة وسياسيّة. ومن هنا وجوب اعتبار هذا العامل المهمّ في أيّ بحث يروم دراسة مسألة التوظيف السياسي للمقدّس على غرار ما حاولنا الإلمام ببعض ملامحه في هذا البحث المتواضع.