[size=10]52[/size]
الإسلام السياسي في تونس بعد "الربيع العربي":
قراءة في تجربة "حركة النهضة"([1])
تعدّ حركة النهضة من أبرز الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية في تونس قبل ما يُعرف بـ "الربيع العربي" وبعده، وقد خبرت دور المعارضة، ومارست تجربة الحكم، ونروم في هذه الورقة تقليب النظر في منجزها السياسي بعد الثورة والبحث في خلفيات صعودها، فتراجع تأييد الناخبين لها، مع الوقوف عند دلالات فصلها بين الدعوي والسياسي، وضرورة التفاتها إلى مطلب المراجعة الذاتية النقدية.
1- حركة النهضة من المغالبة إلى التطبيع مع السلطة:
خرجت حركة النهضة بعد الثورة (2011) من طور المغالبة والمواجهة مع النظام الحاكم زمن الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي إلى طور المشاركة في صوغ المشهد السياسي لتونس، وبعثت برسائل إيجابية إلى المجتمع التونسي، تفيد بأنّها تحترم حالة التنوّع الثقافي والأيديولوجي في البلاد، مؤكّدة أنها لا تنصّب نفسها في موقع الوصيّ على الإسلام أو الناطق باسمه[2]، فطمأنت بذلك مكوّنات المجتمع المدني، وانخرطت في مسار التنافس السلمي على السلطة. وبرهنت على انضباطها التنظيمي، مستعيدة قدرتها على التشكّل وعلى الاستقطاب في وقت قياسيّ، فأنشأت لها فروعًا في مختلف المناطق والمحافظات، ولمّت شتات قواعدها في الداخل والخارج، وصاغت استراتيجية ذكيّة[3] في استتباع النّاس بصياغتها برنامجا انتخابيا واعدا خلال الحملة الانتخابيّة (2011) للتسابق على التمثيل في المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، فبلورت برنامجًا شاملًا وطموحًا في 364 نقطة[4] تعلّقت بهموم التونسي وأحلامه، وكيفيّات تحقيق طموحاته في مجالات الرقي الاجتماعي والرّفاه الاقتصادي والعدالة الانتقاليّة والتعدّد السياسي، ورفضت الحركة عقب الثورة الانخراط في موجات الاستقطاب الثنائي العلماني/ الإسلامي، كما رفضت الدخول في صراع على هوية تونس أو الانشغال بالردّ على التّهم التي يوجّهها إليها خصومها من اليمين واليسار، مركّزة على كسب معركة التنافس البرامجي. وأثمرت تلك الاستراتيجية فوز الحركة في أول انتخابات ديمقراطية شهدها المجتمع التونسي؛ ففازت بـ 89 مقعدًا من مجموع 217 مقعدًا في المجلس التأسيسي، متقدّمة على جميع القوائم بحصولها على نسبة 41,47 % من مجموع النواب الممثّلين للشعب في المجلس التأسيسي، وذلك في انتخابات شهد الملاحظون في الداخل والخارج بنزاهتها، وقُدّرت نسبة المشاركة فيها بـ 54,1 %. ونتيجة لذلك، تولّت حركة النهضة، باعتبارها حزب الأغلبية، تشكيل أول حكومة ائتلافية وطنية في تاريخ البلاد جمعت بين علمانيين وإسلاميين، إذ تحالفت الحركة مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المنصف المرزوقي (حاصل على 29 مقعدًا، بنسبة 9,68 %)، وحزب التكتّل من أجل العمل والحرّيات (حاصل على 20 مقعدًا، بنسبة 9,68 %)، وشكّلت ما مجموعه 138 مقعدًا في المجلس التأسيسي، وهو ما أهّلها لإدارة شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية. وباشرت حكومة الترويكا مهامّها يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) 2011 بعد فوزها بثقة المجلس التأسيسي في تونس، وذلك بحصولها على أغلبية 154 صوتًا في مقابل اعتراض 38 عضوًا وتحفّظ 11 آخرين من بين أعضاء المجلس الـ 217. وكانت الحكومة المنتخبة مكلّفة بإدارة الشأن العام في الفترة الانتقالية وإعادة هيكلة مؤسّسات الدولة وتأهيلها للتحوّل الديمقراطي بالسّهر على احترام الحرّيات واستقرار الأمن، والعمل مع المجلس التّأسيسي على صوغ دستور الجمهورية الثانية.
2- لماذا تراجعت حركة النهضة؟
على الرغم من أن حركة النهضة أسست أول تجربة في الحكم التشاركي بين الإسلاميين والعلمانيين، وقادت ائتلافا حزبيا ثلاثيا، ظلّ مُمسكا بزمام الحكم على مدى سنتين ونيّف (2011 - 2014)، مشكّلة حكومة الترويكا الأولى بقيادة حمّادي الجبالي (حركة النّهضة) وحكومة الترويكا الثانية بزعامة علي العريّض (حركة النّهضة)، فإنّ حضورها الشعبيّ قد شهد تراجعا ملحوظا، وذلك بسبب بطء وتيرة الإصلاحات، وعدم تحقيق الوعود الانتخابيّة في الشّغل والتّنمية، وضمان الاستقرار الأمني. كما أنّ فشل الترويكا في استباق العمليّات الإرهابيّة (خاصة حدث تنكيل الإرهابيين بالجنود بجبل الشعانبي في 25 يوليو (تموز) 2013، واغتيال المعارض شكري بلعيد والنائب محمد البراهمي سنة 2013) جعل قطاعا مهمّا من المواطنين يعتقد أنّها غير قادرة على إدارة البلاد، وتأمين الاستقرار، وتحقيق التطوّر الاقتصادي المنشود. وتزامن ذلك مع ما واجهته البلاد بعد الثورة من صعوبات اقتصادية جمّة نتيجة انتشار الشعور بالخوف، وغلبة الانفلات الأمني في السنوات الأولى التي تلت رحيل ابن علي (14 يناير (كانون الثاني) 2011). فعلى مدى الفترة الانتقالية ارتفع عدد العاطلين عن العمل من 500 ألف مع نهاية سنة 2010 إلى 650 ألف مع نهاية سنة 2012، وذلك بعد مغادرة أكثر من 80 شركة البلاد، وتسريح آلاف العمال، وتراجع الاستثمارات الأجنبية بنسبة 20 في المئة، وانخفاض مردود القطاع السياحي في الاقتصاد الوطني بنسبة 50 في المئة، وارتفاع معدّل البطالة، ليبلغ 16 % مقارنة بـ 14 % في عهد ما قبل الثورة. و"واجهت البلاد عقبة مزدوجة تمثّلت في نقص السيولة، وارتفاع تكلفة التمويل الخارجي نظرًا لخفض درجة تصنيفها السّيادي"[5]. يُضاف إلى ذلك، أنّ الأحزاب الممثّلة للترويكا عانت من حالات انشقاق داخليّ؛ ويتعلّق الأمر بحزبيْ المؤتمر والتكتّل خاصّة، فقد اعترض الكثير من قواعد الحزبين على قرار التحالف مع حركة النّهضة ذات المرجعيّة الإسلاميّة، وعدّوا الاختلاف الأيديولوجي مانعا من التّحالف السّياسي معها، لذلك اختاروا الانسحاب على مساندة الترويكا. كما انسلخ نوّاب من التكتّل والمؤتمر، وانضمّوا إلى أحزاب أخرى داخل المجلس التّأسيسي أو خارجه، وعمد نوّاب آخرون من حزب المؤتمر إلى تأسيس أحزاب جديدة؛ وذلك لاعتقادهم بأنّ الترويكا لم تفلح في تحقيق أهداف الثّورة، ولم تتقدّم في تكريس العدالة الانتقاليّة، ولم تكن حازمة في مكافحة الفساد ومحاسبة رموز النّظام السّابق.
ومن ثمّة، يتّضح لنا أنّ جبهة الترويكا بقيادة حركة النهضة لم تحافظ على ما حظيت به من إسناد شعبيّ إبّان انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، فمحدوديّة جهدها الإصلاحي وارتباك أدائها السّياسي، وتدهور الوضع الأمني، والواقع الاقتصادي، كلّ ذلك ساهم في انحسار عمقها الشّعبي، وسمح للمعارضة بتوسيع انتشارها وإعادة ترتيب أوراقها والانتظام ضمن جبهات سياسيّة ضاغطة على الترويكا مطالبة بتنحّيها عن الحكم، وهو ما حصل بالفعل، إذ سلّمت حركة النهضة مقاليد السلطة[6] في مطلع سنة 2014 لحكومة تكنوقراط بقيادة مهدي جمعة، وذلك في إطار تجربة الحوار الوطني التي جمعت بين الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والنقابية بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، وهدفت إلى وضع حدّ لحالة الاحتقان الذي عرفته البلاد على أكثر من صعيد. - اقتباس :
أسهمت عدة معطيات في تراجع الإسلاميين في تونس، لعل أهمها أنهم أدركوا الحكم في غفلة من الزمن
وانعكس الأداء المحدود في إدارة تجربة الحكم سلبا على حضور حركة النهضة في المعترك الانتخابي سنة 2014، فكشفت الانتخابات في التشريعية (أكتوبر/ تشرين الأول 2014)عن مشهد سياسي جديد تصدر معه حزب نداء تونس الطليعة بفوزه بـ 85 مقعدا من مجموع مقاعد مجلس نواب الشعب (217)، تليه حركة النهضة، التي تراجعت على نحو واضح، متحصلة على27%من أصوات الناخبين، وتقلص عدد ممثليها في البرلمان، من 89 نائبا في المجلس التأسيسي (23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011) إلى 69 نائبا في مجلس النواب الشعب (26 أكتوبر/ تشرين الأول 2014)، وتقدم عليها نداء تونس بـ 16 مقعدا.
وأسهمت عدة معطيات في تراجع الإسلاميين في تونس[7]، لعل أهمها أنهم أدركوا الحكم في غفلة من الزمن؛ فبعد سنوات القمع، وجدوا أنفسهم فجأة في سدة الحكم سنة 2011، بعد أن منحهم الشعب ثقته، فتحمّلوا مسؤولية إدارة الدولة لأول مرة في تاريخ تونس، ولم تكن لهم سابقة في هذا الشأن، فأثر نقص الخبرة على أدائهم الحكومي، في فترة انتقالية حرجة، تميزت بتزايد الاحتجاجات المطلبية، والأعمال الإرهابية، والضغوط النقابية، والتحديات الاقتصادية؛ فحكمت الترويكا بقيادة حركة النهضة البلاد، في فترة حمادي الجبالي خاصة بأيد مرتعشة، وذلك لغياب استراتيجية واضحة في مستوى إدارة الشأن العام، وفي مستوى الاستجابة لانتظارات الناخبين، وجموع المواطنين. ولم يشفع لحركة النهضة رصيدها النضالي في هذا الإطار، فقد انتخبها الناس لتحقيق مطالب الثورة "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وما من شك أنها ضمنت الحريات، ولم تتدخل في السلوك الفردي للمواطنين، ولم تعطل النشاط الحزبي لمنافسيها، وقبلت بالدخول في تجربة الحوار الوطني، وساعدت التونسيين في بلورة أول دستور عربي، ديمقراطي، توافقي، يضمن حرية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، والحق في التعبير، والتفكير، والاختلاف، والتنظم. وقدمت نموذجا في التنازل السلمي عن السلطة، لكن ذلك لا يمنع من أنها لم توفق في إيجاد حلول إجرائية للحد من ارتفاع الأسعار، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن، وانتشار التجارة الموازية، وتزايد عدد العاطلين عن العمل. يضاف إلى ذلك، أن حركة النهضة فشلت في سياسة مد اليد إلى السلفيين الذين انفضوا من حولها بعد رفضها التنصيص على الشريعة في الدستور الجديد، وانصرف بعضهم إلى المشاركة في أعمال عنف، واستعراض قوة هزت السلم الاجتماعي، وهددت بنسف المسار الانتقالي، خاصة بعد اغتيال المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وفي مستوى آخر، فإن حركة النهضة لم تستجب إلى آمال الشباب الثائر في إنصاف المظلومين ومحاكمة المستبدين وأعوانهم، وتفعيل العدالة الانتقالية، بل بدت ميالة إلى تقديم المصالحة على المحاسبة، ورفضت مقترح النص على السن القصوى للمتقدم إلى منصب الرئاسة، وغلب على اتخاذ تلك القرارات الطابع "المشيخي"، لا المؤسساتي، ولم تستشر الحركة قواعدها في ذلك الخصوص، وغلب عليها الخوف من أن تتمّ إزاحتها عن السلطة كما حصل لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، فانخرطت في التنازلات، والبحث عن التوافق بأي ثمن، وأدى ذلك إلى نتيجتين، الأولى إحساس معظم الشباب الثائر بالإحباط، وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات، أو انضمامه إلى عدد من الأحزاب الصغيرة الحاملة لواء الوفاء للثورة مثل حزب البناء، وحركة وفاء، والتيار الديمقراطي... وهو ما أسهم في التفريغ الذاتي لحركة النهضة، وتقلص مؤيديها. والنتيجة الثانية، تمثلت في عودة رموز العهد القديم، الذين استجمعوا قواهم، وانخرطوا في أحزاب دستورية مختلفة، واتفقوا مع اليسار على اعتماد آلية التصويت المفيد للإطاحة بحركة النهضة، فصوتوا بشكل جماعي لصالح نداء تونس، فحاز أكبر نسبة من المقاعد. بالمقابل، دخلت النهضة الاستحقاق الانتخابي وحيدة، وقد غلبت عليها البيروقراطية الإدارية، وهاجس الاعتداد بالذات، وابتعد عنها عدد مهمّ من الشباب، والسلفيين، والثوريين، واعتمدت، خلال الحملة الانتخابية، آلية التحشيد والاستعراض الجماهيري، فزادت من خوف خصومها الذين استعدوا لها خشية أن تهيمن على المشهد السياسي في البلاد. واعتمد ناخبون آخرون آلية التصويت العقابي ضدّ الترويكا عموما، والنهضة خصوصا بدعوى أنّها لم تحقق جُلّ ما وعدت به في برنامجها الانتخابي (سنة 2011).
كانت هذه المعطيات مجتمعة فعالة في تأمين تراجع حركة النهضة في الاستحقاق الانتخابي (2014)، كما أن انحياز الطرف النقابي في أكثر من مناسبة إلى الاحتجاجات الشعبية المطلبية، وإعلانه إضرابا عاما ثلاث مرات خلال فترة حكم الترويكا (2013-2011)، فضلا عن آلاف الاعتصامات والاحتجاجات، إلى جانب دخول الناس الانتخابات التشريعية (2014) تحت وطأة الخوف من الإرهاب، واعتقاد بعضهم أن النهضة مسؤولة عنه، كل ذلك أدى إلى هروب الناس نحو نداء تونس طمعا في شيء من الأمان، والرفاه، والاستقرار.
واكتفت حركة النهضة بعد تراجعها في الاستحقاق الانتخابي سنة 2014 بمشاركة محدودة في مؤسّسات الحكم، فلم تتقلّد مناصب قيادية في الدولة من قبيل رئاسة الدولة أو الحكومة أو مجلس النوّاب، بل حافظت على حضور نسبي في الحكومة الائتلافية بقيادة التكنوقراطي الحبيب الصيد (2015 - 2016)، وفي حكومة الوحدة الوطنية التي يقودها حاليا رئيس الوزراء يوسف الشاهد (2016 - 2017) المنتمي إلى حزب نداء تونس، ولم تتجاوز تمثيليتها حدود بعض الوزارات المعدودة. لكن ذلك، لا يمنع من أنّها تتمتع بحضور ناعم داخل المشهد السياسي التونسي، وهي مشارك مهمّ في إدارة تجربة الحكم التوافقي في البلاد، وتتميّز بنشاط حزبي مكثّف ومنظم، يبقى، على أهمّيته، في حاجة إلى مزيد التطوير والتكييف، ليستجيب لمقتضيات الدمقرطة، خاصّة ما اتّصل بضرورة فصل الحركة بين الدعوي والسياسي، وضرورة اعتمادها مراجعة نقدية شاملة لمنجزها الفكري والسياسي.
- اقتباس :
جُلُّ الأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة لا ترى حرجا في دمج الدّيني بالسّياسي والمزاوجة بين العمل الدّعوي والعمل التعبوي لأغراض انتخابيّة
3- حركة النهضة …جدل الدّعوي والسّياسي:
يُفترَض في الحزب السّياسي في المجتمعات الدّيمقراطيّة الحديثة أن يكون فاعلا في المجتمع المدني، ومؤسّسا على جملة من المبادئ التي توجّه فهمه للواقع، وترسم كيفيّات تمثّله المستقبل، ويمارس الحزب السّياسي نشاطه في كنف العلنيّة والشفافيّة، وينافس خصومه على استقطاب الأتباع وعلى الوصول إلى سدّة الحكم، وذلك وفق برنامج يختاره، ويُجلي فيه مناهج معالجته قضايا الشأن العامّ في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ولا يُفترض في الحزب احتكار الوصاية على الدّين أو ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، أو التفرّد بالرّصيد القيمي المشترك للمجموعة الوطنيّة.
والواقع أنّ جُلُّ الأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة في العالم العربي لا ترى حرجا في دمج الدّيني بالسّياسي والمزاوجة بين العمل الدّعوي والعمل التعبوي لأغراض انتخابيّة، فتتمّ دغدغة الشّعور الإيماني لدى النّاس، واستتباعهم على خلفيّة أنّ الحزب سينهل أحكامه من النصّ الدّيني، وسيكون الضّامن لحماية المقدّسات، والمدافع عن الكيانات والمؤسّسات الدّينيّة، ومعلوم أنّ هذا التوجّه في تلبيس الدّين بالسّياسة يؤدّي إلى احتكار طرف مّا للمشترك الجمعي والنّطق باسمه، وهو ما يؤثّر على مسارات التّنافس في العمليّة الانتخابيّة وعلى السّلوك الانتخابي للمواطن.
- اقتباس :
أدركت حركة النهضة أنّ النّاس لم يثوروا من أجل إقامة دولة دينية، بل احتجاجا على الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد
والناظر في أدبيات حركة النهضة وسلوكها السياسي، قبل الثورة وبعدها، يتبيّن أنّها طوّرت نسبيّا تصوّرها لمسألة العلاقة بين الديني والسياسي؛ ففي مرحلة الدولة الشمولية على عهد الحبيب بورقيبة وخلفه بن علي تمسّكت الجماعة بطابعها الدعوي، خاصّة في مرحلة النشأة وبدايات التأسيس، وأكّدت في بياناتها أن من أبرز مهامّها "بعث الشخصيّة الإسلاميّة لتونس(...) ومواجهة آثار التغريب"[8]، وهو خطاب تبنّى تأكيد "الاتجاه الإسلامي" للحركة حتّى تسمّت باسمه في فترة ما. وكان المراد وقتها مواجهة سياسات العلمنة، التي حاول النظام الحاكم التسويق لها، فظهرت الحركة في موقع من يريد تجذير البلاد في محيطها العربي الإسلامي والدفاع عن هويتها العربية. ورغم إدراكها أهمّية الإعلاء من قيمة الشأن السياسي في نشاطها استجابة لتطلعات الناس إلى الحرّية، والكرامة، والتعدّدية، وتغييرها اسمها من حركة "الاتجاه الإسلامي" إلى حركة النهضة سنة 1989، فإنّها قد استمرّت لعقود في الدمج بين الدعوة للدين وممارسة السياسة، وهو ما مكّنها من استقطاب عدد كبير من الأنصار والمتعاطفين الذين ضاقوا من تهميش السلطة للشأن الديني ومن حرصها على هرسلة المتديّنين، وتضييقها على الحرّيات العامّة والخاصّة. - اقتباس :
يُعدّ مطلب المراجعة النقدية رافدا مهمّا من روافد التّجديد، ويعتبر من بين التحديات الأساسية التي تواجه حركة النهضة
والظاهر بعد الثورة أنّ حركة النهضة أدركت أنّ النّاس لم يثوروا من أجل إقامة دولة دينية، بل ثاروا احتجاجا على الاستبداد وهيمنة الحزب الواحد، والمحسوبية، والظلم، والتوزيع غير العادل للثروة. وثاروا شوقا إلى إقامة دولة جمهورية، ديمقراطية، عادلة. لذلك، خاضت الحركة معترك الحياة السياسية بعد الثورة، محاولة التخفّف من إكراهات الجمع بين الدين والسياسة، فلم تضمّن برنامجها الانتخابي حديثا عن إقامة الدولة الإسلامية الموعودة، ورفضت التنصيص على الشريعة في الدستور، وأقرّت حرية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، ودعت إلى تحييد المساجد وإبعادها عن التجاذبات السياسية. واتّجهت الحركة في مؤتمرها العاشر 20-22 مايو (أيار) 2016 إلى التخلّي عن العمل الدعوي، والتفرّغ لممارسة الشأن السياسي. وفي هذا السياق، قال رئيس الحركة راشد الغنّوشي: "نحن بصدد التحول إلى حزب سياسي، يتفرغ للعمل السياسي، ويتخصص في الإصلاح انطلاقا من الدولة، ويترك بقية المجالات للمجتمع المدني، ليعالجها ويتعامل معها من خلال جمعياته ومنظومة الجمعيات المستقلة عن الأحزاب، بما في ذلك النهضة"[9]. وفي هذا التوجّه نقلة مهمّة في مستوى نقد الذّات، والوعي بأنّ المرحلة السابقة من سيرة الحركة شابها خلط بين ما هو من اختصاصها وما هو خارج اختصاصها (النشاط الدعوي والجمعياتي). وتكمن أهمّية هذا التحوّل في أنّه يرفع اللّبس المتعلّق بهوية حركة النهضة، ذلك أنّه دالّ على اختيارها التموقع داخل المشهد السياسي والمساهمة بصفتها الحزبية وبمقترحاتها البرامجية، لا بصفتها الدينية أو أعمالها الدعوية. ويفترض أن تلتزم الحركة هذا الخيار، حتّى تستجيب لمنطوق الدستور التونسي الذي يحضر تكوين الأحزاب على أساس ديني، ويمنع الجمع بين العمل السياسي والجمعياتي. وبلزومها ذلك، تؤسّس لخطوة جديدة على درب التطبيع مع الدولة المدنية، والمساهمة في تقديم مقترحات وبدائل لإدارتها وتوجيه سياساتها دون ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، أو النطق باسم الإسلام. والنهضة بفصلها الدعوي عن السياسي تفارق إلى حدّ ما نماذج الحركات الإسلامية التقليدية القائمة على تلبيس الديني بكلّ مناحي الحياة (الإخوان المسلمون، الحركات السلفية...)، وهي، إذ تتجدّد ذاتيّا، تستجيب موضوعيّا لدينامية المجتمع التونسي، وحركية القوى المدنية، والتحديثية فيه. 4- حركة النهضة وضرورة النقد الذاتي:
يُعدّ مطلب المراجعة النقدية رافدا مهمّا من روافد التّجديد، ويعتبر من بين التحديات الأساسية التي تواجه حركة النهضة، ويفترض أن يتمّ تفعيل هذا الخيار على نحو إجرائيّ حتّى يواكب الحزب مستجدّات الظّرف العمراني التونسي بعد الثورة، فضرورات العمل السياسي السرّي زمن الديكتاتورية، تختلف عن مقتضيات العمل في إطار الشرعيّة، وفي زمن الديمقراطية التونسية الوليدة. فمعلوم أنّ ما عاشته الحركة من إقصاء ومحاكمات خلال عقود سابقة على عهد حكم الحبيب بورقيبة أو خلفه بن علي، ساهم في صياغة الحركة تمثّلات أيديولوجيّة وخيارات تنظيميّة كانت نتاج تلك المرحلة، وتحتاج حاليّا إلى مزيد التّشذيب والتّطوير والمراجعة النقديّة، وذلك حتّى تنخرط في مسار التّحديث الذاتي، وتتفاعل إيجابيّا مع مكوّنات المجتمع المدني الذي أنتجته الثورة، والذي يتطلّع إلى قيام دولة جمهوريّة تقدّمية، تقطع مع أسباب الدّولة الشمولية، ومع الفكر الواحد وأدعياء امتلاك الحقيقة المطلقة. والواقع أنّ حركة النّهضة، مع أهمّية الرّصيد النظري الذي قدّمه عدد من قادتها في سياق تجديد الفكر السّياسي الإسلامي المعاصر من قبيل ما وضعه راشد الغنوشي، وعبد المجيد النجار، وصالح كركر، وأحمد الأبيض ورفيق عبد السّلام، فإنّ نصيب النّقد الذاتي في الأعمال التي وضعها هؤلاء وغيرهم محدود، فرغم سبق الحركة في الدّعوة إلى المزاوجة بين الإسلام وبين مكتسبات الحداثة، وتشريعها لقيام دولة مدنيّة ذات مرجعيّة إسلاميّة، وإقرارها بالتّداول السلمي على السّلطة، وحقوق المواطنة، ومفارقتها النماذج السلفية التّقليدية في إدارة شؤون الحكم والمجتمع، وتسليمها بحرّية الضمير وثقافة الاختلاف، ومساهمتها في صوغ دستور تقدّمي توافقي، فإنّها لم تقم بمراجعات نقديّة عميقة لمنجَزها النظري، ولم تبلور بعد قراءة نقدية ذاتية معمّقة لأدائها في مؤسسة الحكم بعد الثورة. كما لم تتخلّ عن بعض المبادئ التوجيهيّة التي تضمّنتها أدبيّاتها مطلع الثمانينيات؛ فقارئ وثيقة "الرّؤية الفكريّة والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسيّة"[10]، يتبيّن أنّها استبقت على محتوى التصوّر الفكري والعقدي والأصولي الذي أعلنه مؤتمر 1986 لحركة الاتّجاه الإسلامي (حركة النّهضة حاليّا)، بل تمّ اعتبار هذا البيان "وثيقة رسميّة من جملة الوثائق التي تحدّد هويّة الحركة"[11]. وتحتاج هذه الوثيقة إلى عدّة مراجعات، في مستوى لغتها، ومنهجها، ومضمونها حتّى تواكب مستجدّات الاجتماع التونسي اليوم. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ حركة النهضة أعلنت خلال مؤتمرها العاشر الخروج عن تيار الإسلام السياسي والانخراط في ما تسمّيه بـ "الديمقراطية المسلمة"[12]، معلنة فكّ الارتباط بجماعة المسلمين، مؤكّدة أنّها "حزب وطني ديمقراطي ذو مرجعية إسلامية"[13]، وتكمن أهمّية هذا التحول النظري على الأقل في أنّه يُخبر بتراجع الحركة عن مسلماتها الأيديولوجية القديمة، وانخراطها في مشروع الدمقرطة الداخلية والتطبيع مع الدولة المدنية[14]. لكن الإشكال ماثل في أنّ هذا التحوّل يبقى ضبابيا من جهة غموض مصطلحاته، وعدم وضوح المرجعيات المفاهيمية الموجّهة له. فما المراد بـ "الديمقراطية المسلمة" على جهة التفصيل؟ وما هي مواصفات "المسلم الديمقراطي" الذي تروّج له حركة النهضة؟ وما الحدود الفاصلة والخيوط الواصلة بين الإسلام والديمقراطية؟ وعلى أي أساس يجري الدمج بينهما؟ وما هي خلفيات ذلك وغاياته؟ وهل المراد دمقرطة الإسلام أم المسلمين؟ وهل الفصل بين الدعوي والسياسي والاحتكام إلى الديمقراطية سيزيد من شعبية الحركة أم سيؤدّي إلى تسرّب بعض أعضائها؟ الإجابات الممكنة عن هذه الأسئلة، ومدى وعي حركة النهضة بضرورة المراجعة النقدية، وبأهمّية التأصيل المفهومي لما تشهده من صيرورة وتحوّلات، ستحدّد مستقبلا موقعها من الاجتماع السياسي التونسي، ومدى قدرتها على قدرتها على المساهمة في بناء معالم الجمهورية الثانية في تونس.