2011-12-11 قراءة لفكر كارل بوبر الفلسفي السياسي
|
| |
يعد(كارل
رايموند بوبر Karl R Popper) فيلسوف العلم المعاصر الذي أثارت فلسفته موجة
عارمة من التأييد وموجة أخرى عاتية من التفنيد، شأنها في ذلك شأن المذاهب
الفلسفية الكبرى. حيث ثار بوبر على العرف السائد خصوصا فيما يتعلق بنظرية
المعرفة ، حيث ركز على فحص المعرفة بنقدها أكثر من البحث عن مصدرها(1)
<< لم يسلم الرجل طوال حياته من سهام النقدية[...] وهي انتقادات
تعكس لنا تأثيره الفكري الهائل >>(2) فبوبر يعد أحد المعاصرين
القلائل الذين تتميز بحوثهم بالسمة شبه الموسوعية.لا نجد ميدان من ميادين
النشاط العقلي لم يسهم فيه، له بحوث في العلم لاسيما الفيزياء ونظرية
الكوانتم ونظريات في فلسفة ومناهج البحث. ويعتبر من المجددين في المنطق و
نظرية المعرفة، مع الإشارة إلى أهم إسهام قدمه بوبر في مجال السياسي، حيث
قيل أن كتابه "المجتمع المنفتح وأعدائه" من أهم منجزات القرن العشرين في
مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية.
و يبدو أن هذا ما سمح لفلسفة بوبر أن تصبح واسعة الانتشار في الأوسط
العلمية و يصبح لها دور فعال حتى في الحياة العملية، << فإحدى
مميزات فكر بوبر تخطي أفكاره الحدود الأكاديمية، تلك الأفكار أثرت في كثير
من العلماء[...]من بينهم نجد برسي بريجمان(1882–1961) Percy Bridgman
،ألفراد لند ، Alfred lande (1888 – 1975)، دنيس غابور(1900 – 1976)
Dennis Gabor ، جاك مونو jaques Monod (1910-1976) >> (3) لكن الذي
يثير الانتباه؛ أن أغلب المعجبين بفلسفة بوبر لم يكونوا علماء الاجتماع
وفلاسفة، بل كانوا علماء بارزين في العلوم الطبيعية والفيزياء، و الذي
أسهم في جلب إعجاب و التقدير؛ هو حرصه لعدم استخدامه المفاهيم المعقدة.
لقد قام بوبر بإعداد ردود على منتقديه، و من ألصقوا به تهما، حيث رأى أنهم وقعوا ضحية سوء فهم أفكاره.
1- ينكر بعض العلماء أن يكون هناك تجانس في أفكار بوبر بحجة ربطه نظرية المعرفة بوجهة نظر داروين التطورية
2- كان يعتقد بعض من العلماء و المفكرين؛ أن بوبر ينتمي إلى الوضعية
المنطقية حيث لا تزال هذه النظرة تهيمن على الساحة الفكرية و نذكر بالخصوص
جماعة فرانكفورت، فهابرماس الذي لا يزال ينظر إلى بوبر على أنه عضو من
جماعة فيينا .
ويرى بعض النقاد أنه إذا كان بوبرقد قام بنقل بعض عناصر الفلسفات السابقة
و إعادة طرحها بصيغة مختلفة نوعا ما ، فإن التكذيب الذي بنا عليه تصوراته
خصوصا في تفنيد النظريات قد سبقه إليه "بيكون" مع الإشارة كذلك أنه استعان
بنظرية داروين التطورية لتفسير تطور و نمو المعرفة الإنسانية،
<<إلاّ أننا نعترف أن مزج هذه الآراء والأفكار المتناثرة و صياغتها
في فلسفة واحدة يدل على براعة و عبقرية من جانب "بوبر">>(4)
كما أن إنكار بوبر لدور الاستقراء ، سبقه إلى ذلك كثيرون و على رأس هؤلاء
كانط ، الذي أدرك استحالة أن تكون النظرية العلمية نتيجة استقرائية. حيث
عبر كانط عن هذا بقوله << عقولنا لا تأخذ القوانين من الطبيعة و لكن
تفرضها على الطبيعة>>.(5)
هذا ، و مما يعاب على بوبر أنه خصص فصلاً طويلاً عن هيجل؛ الذي يعد أقذع
الفصول جميع في تاريخ التراث الجدلي، حيث ترى فيه << قدح لم نعتد
رؤيته في الجدال الفلسفي>>.(6)
حتى بدا لبعض المفكرين؛ أنه صراع شخصي بين بوبر و هيجل بدلاً من تسليط
الضوء والكشف عن الحجة الدامغة التي بها نستطيع تجاوز المسائل الشخصية
الذاتية و نرقى بذلك إلى الكشف عن خبايا فكر هيغل. <<غير أن بوبر لم
يكن مقصده من هذا الفصل أن يفهم هيغل بل أن يدمره>>(7)
زد على ذلك أنه ألصقت ببوبر تهما، تعود في الأساس إلى سوء فهم أفكاره، حيث
يرى البعض من الفلاسفة أمثال هابرماس أنها تقع ضمن تيار الوضعية المنطقية،
كما قدمها لأول مرة فيكتور كرافت في عرضه لكتاب منطق الكشف العلمي، بل قد
تبنى هذا التأويل ـ كما سبق و أن اشرناـ باحثون آخرون، ولا يزال هؤلاء
يتمسكون به كجماعة فرانكفورت، مثلا؛ و بالخصوص الجيل الجديد و هابرماس
الذي لا يزال يحتفظ بهذا التأويل لفلسفة بوبر(8)<أيضا إلى أن نقد هابرماس للوضعانية يخلط بين الوضعانية المنطقية والفلسفة
التحليلية والعقلانية النقدية لكارل بوبر، فهو يجمع هذه الاتجاهات في سلة
واحدة، مهملا الفروق بينهما و التحولات التي عرفها كل اتجاه خصوصا تجديدات
بوبر>>(9)
يشير بوبر؛ أن من بين الأسباب التي جعلته يختار الخوض في المجال الاجتماعي
والسياسي، هي الإتهام الذي وجها له على أنه ينتمي إلى حلقة فيينا من قبل
العديد من الفلاسفة والاجتماعيين الألمان، كأدورنو و هابر ماس و يعود سبب
ذلك الإدعاء إلى نشر بوبر لكتابه منطق الكشف العلمي في سلسلة منشورات حلقة
فيينا.
يبدو كذلك أن مقاربة بوبر بين الإبستمولوجيا و السياسة هي المسؤولة عن خلق
نوع من العداء لأفكار بوبر من قبل عديد من الفلاسفة و الباحثين؛ خصوصا
أولائك الذين لهم توجه هيجلي (10) وماركسي وهنا إشارة مباشرة إلى مدرسة
فرانكفورت التي رفضت تلك المقاربة البوبرية التي تجمع بين الإبستمولوجيا
والسياسة، حيث نجد أن انتقاد بوبر للمبشرين بالمجتمع المنغلق – أفلاطون،
هيغل وماركس- قوبل بالرفض والتحفظ من كل الجهات، و أن عدم تقبل أفكار بوبر
الاجتماعية والسياسية يعود حسبه لأسباب إيديولوجية وليست منهجية، لأن
أفكار كل من أفلاطون، هيغل وماركس أصبحت بالنسبة إليهم عقيدة يصعب لهؤلاء
تجاوزها. << كان أدرنو هيجلياً بالمثل ماركسياً، و أنا معارض لكلا
الاتجاهين للماركسية وبوجه أخص للهيجلية >>. (11)
يجدر القول أن جماعة فرانكفورت أساءوا فهم بوبر وحاولوا إنقاص من قيمته
برفضه كفيلسوف اجتماعي و سياسي. و السبب يعود إلى نزعه صفة العلمية عن
الهيغلية والماركسية ، لأن أفكارهم تشكل الخلفية القاعدية لتلك الجماعة.
فرغم تأكيد بوبر وتصريحه في العديد من المناسبات بأنه لا ينتمي و لم يكن
قط عضو في حلقة فيينا ، إلا أن البعض لا يزال ينتقد بوبر على أنه وضعي.حيث
يقول: << لقد تعرضت للنقد بوصفي وضعياً>>.(12)
لكن يبقى الخلاف الأساسي بين بوبر و مدرسة فرانكفورت خلاف منهجي الثورة
مقابل الإصلاح الجزئي(13) فبوبر يستخدم العقلانية النقدية و سياسة خطوة
خطوة، ليتفادى العنف والتغير الراديكالي حيث يشير قائلا: << إذا
تأسس منهج العقلانية النقدية، فسوف يبطل استعمال العنف، وحتى الآن لم
يكتشف بديلاً للعنف إلاّ الحجة النقدية >>.(14)
كان التأثير الذي مارسته أفكار بوبر حول المنهج العلمي والسياسة مزدوجا،
من حيث أنه أسهم من جهة ؛ في إعطاء دفع جديد للابستمولوجيا بما تضمنته
أفكاره من جدة وإبداع، بل أصبح يؤرخ لفلسفة العلم انطلاقا من التفنيدية
والتي انبثقت منها اتجاهات متعارضة ومتباينة. << فقد أعطانا سير
كارل بوبر مذهبا وليس منطقا، وقد أعطانا نظريات للتجريب المعملي وليس
قواعد منهجية >>15.
كم عان بوبر من التهم الملصقة بفلسفته خاصة من جماعة فرانكفورت الذين كما
سبق و أن أشرنا؛ تعاملوا مع فكر بوبر كما لو أنه امتداد لفكر حلقة فيينا،
إلا انه يتضح أن الوضعانين لا يميلون لمعالجة المسائل السياسية
والاجتماعية، لذلك ليس من الجائز وضع تلك المقاربة المزيفة بين بوبر و
الوضعانية.
هذا، و لقد اكترث بوبر بالمعرفة الإنسانية عموما، كما يعتبر أن الإشكالية
المحورية في الإبستمولوجيا؛ هي نمو المعرفة العلمية، هذه الأخيرة التي
تمثل النمط الذي نلتزم فيه بالموقف العقلاني النقدي، وكذلك بين أن أهم
طابع للمعرفة هو موضوعيتها.
لقد كان الشغل الشاغل لبوبر منذ بواكير أعماله، صياغة نظرية للمعرفة
الإنسانية ناتجة عن نشاطاتنا العقلية الواعية ومبتعدة بقدر الإمكان عن
دوافعنا الاعتقادية المتسمة بالذاتية. (16)
اشتهر كارل بوبر في العالم العربي كفيلسوف في العلم وتاريخه، وربما تبنى
أفكاره المثقفون العرب الليبراليون في سياق الرد والتصدي على الدعاوى
الإيديولوجية للمثقفين الماركسيين، وهو ما يفسر الترجمة العربية المبكرة
لكتابه "عقم المذهب التاريخي" في عام 1959، ثم أعيد نشره تحت عنوان" بؤس
الايدولوجيا: نقد مبدأ الأنماط في التطوّر التاريخي" والذي يبدو واضحا
اليوم؛ هو ابتعاد وتهميش المفكرين العرب في تقديم ودراسة و نقد أفكار بوبر
الذي بقي مجهولا و خفيا لدى القارئ و المثقف العربي.
لكن رغم كل ذلك لا يمكن إهمال بالنسيان؛ بعض المبادرات التي أدخلت بوبر
للمكتبة العربية وعلى سبيل الذكر نجد عبد الحميد صبره و ترجمته لكتاب " "
بؤس الإيديولوجيا " الذي لم يحضا بالاهتمام الكافي نظرا للأوضاع التي كانت
تهيمن على الفكر العربي، فالمثقف العربي كان يعيش- في الخمسينيات – تحت
مشاعر القومية والاشتراكية التي كانت تدعو إلى أنظمة شمولية تمجد الأفكار
اليوتوبية- شعارات التي كانت تنادي بها الماركسية لذلك لم يجد الكتاب صدى
واسع عند صدوره حيث أن أفكاره لا تتماشى مع متطلبات تلك الحقبة .
وكما نجد كتاب (المجتمع المنفتح و أعدائه) الذي لم يترجم منه إلا الجزء
الأول للغة العربية رغم ذلك، لم يلق رواجا وترحيبا لدى المثقف العربي عند
صدوره، لأنه كان يدعو للحرية و الديمقراطية و التفتح، مع رفضه للأفكار
اليوتوبية، لكن لماذا لم يترجم الجزء الثاني من الكتاب ؟
يبدو كما سبق و أن أشرنا أن المثقف العربي كان في تلك الفترة حبيس الأفكار
القومية الاشتراكية، جعله ذلك يرفض حتى الخوض في فحص مصداقية تلك الأفكار
التي أصبحت شبيهة بالمقدس الذي لا يناقش و لا ينقد و نجد أن الجزء الثاني
من كتاب المجتمع المفتوح و أعدائه ، يتناول بالأخص أهم منظري المجتمع
المنغلق "هيغل " و"ماركس " و بوبر كما سبق و أن أشرنا ؛ سعى لهدم الأسطورة
الماركسية .
على غرار كتاب"منطق الكشف العلمي " الذي ترجمه وقدمه ماهر عبد القادر حيث لقي رواجا كبيرا.
لقد أحدث هذا الكتاب صدى هائلا، تجاوز حدود مدينة فيينا؛ حيث يقول فيه
بوبر << لقد كان كتابي "منطق الكشف العلمي " نجاحاً مدهشاً، تجاوز
حدود فيينا، فلقد كان موضوع تقارير دقيقة في عدد هام جداً من لغات
العالم[...]. (17)
حيث بدأت شهرة بوبر تتخطى بذلك جل الحدود الجغرافية والأكاديمية، ونجاح
بوبر يعود في الأساس إلى فلسفته التي تدعو بالوعي بالمشكلات و العمل على
حلها.
و يعتبر الباحث التونسي فتحي التريكي واحد من أبرز مفكري العالم العربي
المعاصرين الذي أدخل العقلانية النقدية ووظفها في دعوته إلى فلسفة منفتحة؛
ترفض الجمود و الانغلاق ، حيث يصف فلسفة بوبر في قوله: << إنها
الحرية حرية التفكير، حرية الكلمة، حرية الحياة و الموت[...] فالفلسفة
المفتوحة تحرر العقل، و تقوده نحو فضاء التغير المحدودة من الفكر والخيال
>>.(18) و يبدو من الضروري على الفكر العربي المعاصر أن يتبنى
الجانب الثاني لفكر بوبر؛ عوض التركيز على الإبستيمولوجيا البوبرية فقط ،
لأن الدعوة للانفتاح هي دعوة لرفض التعصب و العنف هو دعوة لتفادي الآلام و
البؤس بل هي كذلك نداء سلام في مجتمع ديمقراطي منفتح.
فإننا لأول مرة في تاريخ السياسة الحديثة؛ صرنا نرى أمما عريقة كالصين
تأخذ منهج احد الفلاسفة في تصحيح مسارها الاقتصادي والسياسي، فتكشف ذاتها
الحقيقية وصرنا نرى أمما مثل دول أوربا الشرقية تدرس فكر بوبر السياسي في
معاهدها وتشرع في تطبيقه في بدايات بروزها وصرنا نرى أمما كاليـابان تؤسس
رابطة بوبرية لنشر فكره و تطويره من خلال نشرات و دوريات و بـرامج
تعليمية.(19)
و أخيرا، يمكن الحصر أن لفلسفة بوبر أتباعا و خصوما، و أنها لقيت انتشار
في معظم أرجاء المعمورة بدرجات مختلفة من التأثير والرفض كسائر المذهب
والنظريات الفلسفية وللإشارة نجد أن أعماله قد ترجمة إلى 35 لغة بما فيها
العربية والعبرية.
الأستاذ : محمد أمين بكيري، قسم العلوم الاجتماعية بالمركز الجامعي خميس مليانة