11-12 قراءة في كتاب بؤس الايديولوجيا – كارل بوبر
|
| |
كارل بوبر يعتبر من أبرز المفكرين المعنيين بقضية “فلسفة العلم” وقدم إضافات محترمة له، وهو في هذا الكتاب يدق طبول الحرب ليشن هجوما كاسحا ضد علماء العلوم الإنسانية ولا يستثني من مدنهم سوى علم النفس و الاقتصاد فقد أعطاهم الأمان في بداية كتابه, الطريق الذي يسلكه كارل بوبر في هجومه هو تقرير أن معظم العلماء الإنسانيين _ما قبل نظرية الفوضى على الأقل_ يؤمنون بأن هنالك قوانين و اتجاهات وأنماط يسير عليها التطور التاريخي وأنه بالإمكان الكشف عن هذه الأنماط _وفيما بعد وُلِدَت فلسفةٌ تقول أنه لا يمكن التنبؤ بالتاريخ وأحد أبرز رواد هذه الفلسفة نسيم طالب صاحب كتاب البجعة السوداء_ كارل بوبر يقول أن علماء العلوم الإنسانية رغم أنهم دشنوا علومهم قبل العلوم التطبيقية الطبيعية لم يستطيعوا حتى الآن أن أن يصلوا إلى معادلات تخبرنا عن التطور التاريخي .و أن النقطة “ب” سيصل إليها المجتمع في حالة كذا وكذا بعكس العلوم الطبيعية التي قدمت نتائج مذهلة في توقع مسارات النجوم وتأثيراا الكواكب وأماكن سقوط القذائف ونحوها, كارل بوبر بعد أن يعرض بؤس الفلاسفة التاريخانيين من وجهة نظره يؤكد نظريته الأساسية وهي أن العلم يجب أن يستخدم أكثر في مناطق النفي وأنه لا يكون علما بلا اختبار وتجريب فأنت ربما تنظر وتحلل لمدة سنوات أن كل البجع أبيض عن طريق الاستقراء لكن يكفي أن ترى بجعة سوداء واحدة لتثبت فشل هذه النظرية. فهو كما هو واضح ينزع إلى أن يُعرَّض النظريات إلى أقسى أنواع التحديات فإن صمدت كان نظرية علمية , وبشكل عام الكتاب ممتاز ويحفزك على التفكير والتساؤل لماذا لم تتقدم العلوم الانسانية كما تقدمت العلوم الطبيعية ؟! وفي كل جواب قد تقدمه سيرد عليك كارل بوبر مبينا أن العلوم الطبيعية واجهت تلك الصعوبات بعينها ما عدا أنها استنتجت لها منهجا يجعلها ناجحة. ينطلق كارل بوبر من فكرة مفادها أن هنالك مذهبٌ كثيرا ما نصادفه في المناقشات المتصلة بالعلوم الاجتماعية وهذا المذهب كثيرا ما يـُستخدم من غير نظر نقدي بل قد يسلم به تسليما , وهو يقصد في الإجمال طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية كما تفترض أن إمكان الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط التي يسير التطور التاريخي وفقا لها , وكارل بوبر يسمي هذا المذهب بالمذهب “التاريخاني ” , يبدأ كارل بوبر كتابه بالقول أن العلوم الاجتماعية والاهتمام بها ليس أحدث من العلوم الطبيعية وفي العصور القديمة كان يمكن أن تبدو فيها العلوم الاجتماعية متقدمة على العلوم الطبيعية , ولكن بمجيء جاليلو ونيوتن أحرزت العلوم الطبيعية من النجاح ما لم يكن مرتقبا لها وتفوقت على غيرها من العلوم , ولكن العلوم الاجتماعية لا يبدو أنها وجدت من يحقق لها ما حققه جاليلو ونيوتن للعلوم الطبيعية , وفي هذه الأحوال يتجه الباحثون في علم من العلوم الاجتماعية إلى الاشتغال بالمسائل المنهجية والكثير من مناقشاتهم حول هذه المسائل يُطرح وقد اتجهوا بأبصارهم إلى مناهج العلوم المزدهرة وبخاصة العلوم الطبيعية , فمثلا كانت المحاولات الهادفة إلى تقليد المنهاج التجرييبية المتبعة في العلوم الطبيعية هي التي أدت إلى إصلاح علم النفس في عهد فونت , ولكن كما يرى بوبر أن نتيجة هذه الإصلاحات في العلوم الاجتماعية عدا علم الاقتصاد وعلم النفس لم يحالفها التوفيق. وحينما فشلت بدءا العلماء يتساءلون عن إمكان تطبيق المناهج الفيزيقية _مناهج العلوم الطبيعية _ على العلوم الاجتماعية , وكما يقول بوبر نشأ فريقين من ذلك التساؤل، فريقٌ مؤيد لاستخدام مناهج العلوم الطبيعية على العلوم الاجتماعية وفريقٌ رافض لها , ويعتقد بوبر أن كلا الفريقين وما يقدمانه من حجج قائم على فهم خاطئ للعلوم الطبيعية . يعارض المذهب التاريخاني الذي يقول باستحالة تطبيق معايير المنهج الطبيعي في العلوم الاجتماعية: إن المناهج التي تتميز بها العلوم الطبيعية لا يمكن تطبيقها على العلوم الاجتماعية لأن قوانين الطبيعة أو القوانين الفيزيقائية هي قوانين صادقة في كل مكان وأي زمان ذلك أن العلوم الطبيعية تسيطر عليها مجموعة من القوانين التي لا تختلف باختلاف الزمان أو المكان، عكس القوانين الاجتماعية أو قوانين الحياة الاجتماعية فتختلف باختلاف الزمان والمكان ورغم تسليم المذهب التاريخياني كما يقول بوبر بأن كثيرا من الظروف الاجتماعية النموذجية يعود إلى الظهور على نحو منتظم فإن المذهب التاريخاني ينكر أن يكون لانتظام وقوع هذه الحوادث في الحياة الاجتماعية ما لنظيره في العالم الفيزيقي من طابع ثابت , وذلك لأن الحوادث الاجتماعية المنتظمة تعتمد في وقوعها على التاريخ كما أنها تعتمد على الفوارق الحضارية ي أنها تعتمد على موقف تاريخي معين . ومن ثم لا ينبغي للمرء أن يتكلم عن القوانين الاقتصادية مثلا من غير تقييد وإنما يجور له فقط أن يتكلم عن القوانين الاقتصادية في عهد الإقطاع أو القوانين الاقتصادية في مطلع العهد الصناعي وهكذا .ولذلك يقول المذهب التاريخاني أن كثير من التغييرات التي حصلت في العلوم الاجتماعية إنما هي من صنع الإنسان نفسه وهذا لا ينطبق على القوانين الفيزيقية فهي ليست من صنع الإنسان، إذ أنها ثابته وحتى لو تغيرت فإن تغييرها لم يحصل بسبب الإنسان وهذه الحجة كما يقول بوبر تجد لديها قبولا لدى أصحاب النزعة العملية من المذهب التاريخاني الذين يرفضون الأمر الواقع ويسعون إلى التغيير وكما يقول ماركس الذي يعده بوبر “أحد مشاهير التاريخانيين والنزعة العملية ” فهو يقول _أي ماركس_ “لقد وقف الفلاسفة حتى الآن عند تفسير العالم على أنحاء مختلفة , ولكن المهم هو تغييره “ ويحتج التاريخيون أيضا بأن العلوم الطبيعية تستخدم منهج التجربة أي أنها تتوسل إلى عزل الظواهر الطبيعية صناعيا والتحكم فيها حتى تتوصل إلى تحقيق الظروف المتماثلة مرة بعد أخرى وما يترتب على هذه الظروف من نتائج معينة , وواضح أن هذا المنهج يعتمد على الفكرة القائلة بأن الأمور المتماثلة تحدث في الظروف المتماثلة والذي يدعيه صاحب المذهب التاريخاني هو أن هذا المنهج يمتنع تطبيقه في العلوم الاجتماعية وحتى إن أمكن تطبيقه فهو في رأي المنهج التاريخاني عديم النفع لأنه ما دامت الظروف المتماثلة لا تتحقق إلا في حدود الفترة التاريخانية الواحدة فلن يكون لأية تجربة نجربها إلا دلالة محدودة جدا , وأيضا التجربة في العلوم التطبيقية لا تكون إلا بعزل الظواهر الطبيعية صناعيا وإن تم عزل الظواهر الاجتماعية صناعيا كما في العلوم الطبيعية فإن ذلك سيؤدي إلى استبعاد العوامل التي لها الأهمية العظمى في علم الاجتماع , فنحن على سبيل المثال لن نجد في روبنسن كروسو وفي نظامه الاقتصادي الفردي المنعزل نموذجا مفيدا للنظام الاقتصادي الذي لا تنشأ مشكلاته إلا عن التأثير المتبادل بين الأفراد والجماعات. وأيضا يقول المذهب التاريخاني أن تكرار التجربة بحذافيرها بالنسبة للمجتمعات مستحيلة إذ أننا في علم الحياة نتكلم عن تاريخ الكائن العضوي لأن هذا النوع من الكائنات يتكيف إلى حد ما بالحوادث الماضية , وإذا تكررت هذه الحوادث فإنها تفقد ما لها من طابع الجدة _بأن تكون جديدة_ بالنسبة للكائن العضوي الذي جربها , فتتخذ صفة العادة بالنسبه له , ولكن هذا هو السبب في أن تجربة الكائن للحادث المتكرر ليست هي نفس تجربته للحاديث الأصلي أي السبب في أن تجربة التكرار هي تجربة جديدة , وعلى ذلك فتكرار الحوادث المشاهدة يقابله تولد التجارب الجديدة في من يقوم بالمشاهدة ولما كان التكرار تنشأ عنه عادات جديدة فهو على في تكون ظروف جديدة لها صفة العادة ومن ثم فلا يمكن لمجموع الظروف الداخلية والخارجية التي تكررت فيها تجربة تجريها على كائن عضوي معين لا يمكن لهذه الظروف أن تكون من التشابه بحيث يجوز أن نتكلم عن تكرار بالمعنى الصحيح , وذلك لأنه حتى لو تكررت ظروف البيئة بحذافيرها فإن هذا التكرار سيقترن بظروف جديدة في داخل الكائن العضوي : إذ أن الكائن العضوي يتعلم من التجربة , أما في العالم الطبيعي فإنه يستحيل أن يحدث فيه شيء جديد حقا فقد يخترع الإنسان آلة جديدة ولكن من الممكن دائما أن ننظر إليها على أنها ترتيب جديد لعناصر هي أبعد ما تكون عن الجدة _بأن تكون جديدة_ , وعند المذهب التاريخاني أن الجدة في عالم الاجتماع جدة حقيقية بل جدة جوهرية كالجدة البيولوجية أي أنها جدة حقيقية لا يمكن ردها إلى جدة في الترتيب وذلك أنه يستحيل في الحياة الاجتماعية أن تبقى العوامل القديمة في الترتيب الجديد كما كانت عليه من قبل تماما , ويزعم المذهب التاريخاني كما يقول بوبر أنه ما من شيء يفوق في أهميته ظهور الفترات التاريخية الجديدة حقا , وهذا الأمر الفائق الأهمية في الحياة الاجتماعية لا تمكن دراسته بنفس الطرق التي تعودنا اتباعها في تفسير الظواهر الفيزيقية الجديدة أي باعتبارها ترتيبات جديدة لعناصر مألوفة وحتى لو أمكن تطبيق المناهج الفيزيقية المعهودة على المجتمع لما أمكن تطبيقها على أهم صفاته جميعا : يعني المذهب التاريخاني بذلك انقسامه إلى فترات وظهور الجدة فيه . ثم ينتقل بوبر ليعرض مذهب التاريخانيين المؤيدين لاستخدام مناهج العلوم الطبيعية في العلوم الانسانية, فهؤلاء يقولون إن العلوم الإنسانية نسق نظري غايته تفسير الحوادث والتنبؤ بها بواسطة النظريات والقوانين الكلية التي يحاول عالم الاجتماع اكتشافها , وحين نَصفُ علم الاجتماع بأنه تجريبي فمعنى ذلك أن له سندا من التجربة وأن الحوادث التي يفسرها ويتنبأ بها هي وقائع يمكن مشاهدتها وأن المشاهدة هي الأساس الذي نعتمد عليه في قبولنا أو رفضنا لأية نظرية من نظرياته , ونحن حينما نتحدث عن النجاح الذي أحرزه علم الطبيعة فالمقصود النجاح الذي أحرزه في تنبؤاته ونحن حين نعارض بين النجاح المحدود لعلم الاجتماع ونجاح العلوم الطبيعية فنحن نفترض أن نجاح علم الاجتماع ينبغي هو الآخر أن يقوم في أساسه على تأييد التجربة لتنبؤاته , ويلزم عن ذلك أن بعض المناهج كالتنبؤ بواسطة القوانين واختبار القوانين بالتجربة يجب أن يكون خطا مشتركا بين علم الاجتماع وعلم الطبيعة . يقول كارل بوبر أن أحد الأسس التي انطلق منها المؤيديون لاستخدام المنهج الطبيعي في العلوم الاجتماعية هي إعجابهم الشديد بنيوتن وعلم الفلك تحديدا وقدرته على التنبؤ بالأحداث فعلم الفلك يستطيع بحساباته أن يتنبأ أين ستكون النجوم , فلذلك دعا التاريخانيون المؤيدين لاستخدام المنهج الطبيعي أنه كما لعالم الفلك أن يستعين بسجلات المراصد و مراقبة الكواكب وحينها يستطيع التنبؤ عنها فكذلك على عالم الاجتماع أن يطالع التاريخ ومن خلال دراسته يستطيع التنبؤ بالأحداث وأيضا كما أن علم الفلك قائم على تفسير الحركات باعتبارها معلومة لقوى تعينها أو ما يسمى بالديناميكا فكذلك التاريخانيون يقولون أنه يجب أن يقوم علم الاجتماع على نوع من الديناميكا الاجتماعية أي على نظرية تفسر الحركة الاجتماعية باعتبارها معينة بقوى اجتماعية أو تاريخية , ثم بعد ذلك نصل إلى نظرية التطور التاريخي وكما يقول بوبر يدعي المذهب التاريخاني أن علم الاجتماع ليس إلا علم التاريخ وليس المقصود بالتاريخ هنا المعنى التقليدي والمحدود للكلمة بأن يكون سجلا للأحداث الماضية بل المقصود أنه ذلك العلم الذي لا يكتفي بأن يعود بصره إلى الماضي فحسب بل يُلقي ببصره نحو المستقبل أيضا , وعلم التاريخ بهذا المعنى يدرس القوى المؤثرة بوجه عام وقوانين التطور الاجتماعي بوجه خاص ولذلك من وجهة نظر المذهب أن القوانين الاجتماعية الصادقة صدقا كليا هي قوانين تاريخية , إذ يجب أن تكون قوانين للصيرورة والتغيير والتطور , وفي رأي التاريخانيين أن علماء الاجتماع ينبغي أن يحاولوا الوصول إلى فكرة عامة عن الاتجاهات العريضة التي تتغير الأبنية الاجتماعية وفقا لها كما أن يحاولوا أن يدركوا العلل في هذه الصيرورة حتى يستعد الناس لاستقبال التغييرات الوشيكة الوقوع باستنباط النبوءات من تلك القوانين . لا ينبغي أن نفهم أن المذهب التاريخاني بكلا اتجاهيه يدعو إلى انتظار التغيير أو القدرية بأن ينفي قدرة الإنسان على تغيير مجتمعه فهذا لم يكن مقصودهم بل إن المذهب التاريخاني لديهم ميول لما يسميه بوبر “النزعة العملية ” والمذهب التاريخاني يعلم تمام العلم أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا واستدلالاتنا ومخاوفنا ومعارفنا ومصالحنا وأعمالنا هي كلها قوة مؤثرة في تطور المجتمع والمذهب لا يقول بعجزنا عن إحداث أي شيء كان , وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئا بأحلامك أو بما يركبه عقلك طبقا لخطة مرسومة فلا تأثير إلا للخطط التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي , ولذلك فالأعمال المعقولة ليست إلا ما يتلاءم مع التغييرات الوشيكة الوقوع ويساعد على تحقيقها ومن ثم فالنبوءة التاريخية والتفسير التاريخي يجب اتخاذهما أساسا لكل عمل اجتماعي واقعي صادر عن رؤية , ثم يتساءل بوبر هل بإمكان المذهب التاريخاني أن يبعث الأمل والرجاء في نفوس من يرغبون في رؤية عالم أفضل ؟ فيجيب أن هذا الأمل لا يمكن أن يمنحه من التاريخانين إلا من ينظر إلى التطور الاجتماعي نظرة متفائلة فيعتقد أنه بطبيعته “خير” و “مطابق للعقل” بمعنى أنه متجه بطبيعته نحو حالة أفضل وأكثر قبولا لدى العقل . ومن المفارقات أن منهج التاريخانيين القائم على المذهب الطبيعي يستلزم منه نظرية اجتماعية تقول بأن المجتمع لا يتطور أو يتغير تغيرات ذات شأن , أما المذهب الآخر المعارض للعلوم الطبيعية فهو يقول أن المجتمع متغير بالضرورة ولكنه يسير في طريق مرسوم لا يمكن أن يتغير ويمر بمراحل عينتها من قبل الضرورة التاريخية فها هو ماركس يقول “إذا ما اكتشفت مجتمع من المجتمعات قانون الطبيعي الذي يعين حركته فلن يمكنه ذلك من تخطي المراحل الطبيعية لتطوره أو حذفها من الوجود بجرة قلم ولكن في استطاعته أن يفعل شيئا واحدا وهو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها “ بعد أن نقد بوبر المذهب التاريخاني بكونه مذهب كلي وشمولي ولا يؤمن بالهندسة الاجتماعية أو تكنولوجيا المجتمع بحيث يكون التغيير مرسوما مسبقا ومخططا له ويكون جزيئا ويعتبر المذهب التاريخاني مثل هذا النوع من التغيير أو الذي يطالب به كالمشعوذ الذي يقوم برقصة لنزول المطر بينما يرى المذهب التاريخاني مهمته الأساسية بأن يكون كالنشرة الجوية بأن ترصد أحوال المجتمع وتتوقع التغييرات التي تحصل على حد ادعاء بوبر , ثم ينتقل بوبر إلى الرد على مذهب التاريخيين الذين يرون استحالة تطبيق المناهج الطبيعية على علوم الاجتماع فيقول يزعم التاريخاني أن المنهج التجريبي لا يمكن تطبيقه في العلوم الاجتماعية لأننا لا نستطيع في الميدان الاجتماعي تحقيق الظروف التجريبية المتماثلة تماما مرة بعد أخرى ومع أن بوبر يسلم بأن هذا الزعم قد يكون فيه شيء من الحق لكنه يقرر أن زعم المذهب التاريخاني قائم على سوء فهم فاحش للمناهج التجريبية في علم الطبيعة , ولنتأمل أولا في هذه المناهج الطبيعية فكل عالم طبيعي تجريبي يعلم أنه قد تحدث أمور مختلفة جد الاختلاف في ظروف تبدو متماثلة فقد تبدو لنا قطعتان من السلك متشابهتين تماما التشابه لكننا إذا وضعنا الواحدة منهما مكان الأخرى في جهاز كهربائي كان الخلاف في النتيجة كبيرا جدا وقد نحتاج إلى بحث طويل حتى نكتشف أي نوع من التماثل ينبغي تحققه لنحصل على نفس النتائج وقد نحتاج إلى إتمام البحث قبل أن يكون بمقدرونا تحقيق الظروف المتماثلة لأجل إجراء تجاربنا ..ومع ذلك فنحن نطبق منهج التجربة طوال الوقت , وحتى حجة العزل الصناعي فالمذهب الطبيعي لا يستطيع عزل تأثير القمر على أحد الكواكب لكي ينظر إلى مدى تأثيره وحجمه بل يستمر بالتجربة والمقارنة وكذلك المفترض على عالم الاجتماع وأيضا قضية التطورات التاريخية فكما يرى بوبر أن المسألة بالنسبة للتاريخانيين أنهم يشكون لو أنهم ذهبوا إلى فترة تاريخية بعيدة لكان الفشل مصير الكثرة الكاثرة من تجاربهم الاجتماعية ويقول بوبر أن مثل هذه المخاوف تبدو جزءا من هستيريا المذهب التاريخاني بانشغاله المرضي بأهمية التغير الاجتماعي والمسألة كما يقول بوبر أن عالم الاجتماع التاريخاني ليس له القدرة على تكييف ذهنه تكييفا ناجحا يتلاءم وما يحدث في البيئة الاجتماعية من تغييرات . ثم ينتقل بوبر إلى حجة التاريخانين الثانية وهي أن التعميمات لا تصدق إلا على فترة تاريخية معينة , ويبدأ بوبر بانتقاد دعوى المذهب التاريخاني بأنه يسلم بأن معظم الناس الذين يعيشون في فترة تاريخية معينة يميلون إلى الاعتقاد خطأ بأن ما يحدث حولهم على نحو منتظم هو من القوانين الكلية للحياة الاجتماعية ونحن لا نستطيع أن نكتشف ذلك إلا عندما ننتقل إلى بلد غريب فجأة فنجد أن عاداتنا في الأكل ونحوه لا تلقى قبولا لدى البلد الغريب كما كنا نفترض من قبل وينتج عن ذلك بوضوح أن كثير من تعميماتنا التاريخية الأخرى قد تكون من هذا النوع نفسه ونحن لا نستطيع الانتقال إلى فترة تاريخية معينة لتأكد من هذا الأمر وهذه الصعوبة لا تواجه المذهب الطبيعي فيقول العالم التاريخاني إنه لا يستطيع التأكد من أن ما يكتشفه هو قوانين كلية حقا لأنه لا يملك ما يكفي من الوثائق لإثبات ذلك , ويرد بوبر بأن ما يلحق بيئتنا الفيزيقية من تغير قد تنشأ عنه تجارب مماثلة تماما لما ينشأ نتيجة لتغير بيئتنا الاجتماعية أو التاريخية , فهل هناك كما يقول بوبر ما هو أكثر انتظاما من تعاقب الليل و النهار ؟ مع ذلك فهذا التعاقب لا ينطبق إن عبرنا الدائرة القطبية , ونيوتن لم يكن مضطرا أن يتنحى ناحية من العالم يشاهد منها حركة الأجسام التي ل خضع لتأثير قوة الجاذبية أو غيرها حتى يتبين أهمية قانون القصور الذاتي مثلا بل على العكس إن قانونه هذا محتفظ بقيمته في المجموعة الشمسية على الرغم أنه لا يوجد فيها جسم واحد يتحرك بمقتضاه , ويتوصل بوبر أنه لا يبدو أن هنالك سببا نعجز من أجله عن صياغة النظريات الاجتماعية الهامة بالنسبة لكل الفترات الاجتماعية فالفوارق البارزة بين هذه الفترات لا تدل على استحالة اكتشاف مثل هذه القوانين , ثم ينتقل بوبر إلى الرد على المذهب التاريخاني المؤيد لاستخدام المنهج الطبيعي بحجة أن تاريخاني القرن التاسع عشر يعتنق عقيدة التطور الاجتماعي وهو يقتبسها من داروين كما كان التاريخاني في القرن الثامن عشر يؤمن بالتنبؤات بعيدة المدى ويقتبسها من نيوتن . يرى بوبر أن مذهب وحدة المنهج بين المذهب الطبيعي والاجتماعي وهو المنهج الذي يقول بأن العلوم النظرية أو التي تهدف إلى تقرير القضايا العامة سواء كانت علوما طبيعية أو اجتماعية تستخدم جميعها منهجا واحدا وهذا المنهج هو الصحيح برأي بوبر , فهذه المناهج ترجع إلى التفسير العلم الاستنباطي و التنبؤ والاختبار ويسمى في كثير من الأحيان منهج الفرض لأنه لا يحقق اليقين المطلق لأي من القضايا العلمية التي يختبرها وإنما تحتفظ هذه القضايا دائما بطباع الفروض المؤقتة وإن بدا هذا الطابع قد يذهب عنها بعد نجاحها في كثير من الاختبارات القاسية , ويواصل بوبر فيقول يجب أن ننظر إلى الاختبارات باعتبارها محاولات لاستئصال النظريات الكاذبة أو اكتشاف مواطن الضعف في النظريات حتى ننبذها إن كان الاختبار يكذبها وتبدو هذه النظرية أحيانا مخالفة لأهداف العلم إذ يقال إن غاية العلم إثبات النظريات لا حذف الكاذب منا ولكن استهدافنا إلى إثبات النظريات إلى أقصى درجة تستطيعها هو نفسه الذي يدعونا إلى أخضاعها لأقسى أنواع الاختبار فينبغي أن نحاول اكتشاف وجوه النقص فيها وينبغي أن نحاول تكذيبها ويختم بوبر بقوله إن أردنا أن نضمن البقاء للنظريات الصالحة لوحدها علينا أن نجعل كفاحها من أجل الحياة عسيرا .
الأحد يوليو 19, 2015 12:46 pm من طرف هذا الكتاب