2014-06-04 اللعب مع أفلاطون
|
| |
ترجمة: لطفية الدليمي
*الفلسفة في عصر التغوّل المادي والأصوليّة العلمية
*لم يتعلّم أي جيل القدرة على الحب و التعاطف والشغف والعطاء من جيل سابق
*لا بدّ لكلّ جيل أن يبدأ من نقطة الشروع ذاتها ليستطيع تعلّم مجمل المثل الإنسانية
هذه ترجمة لمعظم أجزاء مقال نشر حديثا للبروفسور (كلانسي مارتن Clancy Martin) في مجلة (أتلانتيك) الامريكية واسعة الانتشار في 19 آذار 2014 و يتناول فيه الكاتب ما يراه الدور الذي ينبغي أن تنهض به الفلسفة في عصر الكشوفات العلمية الخارقة و طغيان النزعة المادية المتغوّلة و يناقش فيه أفكاراً وردت في أحدث كتاب للفيلسوفة و الروائية و الأستاذة الجامعية الأمريكية (ريبيكا غولدشتاين) والتي ترجمت لها حوارا سينشر لاحقا في ثقافية المدى، و يتشاطر الاثنان النظرة ذاتها في كون الفلسفة عصية على الفناء و الاندثار و أن مجال اشتغالها يختلف عن مجال العلم - أو أي مجال معرفي آخر – غير ان أحدهما يعزز الآخر و يثـريه برؤية كاشفة أكثـر غنىً حتى صار بعض الفلاسفة يثيرون الدهشة لولعهم الهائل في استشكاف الإنجازات العلمية في فروع عديدة و لعل مثال الفيلسوف الأمريكي (دانييل دينيت Daniel Dennett) هو المثال الأكثـر نموذجية لأن يكون" أفلاطوناً " من نوع ما يناسب القرنين العشرين والحادي والعشرين.
أود الاشارة هنا إلى أن ( كلانسي مارتن ) كاتب المقال المترجم أدناه هو روائي و كاتب عمود و مقالات و فيلسوف أمريكي يشغل منصب أستاذ للفلسفة و رئيس قسم الفلسفة في جامعة ميسوري الامريكية كما يدرّس مادة ( أخلاقيات العمل ) بالإضافة الى دروسه الفلسفية و قد ظهرت روايته الأولى بعنوان ( كيف تبيع How to Sell ) عام 2010.
اللعب مع افلاطون
كلانسي مارتن –روائي وفيلسوف امريكي
أذكر أنني عندما بلغت الحادية و العشرين من العمر كنت أجاهد في محاولة الوصول إلى قرار بشأن مستقبلي المهني :هل سأكون طبيباً أم استاذ فلسفة ؟ و قد عقدت مع أخي الأكبر - الذي أثق في نصائحه تماماً – جولات مطوّلة من النقاش حول السبب الكامن وراء رغبتي في دراسة الفلسفة ، و كان ردّي الحاسم و القاطع في أن السبب يعود إلى الكثير من الكتب التي قرأتها و أحببتها و التي كتبها فلاسفة مهنيون أو أساتذة فلسفة ، و ثمة سبب آخر يعود إلى كتاب فريد قرأته و أعدت قراءته مرات عديدة منذ أيام مراهقتي المبكّرة و أعني به كتاب ( هرمان هسّه ) الشهير " لعبة الكريّات الزجاجية The Glass Bead Game " و الذي صوّر فيه ( هسّه ) حياة البروفسور و جعلها تبدو غارقة بالرومانسية المفرطة . " كن عملياً في حياتك و تذكّر أن الكتب يمكن ان تكون شيئاً خطيراً للغاية " هذا ما دأب أخي على تحذيري الدائم منه لأهميته و خطورته في الوقت ذاته ، و كان يضيف لتحذيره السابق " قد نظن ان الكتب صادقة دوماً لمجرّد انها مكتوبة على الورق "
(عليّ أن أشير في هذا الموضع أن أخي كان تاجراً ناجحاً للغاية للمجوهرات النادرة التي يقتنيها الأثرياء و قد ظل على حبّه الجامح للمال و لكن في الوقت ذاته حافظ أخي - عملاً بنصيحة كارنيجي – على ضرورة جعل من يعمل معه يشعر بأهميته الاعتبارية ، و كان دوماً مخلصاً و نزيهاً في علاقاته مع الناس )
غير ان ما قاله اخي لم يكن هو ما رغبت في سماعه لذا طلبت المشورة من أبي الذي كان ( غورو ) من غوروات العصر الجديد و كان مفلساً أغلب الأوقات و يسكن مدينة جوبيتر في ولاية فلوريدا و قلما استمعت إلى نصائحه - على عكس أخي - و للعجب فإن أبي كان حاسماً و رائعاً و قبل كل هذا زوّدني بما كنت في شديد التوق لسماعه عندما أخبرني " إسمع يا بني : إن كل طبيب من الأطباء الكثيرين الذين أعرفهم هو شخص غاية في التعاسة ، و الأطباء يعملون أغلب الوقت و يشتكون دوماً من فواتير شركات التأمين !!! . إجتهد يابنيّ لتكون بروفسوراً للفلسفة و اعلم منذ اليوم أنك لن تكون غنياً يوماً ما و لكن حسبك أنّك ستقوم بأداء العمل الذي تحب و الذي لطالما قرأت و كتبت عنه و ستكون لك عطلات صيفية أيضاً و تلك حياة جيدة على ما أرى " .لاحظوا معي أن أبي لم يقل " الحياة الجيدة " التي كان سيقولها حتماً ناصح ذو عقل فلسفي متدرّب على الطريقة الأمريكية : فقد كانت الفلسفة الأمريكية تغرق خلال عقدي الثمانينات و التسعينات في مماحكات ذات طبيعة مدرسية جافة حول أكثر الموضوعات يباساً و افتقارا للحيوية و لكن المهم في الموضوع برمّته أن أبي أسمعني ما كنت أتوق لسماعه في أن الفلسفة تكافئ مريديها بطريقة ستجعل "هرمان هسه " سعيداً لسماع أنني أنهيت دراستي العليا في الفلسفة و حصلت اخيراً على درجة الأستاذية المميّزة .
وسط فوضى شاملة و زعيق عن انحدار الدراسات الإنسانية و الفلسفية كتبت الفيلسوفة و الروائية و الأستاذة الجامعية ( ريبيكا غولدشتاين ) كتابها المعنون ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة ) و كانت واثقة من انها ستجد قرّاءً لكتابها من طائفة التوّاقين لاستشارة الفلاسفة حول معنى الحياة و الطريقة المثلى لعيشها ، و تبدو غولدشتاين في غاية الحكمة عندما لا تعدّ استمرارية الوهج الفلسفي أمراً مفروغاً منه في ثقافة باتت النظرة المادية طاغية فيها على مستوى العالم بأكمله و لست أقصد هنا بالنظرة المادية في الثقافة الكونية تلك الإحالة المباشرة إلى " حب المال و التملك المتغوّل " في عالمنا و ما ينبثق عنهما من نتائج كارثية حسب- بل أقصد و على نحو محدّد أن الكثرة من الناس باتت ترى في القوانين العلمية للمادة جواباً لأسئلتنا كلّها و هو ما يمثّل شكلاً من الاستبداد العلمي يكافئ طغيان التملّك و الاستحواذ .إن الدافع وراء عمل غولدشتاين الذكي و الممتع و المثير يعدّ الصيغة النظرية للموضوعة العملية التي عملت عليها في أطروحة تخرجي و التي أتساءل فيها : بعد أن صرنا نمتلك العلم فهل بقي من حاجة للفلسفة ؟ أليس العلم هو ما " يصنع لنا خبزنا " و يمدّنا بالوسائل التي تؤمّن لنا الحصول على المال و على نحو تعجز الفلسفة عن اجتراح مثيل له ؟ و ليس خافياً أننا كثيراً ما نسمع هذه الأيام أن العلم يقف وراء هذه الطفرة الهائلة في مسيرة الحضارة الإنسانية و ان الفلسفة باتت عاجزة عن ادِّعاء أية إنجازات لنفسها .
كتب فيلسوف القرن العشرين الذائع الصيت ( ألفريد نورث وايتهيد ) في مديح افلاطون قائلاً " إن التوصيف العام و الأقرب للصواب للتقليد الفلسفي الأوربي هو انه يتألّف من سلسلة تعقيبات و شروحات على ما كتبه افلاطون " ، و لكن ما قاله وايتهيد هو بالضبط ما يجعل غولدشتاين تشعر بالقلق على الفلسفة فكتبت معلّقة على ما قاله وايتهيد " إن هؤلاء الذين يضمرون في دواخلهم عداء متأصّلاً تجاه الفلسفة - و منهم العديد من أصدقائي الخلّص – سيجدون في عبارة وايتهيد ما يكفي للتهكّم على مستقبل الفلسفة إذ أن فكرة تمكُّن إغريقيّ عتيق على التحكّم بكامل مسار الفلسفة الحديثة و تحقيق السيادة عليها عبر القرون - كما يدّعي وايتهيد - تظلّ فكرة لا تنبئ بقدرة الفلسفة على الارتقاء المناسب و الثابت في المستقبل " و هكذا انطلقت غولدشتاين في كتابها الذي ذكرناه لامتحان فكرة " الارتقاء " وفكرة " المعنى " في الإطار الفلسفي و كان هدفها يتجاوز إثبات ان الفلسفة الحديثة قادرة ان تكون على تماس مباشر مع مشاكل المجتمع المعاصر لا مجرّد حواشي و تعليقات على ما كتبه أفلاطون ، و الحق أن غولدشتاين اندفعت أبعد من هذا كثيراً : لقد عملت للتأكيد على فكرة " إن الكثير من الأسئلة الضاغطة في حياتنا ليس بإمكاننا أن نجد إجابات مناسبة و مفيدة لها خارج الفضاء الفلسفي" ، كما أوضحت غولدشتاين كذلك "أن السؤال عن كيفية عيش حياة ذات معنى هادف مسألة تختلف تماماً عن فهم نظرية النسبية الخاصة أو نظرية الارتقاء الداروينية ".
من الجليّ أننا صرنا مثقلين بالمعلومات و باتت البيانات والأرقام تتدفّق علينا من كل صوب و صار بإمكاننا الحصول على الحقائق عبر وسائل البحث الإلكتروني في ثوان معدودات كما تتيح لنا المعرفة العلمية الوصول إلى كشوفات جديدة كل يوم ، و لكن ما الذي يعنيه كل هذا بالنسبة إلى الفلسفة و هل ثمة من تأثيرات تحجّم دورها ؟ دعونا نستعيد ما كتبه الفيلسوف الدانماركي ( سورين كيركيجارد ) في هذه الجزئية بالتحديد : "مهما كانت عظمة القيم التي يتعلّمها أي جيل من الأجيال التي سبقته فليس باستطاعته أن يتعلّم من الآخرين تلك القيم و المثل ذات النزوع الانساني ، إذ لم يتعلّم أي جيل القدرة على الحب و التعاطف و الشغف و العطاء من جيل سابق و لا بدّ لكلّ جيل أن يبدأ من نقطة الشروع ذاتها ليستطيع تعلّم مجمل المثل الإنسانية و لم نسمع أن جيلاً ما قد بذل جهداً أقل في تعلّم هذه المثل من أي جيل سبقه" . و هنا يبدو واضحاً الدور الفريد و الإبداعي الذي قدّر للفلسفة أن تنهض به في كلّ عصر