2014-06-02 قراءة في كتاب قوة الدين في المجال العام
|
| |
يورغن هابرماس وتشارلس تيلر / جوديت بتلر وكورنيل ويست ترجمة: فلاح رحيم
يعد هذا الكتاب الجماعي الصادر ضمن سلسلة "تحديث التفكير الديني" التي تصدر عن "مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد"، و"دار التنوير في بيروت"، تحت إشراف المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، عبارة عن محاضرات علمية ونقاشات حوارية نظمتها ثلاث مؤسسات علمية رصينة بمدينة نيويورك سنة 2009، تحت عنوان: "قوة الدين في المجال العام" بمشاركة أسماء معروفة في فضاءات الفكر والفلسفة، وما اشتهرت به من رصانة وجرأة في إعادة طرح مسلمات المجتمعات الغربية طرحا نقديا. وقد قام بترجمته إلى العربية: فلاح رحيم، وقدمه له: إدواردو منديتا، وجوناثان فانانتويربن، حيث يقع الكتاب في 221 صفحة من القطع المتوسط.
إن طرح هذا النوع من التفكير في المسألة العلمانية الغربية من داخل تجربتها الحضارية، ومن زوايا نظر متعددة، يؤدي لا محالة إلى فتح أفق جديد في فهم العلاقة الأحادية بين العلمانية والدين يتجاوز حالات الجمود ومآزق التصنيفات الجامدة والجاهزة التي سادت هذه العلاقة في المجال العربي والإسلامي، وإعادة الحوار حول موقع الدين في المجال العام.
يثير المشاركون في هذا الكتاب العديد من الأسئلة التي تواجه المثقف والمجتمعات العربية. ورغم أنه جدال من داخل المرجعية الغربية، ويتميز بخلافات متنوعة، وتعدد في وجهات النظر والرؤى في تحليل الظواهر وفهمها، فإنهم يتفقون جميعا على ضرورة الحفاظ على المشروع العلماني الغربي بمؤسساته الديمقراطية التي أنضجتها قرون طويلة من الحراك السياسي الخصب؛ فأبرز الأسئلة المطروحة والملحة تتعلق بإمكانية فسح المجال أمام الدين ليشارك في صياغة القرارات والسياسات التي نجمت عن خصخصته ودفعه إلى عالم الفرد.
لقد دشّن يورغن هابرماس في دراسته الرائدة: "التحوّل البنيوي للمجال العام" دراسة المجال العام على نحو مثير وجليّ. وحسب رؤيته، فإن المجال العامّ الذي بدأ بالظهور في القرن الثامن عشر، تطوّر بوصفه فضاءً اجتماعيًا متميزًا عن الدولة والاقتصاد والعائلة، ويمكن للأفراد فيه أن يتواصلوا فيما بينهم بوصفهم مواطنين مستقلين من أجل التداول في الصالح العام. وربّما كان أكثر الوجوه حسمًا في هذه البنية الاجتماعية هو مكانتها بوصفها فضاءً لتقديم الأسباب ومناقشتها، قبولها أو رفضها. ومن الناحية الاسمية كان المجال العام فضاءً مفتوحًا لتحدّه حدود، يمكن فيه التعبير عن كل الأسباب وسماعها، إذ يرى يورغن هابرماس في مداخلته: "السياسي: المعنى العقلاني لميراث اللاهوت السياسي المريب" أنه لا بد من الإقرار بأهمية الدين في إغناء النقاشات الدائرة في المجال العام، لكنه يصر على ضرورة أن يترجم المساهمون في هذه النقاشات آراءهم إلى لغة مقبولة لدى جميع الفرقاء تحتكم إلى العقل؛ حيث لا يمكن لأحد فرض رأيه بالاستناد إلى عمق إيمانه بهذا الرأي، بل يتحقق قبول الرأي بقوة الجدال العقلاني الذي يعتمد المنطق والإقناع.
ينطلق هابرماس من مناقشة فلسفية للمنظر الألماني كارل شمت(1888-1985) الذي ظلت أعماله النظرية في مفهوم الدولة السيادية الحديثة مثيرة للجدل، إذ ينطلق هابرماس من مفهوم السياسي عند كارل شمت الذي ميز فيه بين السياسة بوصفها وقائع، والسياسي بوصفه جوهر السياسة والأساس الوجودي الذي يقرر سيادة الدولة الحديثة وهويتها؛ مما يعني أن هناك تمييزا بين الفهم الإداري والتشريعي للسياسي، وبين الإجراءات السياسية للدولة التي تبيح لها ممارسة سيادتها عبر تحديد الأعداء والأصدقاء والإقدام على اتخاذ إجراءات استثنائية كإعلان الحرب مثلا. وبهذا يرى شمت أن للسياسي خصوصية تعلي من شأنه بالمقارنة مع الاقتصادي والجمالي والأخلاقي، في حين يعترض هابرماس على هذا الفهم الوجودي الذي يتجاوز العقل والحجاج المنطقي للسياسي ويرى في تفنيده تفنيدا لمحاولة إعادة الدين إلى المجال العام والحياة السياسية بوصفه مداخلة غيبية لا تحتكم إلى الكتب المقدسة.
يخلص هابرماس إلى كون الممارسات والمنظورات الدينية تمثّل مصادر أساسية للقيم التي تمدّ الحياة بأخلاقيات المواطنة متعددة الثقافات، وهي تفرض التضامن والاحترام المتبادل معًا. ومع ذلك، فلكي تتوفر "الإمكانات الدلالية الحيوية القادمة من التقاليد الدينية" في متناول الثقافة السياسية الواسعة وعلى نحو خاص داخل المؤسسات الديمقراطية لا بد من ترجمتها إلى لغة علمانية وإلى لغة متاحة للجميع وهي مهمة لا تقع على عاتق المواطنين المتدينين فحسب، ولكن على عاتق المواطنين المتديّن منهم والعلماني على حد سواء ممّن ينخرطون في الاستخدام العامّ للعقل.
يعترض الفيلسوف الكندي المعروف تشارلس تيلر على هذا المفهوم للعقل العام ويمضي في مداخلته المعنونة بـ: "لماذا نحتاج إلى تعريف جذري للعلمانية؟" إلى زعزعة أشكال الفهم الأحادية للعلمانية. وبينما ينتقد هابرماس بشدة المحاولات الراهنة لتجديد مفهوم "السياسي" ويبدو ميالا إلى القول أن الدول العلمانية الحديثة يمكن أن تمضي في مسارها دون حاجة إلى مفهوم مشابه، فإن "تيلر" يقترح العكس، مجادلا في أن المجتمعات الديمقراطية تبقى منظمة على أساس "فلسفة تمدن "قوية، وهو مفهوم معياري يرتبط بما أسماه "النظام الأخلاقي الحديث". ومن ثم يدعو تيلر إلى ضرورة إعادة الدين إلى المجال العام مع كامل الاحترام لخصوصياته، وذلك لأن الحاجة إليه تكمن في ما له من خصوصية تميزه عن غيره من المواقع الفكرية والإيديولوجية، وهو لذلك يرفض النظر إلى الدين بوصفه حالة خاصة لابد من التعامل معها بحذر واحتراس كما يرى هابرماس.
الدين بالنسبة لـ"تيلر" موقف آخر يجاور ما عداه من المواقف الإيديولوجية الأخرى المسموح بها في عُرف الدولة العلمانية، وذلك لأن في كل إيديولوجيا عنصرا يتجاوز العقل والمعقولية، من قبيل المصالح التي تحركها والقوة التي تدعمها. بهذا لا يرى تيلر أن حوار الفيلسوف واللاهوتي أمر متعذر ولا فرق نوعيا بينهما. وبينما يؤكد هابرماس أن الدين لا يخضع خضوعا تاما للجدل العقلاني، فإن تيلر ومن بعده كالهون، يريان أن هذا الموقف من الأساطير التي روجت لها العلمانية وأن التاريخ يقدم أمثلة تثبت العكس.
يرى تيلر أن فكرة وجوب أن تتعامل العلمانية مع الدين بوصفه حالة خاصة نابعة في معظمها من تاريخ العلمانية في الغرب، وتحديدًا من نشوئها في سياقين تأسيسيين مهمين في الولايات المتحدة وفرنسا، كان للمسيحية فيهما دور بالغ - بالرغم من الاختلاف في كل منها.
ويعتقد أن للهوس في الدين جذورًا إيبستيمولوجية أعمق في "أسطورة" التنوير المتواصلة أيضًا، وهي أسطورة تعزل العقل المتشكل على نحو لا ديني جانبًا بوصفه يستحق مكانة خاصة ومتميزة، بينما ترى النتائج ذات البعد الديني بأنها "مريبة، وهي لا تكون مقنعة في نهاية المطاف إلا لمَن يقبل بالفعل العقائد المعنية"، فبدلًا من فهم للعلمانية مرتكز على الدين بوصفه مشكلة محورية، يقدم تيلر مفهومًا بديلًا يفهم بصيغة التوازن أو التنسيق بين دعاوى المصالح المختلفة التي تعدّها المجتمعات الديمقراطية أساسية. ويقترح أننا نستطيع فهم هذه المصالح الأساسية بصيغة العديد من التوسعات أو القراءات للقيم الثلاث المعلنة للثورة الفرنسية: الحرية، المساواة، الأخوة. وفي ذلك يقول: "نحن نعتقد أن العلمانية (Laïcité) مَعنية بالعلاقة بين الدولة والدين، بينما هي في الواقع مَعنية بالاستجابة الصحيحة التي تصدر من الدولة الديمقراطية تجاه التنوع...ليس هناك من سبب يدعو إلى استثناء الدين في تضاده مع وجهات النظر غير المتدينة أو العلمانية أو الإلحادية"، كما يوضح أن مقولة حيادية الدولة تعني تجنب تفضيل أو عدم تفضيل/تمييز ليس فقط المواقف الدينية، ولكن أي موقف أساسي سواء أكان دينيا أو غير ديني.
ويخلص تيلر في الأخير إلى أن الأنظمة التي تستحق صفة علمانية لا بدَّ أن تُفهم ليس بوصفها "متاريس ضد الدين"، ولكن بوصفها تلك التي تستجيب على نحو مبدئي إلى التنوع الداخلي والتعدد الذي تعرفه المجتمعات الحديثة.
تثير مداخلة الفيلسوفة النسوية "جوديت بتلر" في كلمتها: "هل اليهودية هي نفسها الصهيونية" قضية ذات طابع سياسي، لكنها تصب على نحو عميق في موضوع البحث من خلال تفاعلها مع طروحات إدوارد سعيد وحنا أرندت. فهي تقارن بين موقف الصهيونية بوصفها عقيدة سياسية علمانية، وموقف الديانة اليهودية بوصفها عقيدة غيبية من مفهوم التعايش، فتجد أن الميراث الديني اليهودي يوفر أفقا للتعايش والتفاهم مع الآخر يفوق ما توفره الصهيونية المتمثلة في دولة تمارس شتى أنواع التعسف تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل.
لكن مساهمة بتلر تذهب أبعد من ذلك، فتثير الأبعاد الفلسفية للتعايش بين الجماعات المختلفة عرقيا وقوميا ودينيا وطائفيا وحتى سياسيا، وتنبهنا إلى حقيقة أن قبول الآخر صار شرطا للوجود الآمن العقلاني في عالم اليوم الذي تتساقط فيه الحدود الوطنية ويتحرك فيه البشر إلى مختلف البقاع حاملين معهم هوياتهم المختلفة، قائلة: "إن التعايش على الأرض سابق على أية مجموعة أو أمة أو محلة. قد نختار أين نعيش وقرب من نعيش لكننا لا نستطيع أن نختار مع من نتعايش على الأرض".
اتسمت مداخلة المفكر والناشط الأمريكي كورنيل ويست: "دين النبوة ومستقبل الحضارة الرأسمالية" بنبرة شعرية أدبية متدينة، لكنها متعالية على الإقصاء أو الاستئصال، محاولا بلورة فكرة جوهرية مفادها أن الأولوية لابد أن تعطي لتحقيق مطامح البشر في حياة كريمة تضمن للإنسان حاجاته الأساسية، أما وسائل تحقيق هذه الغاية فلا بد من السعي إليها في كل أنواع الخطاب من علماني وديني دون انغلاق، مؤكدا على الحاجة الملحة إلى العدالة في بعدها الإنساني والاجتماعي والشمولي وليس النمط التضامني مع الشعوب المقهورة بل ينظر إليها بوصفها قيمة تتجلى في حب الحق والرغبة في الاحتفاء بأولئك الذين يلهبهم الجحيم والعمل معهم ومن أجلهم بغض النظر عن اللون والثقافة والحضارة.
يختتم هذا النقاش الغني والمركب البروفيسور كالهون، بحديثه عن التطور التاريخي للحياة السياسية الأمريكية مؤكدا بالأمثلة التاريخية مساهمة الدين في الكثير من الحركات الشعبية التقدمية التي ساد الاعتقاد أنها من صنع العلمانيين فقط، كما حاول تقديم أهم الخلاصات الدائرة في هذه الحوارات العلمية، وما تنطوي عليه من أفكار ومداخل لإعادة النظر في علاقة الدين بالدولة العلمانية والمجال العام. ( مركز نماء للبحوث والدراسات