** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نابغة
فريق العمـــــل *****
نابغة


التوقيع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة

عدد الرسائل : 1497

الموقع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة
تعاليق : نبئتَ زرعة َ ، والسفاهة ُ كاسمها = ، يُهْدي إليّ غَرائِبَ الأشْعارِ
فحلفتُ ، يا زرعَ بن عمروٍ ، أنني = مِمَا يَشُقّ، على العدوّ، ضِرارِي

تاريخ التسجيل : 05/11/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي Empty
25102013
مُساهمةمناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي

مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي Villes_068

0inShare
Share on Tumblr

في المُلتقى العالمي للفلسفة الذي عُقِد بمدينة اسطنبول، ألقى الفيلسوف الإيطالي جانّي فاتيمو (Gianni Vattimo)، مُحاضرة بعنوان استفزازي (كلام فاتيمو) "هايدغر فيلسوف الديموقراطية". وللتدليل على ديمقراطية هايدغر فإنه أجرى مقارنة بين أفكار شيخ الليبرالية كارل پوپر (Karl Popper)، من خلال كتابه "المجتمع المنفتح وأعداؤه"، وبين أطروحات هايدغر انطلاقا من محاضرته "نهاية الفلسفة ومُهمّة الفكر".
وقد اعترف فاتيمو، منذ البداية، بأن الجَمع بين مفكر مثل كارل پوپر مشهور بتعصّبه للنظام الّليبرالي، وبين فيلسوف كاره للديمقراطية مثل مارتن هايدغر هو من الخلف بمكان « خصوصا وأن هايدغر لا يَبدو، طبعا، مفكرا ميّالا إلى الديمقراطية».
أين يَكمُن التوافق بين پوپر وهايدغر؟ يقول فاتيمو بأن « الأسباب التي حرّكت پوپر لمناهضة أفلاطون هي نفسها، وبالأساس، الأسباب التي حرّكت هايدغر في صراعه ضدّ الميتافيزيقا». فاتيمو يعترف، مرة أخرى، بأنه يُفكّر في صُلب المفارقات ويلتجئ إلى ما أسماه بالعنف التأويلي (violenza ermeneutica)، وهذا العنف التأويلي مُتأتٍّ، أساسا، من تقريبه بين مصطلحات ومفاهيم تبدو، للوهلة الأولى، بعيدة كلّ البعد عن بعضها: مثل عبارة پوپر "مجتمع منفتح"  بـ"حدث" (Ereignis) الهايدغارية. ولطمأنة القارئ الرّيبي يقول: « إننا لا نخون أغراض پوپر ولا هايدغر، على الرغم من أنه لا أحد منهما يقبل بهذا العنف التأويلي الطفيف».
فاتيمو يؤيّد موقف پوپر من أفلاطون حينما اعتبره أحد الأعداء الخطرين للمجتمع المنفتح، ذلك لأنّ أفلاطون، كما بيّن ذلك پوپر، لديه « تصوّر مَاهَوي للعالم (concezione essenzialista del mondo)». وطبقا لهذه النظرة فإن كلّ ما هو واقعي يَخضع لقانون مُعطَى كبنية ثابتة للوجود، وبالتالي فإن المجتمع ذاته عليه أن يَنصاع إلى ذاك التصوّر الماهوي. وبما أن الفلاسفة فقط هم الذين يَستطيعون تَعقّل ذاك النظام الدائم للأشياء، فإن مُهمّة قيادة المجتمع تعود إليهم بالدرجة الأولى. هذه المهمّة التي يزعمها الفلاسفة ـ اليوم العلماء وأصحاب الإختصاص ـ مرتبطة وثيق الإرتباط بالإقتناع المبدئي التالي: ألا وهو أنّ بالنسبة للفرد والمجتمع ينبغي عليهما أن يتطابقا دائما مع نظام مُعطى موضوعيا يَصلح أيضا كمِعيَار (Norma) أخلاقي؛ الوحيد الممكن. فاتيمو، على لسان پوپر، يُمعن في المفارقات والإستفزاز، يقول بأن هناك مبدأ محوريا في الحقل السياسي ـ التشريعي مفاده أن « "السلطة، وليست الحقيقة، هي التي تسنّ القوانين"  (auctoritas non veritas facit legem)»، هذا المبدأ ـ يُضيف فاتيمو « كان دائما عُرضة للنقد العقلاني ذي النفس الميتافيزيقي». فالعقلانيون، حسب هذا الطرح، يتعاملون مع أمور السياسة بذهنية علمية، راغبين في التوصل إلى حقائق نهائية وادراك الأشياء كما هي في ذاتها. لكن، حسب أطروحة فاتيمو، هذا هو الخطأ الأكبر الذي يداهم الممارسة السياسية، ذلك لأنه « كُلّما أولِجَ مطلب الحقيقة في السياسة، إلاّ وبرز أخطر أنواع التسلّط (الاستبداد autoritarismo)، أي الإنغلاق الذي حذّر منه پوپر».
2 -  الحقيقة والسلطة في المجتمع المنفتح:
أطروحة پوپر ـ فاتيمو التي ترى أن السلطة وليست الحقيقة هي مبدأ التشريع، مقبولة إلى حدّ ما. فعلا، لا أحد ينكر، مبدئيّا، أن السلطة الشرعية هي التي تسنّ القوانين، والأمر يَنبغي أن يكون كذلك. لكن السلطة ليست هي بالإرادة العمياء التي لا همّ لها سوى الحفاظ على سيادتها وإعادة إنتاج ذاتها باستعمال كل الوسائل حتى اللاأخلاقية منها. بل يجب أن تكون محكومة بالعقل ومُقيّدة بمبادئ العدل والحقّ. المبدأ الذي أشاد به فاتيمو، إن أخذ على حرفيته، يؤدي فعلا إلى عكس النتائج التي يود الوصول إليها، لأنه يبرّر الأمر الواقع، ولا يعترف إلاّ بالأقوى وبالتالي فهو يَصلح كذريعة لكلّ الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي لا ترى نفسها مُجبَرة على التقيّد بمعايير الحقيقة والحكمة.
أمّا بخصوص أفلاطون، فما كتبه پوپر هو كاريكتور أفلاطون، لقد أصبح النقد العشوائي لهذا الفيلسوف شبيها بالرياضة الروحية التي يتعاطاه الكثير من المفكرين المعاصرين. وبسبب هذا المنحى الجدالي فإن التطاول عليه أخذ يتجذر في أذهان المفكرين بجميع مشاربهم، وأصبح أفلاطون حجر عثرة يجب إزاحتها قبل أي تنظير سياسي. لكن، في حقيقة الأمر، پوپر سقط في نفس تلك الشناعات التي نسبها إلى أفلاطون، ويكفي تتبّع مساره الفكري، ورصد مواقفه السياسية كي نتحقق من ذلك.
الحصيلة السلبية لكل أعمال أفلاطون يَرسمها في كتاب "المجتمع المنفتح وأعداؤه" على هذا النّحو: « لقد رفض سقراط الاخلال باكتماله الشخصي. لكن أفلاطون، مع كل صرامة تنظيفه للواجهة، كان مدفوعا نحو طريق أخلّت باكتماله في كل خطوة أقدم عليها. كان مدفوعا نحو التهجم على الفكر الحرّ والتوصّل إلى الحقيقة؛ دَافَع عن الكذب، المعجزات السياسية، المحرّمات، انتزاع الحقيقة، وفي النهاية، العنف الشرس. ورغم تحذير سقراط من كره البشر وكره العقلانية، فإن أفلاطون كان عديم الثقة بالإنسان ويهاب البرهان العقلاني. وعلى الرغم من كرهه للطغيان، كان مدفوعا لرؤية الطغيان كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر طغيانا ».
كل هذه السلبيات التي لفّقها على كاهل أفلاطون حاضرة في پوپر سواء من خلال سيرته الذاتية أو من جهة تنظيره الفكري السياسي: اكتماله الشخصي أصابه الخلل في كثير من جوانبه سواء بتناقضاته أو بولاءاته السياسية المشكوك في نزاهتها؛ تهجّم على المثقفين اليساريين المخالفين لنهجه السياسي؛ رفَضَ أن يكون العلم مُوصلا إلى أية حقيقة ثابتة؛ المعجزات السياسية يؤمن بها أكثر من أي فيلسوف آخر، أعني الليبرالية الشرسة واقتصاديات السوق؛ أما الدفاع عن الكذب فيمكن إرجاع هذه التهمة عليه لأنه أنكر أبسط الحقائق العلمية التي أثبتت التلازم السببي بين التصنيع والتلوث البيئي؛ لديه نوع من كره للبشرية، أعني عنفا تجاه كل من يتجرّأ على نقد أفكاره أو رَفضَ الانزواء تحت راية الليبرالية الاستعمارية؛ يَهاب البرهان العقلاني لأنه أنكر أن تكون نظرية التكذيب خاضعة هي بدورها للتكذيب؛ أخيرا إذا أبدلنا كلمة الطغيان، التي اتهم بها أفلاطون، بكلمة حرب، فإننا سنحصل على صورة قريبة جدّا من مواقفه إزاء السياسة العالمية وحروب أمريكا: على الرغم من كرهه للحرب، كان مدفوعا لرؤية الحرب كمساعد ممكن والدفاع عن الاجراءات الأكثر حربية.
ليس هذا فقط بل إن في نفس الكتاب، الذي اعتُبر مانيفستو الليبرالية وإدانة، بدون رجعة، للطغيان والتقوقع المنافيان للإنفتاح الديمقراطي، فإن پوپر يصدمنا بقناعته النّخبوية، وبتأكيده على وجود أفراد لهم ميزات عالية ترفعهم على مستوى الناس العاديّين. ولا يُغنِي عنه شيئا القول بأن هؤلاء الرجال الخارقين للعادة لا ينبغي عليهم أن يُطالبوا بامتيازات سياسية خاصة: « أودّ أن أعبّر عن اقتناعي بأن السموّ الشخصي، سواء كان عرقيا أو فكريا أو أخلاقيا أو تربويا، لا يمكن أبدا أن يُبَرِّر مطلب امتيازات سياسية، حتى وإن كان ذاك العلوّ شيئا متحقّقا». فعلا تلك النخبوية هي شيء معاين في الواقع على الرغم من أن « الكثير من الناس اليوم في البلدان المتحضرة يُسلّمون بأن العلوّ العرقي هو أسطورة». پوپر لا ينقض هذه الأسطورة ولا يودّ معارضتها على الرغم من أن الكتاب نشر في سنة 1942 حيث كانت تعتمل في صلب ذاك العالم الذي أسماه بـ"العالم المتحضّر" جدّا، أفكارا عنصرية تُروّج لفكرة علوّ العرق الآري والمطالبة بحقه في ريادة العالم. پوپر يَكتفي بالقول بأن ذاك السموّ، حتى وإن افترضنا أنه أمر متحقق على أرض الواقع، فهو لا يُحتّم امتيازات سياسية خاصة. ماذا يحتم إذن؟ « مسؤوليات أخلاقية مُناطة بأصحاب الرّفعة. ونفس هذا الخطاب يُقال على أولئك الذين يَتسامون ذهنيا، أخلاقيا وتعليميا». أما الرأي النقيض، أي رأي الذين يُنكرون أي نوع من أنواع التفاضل بين الناس، ويحاولون التمسّك بمبدإ المساواة اللامشروط فإن پوپر، كعادته في سلاطة اللسان، يتهجّم عليهم قائلا: « أعتقد أن الادعاءات المخالفة، لبعض المثقفين والأخلاقيين لا تبرهن إلاّ على نقصان الجدّية في تعليمهم، نظرا لأن [تعليمهم] لم يُمكّنهم من الوعي بمَحدوديتهم ونفاقهم (فِرّيسيّتهم)». هذا الصنف من الردود تعجّ بها كُتبه ومقالاته طوال حياته الفكرية.
پوپر لا يلتقي مع هايدغر في التمسّك بأسس الديمقراطية، بل في العداء للعلوم الصحيحة وللعقلانية الوضعية. لقد أثنى على نفسه مدّعيا بأن الفضل في قطع رأس فلسفة الوضعية المنطقية لمجموعة فيينا، يعود إليه هو بالذات. لكن الكثير من مؤرخي الفلسفة شكوا في هذه المعلومة؛ فمعارضته لمجموعة فيينا لم تكن من الجدّة والتفرّد بحيث أنها تستحق هذه الإشادة الذاتية. ومجمل نقده كان مركّزا على منهج الاستقراء، وهو الركن الأساسي في منهجية الإكتشاف العلمي. انتقاداتها للإستقراء أفضت به إلى معارضة أي رأي يقول بإمكانية التوصل إلى حقائق علمية ثابتة، وفي هذا الشأن فإن پوپر، كما قدّمتُ أعلاه، سقط في نفس الشناعة التي لفقها على كاهل أفلاطون: « أنا أستخدم عبارة الجوهرانية المنهجية لوصف التصوّر، الذي اعتمده أفلاطون والعديد من أتباعه، من أن مهمّة المعرفة المحضة أو "العلم" هي اكتشاف وإدراك الطبيعة الحقيقية للأشياء، يعني واقعها الصميمي أو ماهيتها». قد يكون هذا هو النص المحوري الذي اعتمده فاتيمو في تحليله أعلاه، وهو في حقيقة الأمر يُصوّر ابستيمولوجيا پوپر الريبية: ابستيمولوجيا ليست فيها يقينيات البتة، وخالية من مطلب الحقيقة. لقد اعترف هو نفسه بهذا المنعرج الريبي المدمّر وقال: « ثمة اتهام آخر كثيرا ما يُوجّه ضدي...أعني اتهامي بأنني ارتيابي»، لكنه لم يفعل شيئا لدحضه، هذا إن لم يعمل على ترسيخه بقوّة. الديناميكية العلمية، لا تسير بحسب نمط تراكمي، بل هي سلسلة لا متناهية من التكذيبات المُتتالية، إلى درجة أن تاريخ العلم يغدو كما قال جيمس وارد (J. Ward) « مَقبَرة نظريات علمية». ليس هناك يقينيات البتّة وإنما توجد مشاكل مطروحة للحل لا نخلص منها إلاّ إلى مشاكل أخرى وهكذا دواليك: « العلم يبدأ بمشاكل ذات علاقة بتفسير سلوك بعض جوانب العالم أو الكون. الفرضيات القابلة للتكذيب يقترحها العالم من حيث هي تُقدّم حلولا للمشكل. وبعد ذلك يتمّ نقد التنبؤات واختبارها. فسرعان ما يتم اقصاء بعضها بينما يبدو البعض الآخر أكثر نفعا. وهذه الأخيرة ينبغي اخضاعها لنقد أكثر صرامة ولاختبارات. وعندما يتم تكذيب فرضية اجتازت بنجاح جهازا من الاختبارات الصارمة، يظهر مشكل يُؤمَّل فيه أن يكون بعيدا جدّا عن المشكل الأصلي الذي تمّ حلّه. وهذا المشكل الجديد يؤدي إلى صياغة فرضيات جديدة يتلوها النقد والتجريب مجدّدا. ولا يُمكن أبدا أن نقول عن نظرية بأنها صادقة حتى وإن اجتازت، ظافرة، اختبارات صعبة. إنما يمكن أن نقول، دون أن نجانب الصواب، بأن نظرية حالية تتفوّق على النظريات التي سبقتها، بمعنى أنها تستطيع مواجهة الاختبارات التي كذبت تلك التي سبقتها».
لقد صرح پوپر، وأعاد تصريحه في العديد من مؤلفاته، بأنه استمد قناعته المعارِضَة لما أسماه بالجوهرانية المنهجية من مطالعته العميقة لكتب الفيلسوف الألماني عمانويل كانط، ومفادها أن القوانين العلمية التي يكتشفها العالم ليس لها وجود في الواقع الخارجي وإنما هي مجرّد إسقاطات لقوالب ذهنية إنسانية على الطبيعة، ولا تكشف فعلا عن الأشياء في ذاتها.
پوپر يُعارض ما أسماه بالجوهرانية المنهجية، أي تلك النظرية التي ترى أن مهمّة النشاط العلمي هي الكشف عن ماهيات الأشياء ووصْفِها عن طريق تعريفات ثابتة، بنظرية أخرى في الطرف النقيض منها، أي بما دعاه "الإسمية المنهجية": « عوضا عن إرادة اكتشاف ماهية الأشياء الواقعيّة وتعريف طبيعتها الحقيقية، الاسمية المنهجية تضع هدفها في وصف كيفية تصرّف شيء ما في ظروف مختلفة، وخصوصا، معرفة هل هناك انتظام في تصرّفه. بعبارة أخرى، الاسمية المنهجية ترى أن مهمّة العلم هي توفير وصف للأشياء والحوادث التي تقع تحت تجربتنا واعطاء "تفسير" لتلك الحوادث، يعني رسمهما بمساعدة قوانين كلية. وهي تعتمد على نظام لغتنا، وخصوصا على القواعد اللغوية التي تميّز الجُمَل وتبيّن الاستنباطات المستَخرَجة بدقة من مجرد كومة بسيطة من الكلمات، من حيث أنها الوسيلة الكبرى للتفسير العلمي؛ فالكلمات طبقا لهذا الطرح تغدو وسائل مساعدة مرتبطة بهذه المهمة، عوضا عن أن تكون أسماء ماهيات».
إذن، عوضا عن الأحداث العينية ومحاولة استقرائها عن طريق الملاحظة والتجربة للوصول إلى حقائق علمية ثابتة، الباحث عليه أن يكتفي فقط بالوصف التقريبي مستخدما الكلمات المُجمَع عليها، لأن النظريات العلمية هي مجرد اصطناعات اعتباطية مفروضة من طرف الذاوات العارفة ومحدودة بنظرتهم للعالم، وهي على كل حال نظريات في طريقها إلى التكذيب، وإن لم تكن قابلة منذ البداية للدحض والتفنيد فهي ليست بنظريات علمية: مجرد استيهامات خارجة عن مجال العلم، وبالتالي فهي إيديولوجيا مثل الماركسية أوالتحليل النفسي.
إن هذه العدمية النظرية التي اخترقت تفكيره وغدت عنده كقناعة ثابتة غير قابلة للدحض، أدت به إلى التشكيك في مطلب الحقيقة العلمية، الشيء الذي استفز حذاق القوم من العلماء الذين يباشرون بالفعل دراسة الظواهر الطبيعة واكتشاف قاونينها. وهنا أقدم شهادة/اعترافا للعالم الكبير شرودنغر (Schrِdinger) تضرب في العمق ادعاءاته العلمية، وتبيّن أن الرجل لم يحز حتى في المجال الفلسفي على مصادقتهم. في رسالة بعث بها فايرباند (Feyerabend) إلى لاكاتوس (Lakatos) سنة 1974 قال له فيها: « أنتَ تقول بأن السيد كارل پوپر همّش إشكالية هيوم. هذا بالضبط ما قاله شرودنغر وكنتُ حاضرا حينما قاله. إنها حكاية جدّ مُهمّة. كارل كان يرغب في إهداء الطبعة الإنجليزية من "منطق الاكتشاف العلمي" إلى شرودنغر، وقد أعطاه الكتاب كي يقرأه وكان يريد بفارغ الصبر أن يعرف رأيه فيه. كارل كان جالسا في رواق الـ(Bِglerhof) يرتجف من الجزع، شرودنغر كان مُعكّر المزاج، جالسا في مطعم آخر بـ(Alpbach) [فقال لي]: " پوپر هذا! يعطيني كتابه المشوّش ويريد مني أن أمنحه الرخصة كي يضع اسمي على أول الصفحة. يقول بأنه توصل إلى نتائج بخصوص إشكالية هيوم؛ لكن ليس صحيحا، يُثرثر، يثرثر، يثرثر وكفى، وإشكالية هيوم دائما غير محلولة"».
پوپر لم يكتف بتبني تلك العدمية لنفسه، بل إنه نسبها أيضا إلى الفلاسفة اليونانيين القدامى وقرأ على ضوئها تاريخ الفلسفة برمّته. ثم كعادتها، فإنه تحيّز إلى الجانب الذي يوافق مساره الفكري ويتماشى وخياره اللاعقلاني. لقد أعجبه من سقراط خطابه الذي جاء في "الدفاع" حيث يقول: « الحقيقة هي أن الإله وحده هو الحكيم، وأنه يقصد بإجابته أن يبيّن أن الحكمة الإنسانية قليلة أو معدومة القيمة. عندما تكلّم عن سقراط، فقد استعمل اسمي على سبيل المثال، كما لو أنه قال " إن أحكمكم هو مَن، مثل سقراط، يعلم أنه بالمقارنة مع الحكمة الحقيقية، فإن حكمتكم لا قيمة لها». أو الأخرى التي أوّل فيها قولة العرافة بأن سقراط أعلم من الآخرين لأنه "يعرف أنه لا يعرف".
لكن هذا القول لا يُبرهن على أن صاحبه يَتبنّى مواقف ريبية تامّة، لأن سقراط يَعلَم الكثير من الأشياء ومتيقن منها، أو على الأقلّ مُتيقن من نجاعتها العملية. المثال المضادّ لپوپر يُمكن استمداده من أقوال سقراط الصريحة، حسب ما أورده عنه أفلاطون في محاورات الشباب، حيث يتبنّى هذه الحقيقة الأولية التي شيّد عليها كل فلسفته: الفضيلة هي العلم. ما كان لسقراط أن يتفوّه بهذا القول وأن يَصمد على فكرته هذه لو أنه فعلا تشبث بمدإ "أنا لا أعرف شيئا، أو لستُ متيقنا من شيء". فعلا، لو لم يكن لديه يقين تام بأن العلم  يساوي الفضيلة وبأن هذه الفكرة تُعبّر عن حقيقة أوليّة لأصبحت حياته برمتها كارثة: بما أنه جاهل فهو فاقد للفضيلة، وبالتالي فإنه فاقد لأسباب السعادة. كيف يمكن لسقراط ، إذن، أن يكون مقتنعا بامتلاك كليهما (الفضيلة والسعادة) وهو لا يعرف شيئا في هذه الدنيا؟
أنا متأكد من أن سقراط ليس هو بالصورة العدمية التي رسمها له پوپر، فهو على الأقل يمتلك حدّا أدنى من اليقينيات التي لم يَتخلّ عنها طوال حياته، والبعض منها كان محدّدا في مسار حياته الفكرية والعملية، مثل اقتناعه الشديد من أنه لا يعرف الأشياء الغيبية، ولكنه بالمقابل فهو يملك معرفة إيجابية مبنية عن قناعة صادقة، ومفادها أن: « الجور والتمرّد على مَن هو أفضل منّي، إن كان إلاها أو إنسانا، هو أمر خبيث وشرّير (الدفاع، 29ب 6 ـ 7)». وكما يُعلّق فلاسطوس (Vlastos) أحد إختصاصيي الفلسفة القديمة: « هذا المقطع فقط، منظور إليه في جوهره، قد يكون كافيا للبرهنة على أن سقراط يَنسب لنفسه مَعرفةَ حقيقةٍ أخلاقيةٍ ما». لكن پوپر افتتن بالأطروحة النقيض، أي باعتراف سقراط بالجهل، على الرغم من أن الفيلسوف اليوناني اعتبر حالة من هذا القبيل منبعا للشرّ في الإنسان، وحائلا دونه ودون تحقيق الفضيلة ونيل السعادة.
لقد جعل پوپر من هذه الأطروحات التشكيكية في قدرة الإنسان المعرفية محور فلسفته، وسنرى كيف أنها أنقذته، في نهاية المطاف، من مفاراقات عَمَلية وسياسية رهيبة. فعلا، حسب رأيه: « حَدسُ سقراط حول لا معرفتنا ... له معنى عظيم». ولكن أوّل مَن همّش فلسفته وخرج عن طاعته، هو تلميذه أفلاطون الذي « تَخلّى عن أطروحة سقراط حول عدم معرفتنا وضرورة التحلّي بالتواضع الفكري، الذي نصح به سقراط. فسواء بالنسبة لسقراط أو أفلاطون، كلاهما يفترضان في رجل السياسة أن يكون حكيما؛ لكن "حكيما" يعني لكل منهما شيئا مختلفا للغاية. فحكيم بالنسبة لسقراط يعني أن رجل الدولة يجب أن يكون واعيا بلامعرفته؛ بالنسبة لأفلاطون يجب أن يَتمَرّن بعمق وبأعلى درجة: يجب أن يكون فيلسوفا متمرسا».
إذن، الكل يُرَدّ إلى مواقف شخصية، والنصيحة هي ضرورة التحلي بروح التواضع في ادّعاء المعرفة. فنظرية العلم، بالنسبة لپوپر، لا ينبغي أن تتموقع في حقل النظر المتفائل، أي تلك التي تزعم قدرة الإنسان على معرفة العالم، ولا هي من باب التشاؤم، أي عدم إمكانية المعرفة إطلاقا؛ مثاله الابستيمولوجي يكمن بين الطرفين، ولكنه منحاز إلى الجانب الريبي التشاؤمي أكثر منه إلى الجانب المتفائل. لقد عبّر عنه، حسب زعمه، فيلسوف يوناني عاش منذ ألفين وخمسمائة عام، وهو كسينوفان الذي قال: لا نملك أي معيار للحقيقة، أية معرفة أكيدة؛ ومع ذلك نستطيع البحث، وبمُرور الزمن يمكننا أن نعثر على ما هو أفضل.
كما يلاحظ القارئ، پوپر يتفادى ذكر كلمة الحقيقة بمعناها الإيجابي؛ لا يقول بأن بعد البحث نحصل بالفعل على حقيقة ما، بل على ما هو أفضل، ولا ندري أفضل من ماذا، وهل هناك معيار موضوعي نقيس به الأفضلية. من الواضح، كما يقول أحد الفلاسفة الإيطاليين، أن باتّباع منهج بحث من هذا القبيل « فإنه لا مكان اطلاقا حتى لفكرة الوصول إلى "اكتشاف" يَخلص إلى معرفة علمية».
لستُ أدري ماذا تُقدّم هذه الابستيمولوجيا من مواساة للباحث، وهل أنها تبثّ في العارف روح الفضول النظري والإقدام على دراسة الطبيعة إن وَضَع في ذهنه مسبقا، أنه متعذر عليه الحصول على حقيقة ثابتة. البديل الوحيد الذي يمكن تقديمه على أنقاض القناعات العلمية، هو الاعتباط الشخصي، أو على أحسن حال التخمين الذي لا يصل إلى نتيجة نهائية. منطوقات الملاحظة، أو ما يمكن تسميته بالقاعدة الامبيريقية التي يُبنى على أساسها أي تنظير علمي، هي نفسها يعتريها الاعتباط « إن قبولنا للمنطوقات الأساسية يترتب عن قرار أو اتفاق، وبهذا الاعتبار تكون هذه المنطوقات مواضعات». وهذه الصفة التي يضفيها على العلم قد شدّت انتباه النقاد الذين رأوا فيها نوعا من التناقض مع المقدمات. يقول شالمرز: « إن الاهتمام الذي يُوليه پوپر لقرارات الأفراد الواعية، لَيَحمِل عنصرا ذاتيا في تضادّ مع الصفة اللاحقة التي سيخصّ بها العلم واصفا إياه بأنه: "فعل من غير فاعل"».
رغم كل الضمانات التي حاول تقديمها، فإن نتائج الاكتشافات العلمية، بالنسبة لپوپر تبقى، على كل حال، نسبية بل إن العلم ذاته هو بناء وهمي بلا قرار: « إن القاعدة الاختبارية للعلم الموضوعي لا تشتمل، إذن، على أي شيء مطلق. فالعلم لا يقوم على قاعدة صخرية صلبة. فالبنية الجريئة لنظرياته قائمة، إن شئنا، على مستنقع. إن العلم كالبناء المشيّد على أوتاد؛ والأوتاد مغروزة في مستنقع، دون أن يصل انغرازها إلى حدّ اتصالها بقاعدة طبيعية ما، أو "بمعطى" ما. وإذا كنّا نكف عن غرزها أكثر، فليس لأننا مقتنعون بأنها من الثبات بحيث تستطيع حمل البناء مؤقتا على الأقلّ».
لكن، من وجهة نظر تاريخية، هذه الأطروحة تمسّكت بها كل التيارات المؤمنة من الفلاسفة المسيحيين في عصر انتشار الفلسفة الوضعية التي سادت القرن التاسع عشر. لقد حاولوا التصدي للحقائق العلمية ومعاندة الروح الوضعية المصاحبة لها، لانقاذ التعاليم الدينية وتأمين ترسانتها الأسطورية من الاندثار النهائي. فتحصّنوا وراء هذه السفسطة، وهي أن العلم لا يملك أي أساس موضوعي، وقوانينه لا تنفذ إلى جوهر الأشياء. ويكفي الاطلاع على أطروحات معاصريه من أمثال بوانكاريه (Poincaré)، ميلهو (Milhaud)، دوهيم (Duhem) برغسون وغيرهم حتى نتأكد من ذلك. لقد تفطّن آنذاك الفلاسفة العلمانيون إلى البعد الجدالي الديني من أطروحات أولئك المفكرين، وجابهوهم على الأرضية النظرية أوّلا، فالعَمَلية ثانيا. وقد انصبّ نقدهم على تصوراتهم للنشاط العلمي، خصوصا الفيزيائي حينما أدخلوا فيه عنصر المواضعة، واختزلوه إلى مجرّد انشاءات حرة لنسق رياضي منسجم لا علاقة له بالواقع الطبيعي. فهذا دوهيم مثلا يقول بأن: « في الفيزياء من المستحيل ومن غير المُجدي لنا معرفة التكوين الحقيقي للمادة. نحن نحاول فقط انشاء نسق مجرد يعطينا صورة عن خاصيات الجسم». لقد أشار آبل راي (Abel Rey) في مراجعته النقدية لأفكار دوهيم أن تعريفاته للطاقة، لكمية الحرارة، للتغيرات الديناميكية، مُقدَّمة من قِبَلِه « كما لو أنها مواضعات مُنزّلة اعتباطيا من طرف الذهن، دون أن يرجع هذا الأخير إلى التجربة». فمصادرات الديناميكية الحرارية، مبدأ حفظ الطاقة، ومصادرة كارنو (Carnot) أدخلها في تصوراته الفيزيائية كما لو أنها مُستنتَجة تحليليا من هذه المواضعات العامة. المصادرات والتعريفات تنتظم على شكل سلسلة من المعادلات الرياضية ولكن دوهيم، كما يعترض ناقده « لا يُقدّم أبدا ـ ويجب التأكيد على هذا، فهو القاعدة ذاتها للتصوّر العلمي بالنسبة لعالِمِنا هذا ـ التعبيرات الرياضية التي يقترحها على أنها تفترض كمّيات واقعيّة مُستمَدّة من طبيعة الأشياء، كضرورات مفروضة من بنية الموضوع». العلم الحقيقي يتردّى إلى قوالب رياضية فارغة أو، كما وصفها راي (Rey)، أصبح مجموعة من الإطارات ذات الأحجام المختلفة لِلَوحات يَضعُها الرسّام على جهة، ريثما يُصوّرها في وقت لاحق. إنه أمر غريب أن تؤول مُجمل القوانين الفيزيائية والنظريات العلمية إلى شكلانية فارغة دون أن تأخذ بعين الاعتبار التجربة والواقع الخارجي. فنظرة دوهيم للنشاط العلمي تتنزل في إطار استحداث قوالب صورية يلعب فيها الاعتباط الدور الرئيسي، بل هو مركزها ونقطة تمفصل عناصرها: « المَسلَك المُتّبَع يعتمد فقط على المواضعة، والمواضعة تعتمد على اختيار العالِم». لقد وجد الرجل نفسه في مأزق لأنه قال بأن هذا الإعتباط الذي يلف الفرضيات الأولية لا يعني السقوط في التناقض، إنه اعتباط عقلاني، دون خلف ودون معضلات. لكن الاعتباط موقعه في نقطة البداية؛ في رأس النسق، من حيث الاختيار الحرّ؛ فقط بعد الانتهاء من انشاء النسق ذي المقدمات الاعتباطية يُسمح بمقارنة النتائج بالتجربة. إنها مجرد شكلانية رياضية "formalisme mathématique"، هذا هو النعت المناسب لنظريات دوهيم، شكلانية انحدرت إلى مستوى لعبة رموز رياضية خالية من أي مضمون تجريبي. لكن دوهيم يزعم بأن في نهاية هذه العملية، يتم الرجوع إلى الواقع العيني للتحقق، قدر الإمكان، من مدى اقتراب النسق الرياضي المجرد منه. الاعتراض هو: ما المغزى من استحداث شبكة اعتباطية من الرموز المجردة تضاعف مجهود العالم عوضا أن يكتفي بالمرجعية التجريبية؟
قاعدة التكذيب التي استحدثها پوپر هي خلف لا يفيد في شيء: فعلا لقد أنزل هذه القاعدة المابعدية على تاريخ العلم، بصورة غير مشروعة، بحيث أنه سقط في دور منطقي وخلف زمني. لا يمكن للنظريات أن تُكَذب بكيفية مُقنِعة، لأن منطوقات الملاحظة التي تشكّل قاعدة التكذيب، يُمكن أن تغدو هي نفسها خاطئة في مرحلة تالية. فالمعرفة السائدة في عهد كوبرنيك، لا تسمح بنقد وتكذيب استقرار الأبعاد الظاهرية لكوكبي المريخ والزهرة، ولذلك، فإن التكذيبات المُقنِعة « لا يمكن أن توجد، لكون قاعدة الملاحظة المضمونة التي تتوقف عليها، غائبة». ولو كانت صادقة أطروحة پوپر في التكذيب، لتخلى العلماء منذ الوهلة الأولى عن حساب التفاضل والتكامل في الرياضيات، إثر النقد المدمّر الذي وجهه إليه باركلي، ولتخلوا أيضا عن نظرية نيوتن، لكونها لا تستطيع تفسير ظاهرة تزحزح مسار كوكب عطارد. بل لو كان التطوّر العلمي يسير طبقا لقواعد بوبر لَما كتب الفيزيائي بُوهر (Bohr) مقاله لسنة 1913، نظرا لأن خلاصته مبنية على النظرية الكهرومغناطيسية لماكسويل. النتيجة التي نستطيع استخلاصها من تاريخ العلم تَذهب رأسا ضدّ مبدأ التكذيب، وهي أنه يُمكن لأي نظرية علمية ما، أن تكون، دائما، في مأمن من التكذيب، وذلك بتحريف اتجاه التكذيب نحو جزء آخر مختلف تماما من أجزاء عقدة مركّبة من الفرضيات.
التكذيب محال، كما قال لاكاتوس (Lakatos): فهو اصطناعُ أنساق اعتباطيّة على شكل أَسِرّة بروكوست لإرغام الواقع وتطويعه. إنه صيغة جديدة من التحالف المقدّس بين اللاعقلانية البراغماتية لجيمس (James) وإرادوية برغسون، حتى وإن راوغ صاحبه وأراد الجمع بين الأداتوية، أو المواضعة، وبين ضرورة التجريب. في نسق من هذا القبيل، وكما بينّا من قبل بخصوص مواضعية دوهيم، التجريب لا يلعب أي دور حاسم، فالعامل الأول والأخير هو الإرادة والاعتباط الحرّ. هذه الأطروحة تُجمّع في ذاتها كلّ العناصر الايديولوجية التي تقف عليها التيارات اللاعقلانية في الفلسفة الفرنسية، وپوپر تبنّى خلاصتها، ويَعرضها علينا كما لو أنه أتى بالشيء الجديد. لم يحدس الأمر على حقيقته آنذاك إلاّ راسل الذي لخّص نقده للتيار اللاعقلاني، بقوله إنه بقدر ما تَصعد الإرادة في سلّم القيم بقدر ما تنزل المعرفة. هذه، حسب رأيه، هي أبرز التغيّرات التي طالت طبيعة الفلسفة في وقتنا الحالي.
منطق الكشف العلمي، كما قلت سابقا، يَغيب فيه مطلب الحقيقة، فمعيار الفصل بين العلم واللاعلم الذي زعم تقديمه ، يبدو، كما وصفه لاكاتوس، أفقر من كل المعايير السابقة. فمعظم العلماء منذ القديم يرون أن غاية العلم هي معرفة نظام الكون، وكل اكتشاف جديد هو لبنة تُوضَع في صرح المعرفة، وخطوة موصلة إلى الهدف أي امتلاك معرفة حقيقية بالعالم. لكن ـ يتساءل لاكاتوس ـ« ما هو هدف "لعبة العلم" عند پوپر؟» لعبة العلم، كما هو معروف من منهج الاستقراء، مرتبطة شديد الارتباط بالهدف المعرفي وتابعة له. إلاّ أن « في فلسفة پوپر هذا الرباط يبدو أنه قد قُطِع. فقواعد اللعبة، والمناهج، تَسِير إلى الأمام بِأرجُلها؛ لكن هذه الأرجُل تتأرجَح في الفراغ دون سند فلسفي». لقد حلّ معضلة الفصل بين العلم واللاعلم بضرب منهج الاستقراء، مدّعيا أن اللعبة، لعبة العلم، خالية من أي هدف؛ فهي لعبة مكتفية بذاتها، بحيث عوّض الطموح الحقيقي الذي يصبو إلى غرض معرفي ما، بمجرّد الأمل في أن تكون الأشياء على هذه الشاكلة.
المؤكد جدّا هو أن هذا الرجل يرفض، بل يُدين بشدّة العقلانية المكتفية بذاتها، ويقول بالحرف إن « اللاعقلانية هي منطقيا أرقى من العقلانية اللانقدية»، ولقد توصّل إلى هذه النتيجة عن طريق حفنة من السّفسطة، مُقدّما صورة خيالية لعقلاني لا وجود له في الواقع، أي عقلاني دوغمائي يرفض مناقشة آرائه أو مراجعتها وتفنيدها. ليس من الصعب جدّا تحطيم نموذج إنسان من هذا القبيل، لأنه معدوم الوجود ولا يعدو أن يكون مجرد وَهمٍ مُختلق كلّه.
والغريب في الأمر أن پوپر يعمد في كثير من الأحيان إلى هذه التقنية دون التفطّن للخلف الثاوي وراءها: أعني نقض كيانات مصطنعة من محض خياله، مثل نقضه لنموذج التاريخانية الخاوية، كما هي خاوية النماذج المثالية التي قال عنها ماكس فيبر بأنها مجرد طوباوية.  السؤال، هو هل من المناسب أو من المجدي علميا، أن يشقى أحدهم للبرهنة على بؤس شيء طوباوي، شيء لا مكان له في العالم؟ ليس هناك من حالة ملائمة وصالحة، كتلك التي يُقدِم فيها شخص ما على دحض أشياء لا وجود لها. لكن الرجل حتى في هذا الشأن ومع كل التناقضات فإنه لم يفلح ـ كما حدث له مع أفلاطون ـ وسقط في نفس الفخ الذي أراد الخروج منه: لقد رفض أن تكون كتابة التاريخ لها زاوية مبجّلة تُرصد من خلالها موضوعية الأحداث، لأن العامل الشخصي واختلاف وجهات النظر الذاتية متكافئة، وبالتالي لا يمكن دحضها أو تفضيل إحداها على الأخرى بسبب درجة اقناعها. الخيارات المنهجية تعود، في نهاية المطاف، إلى محض إرادة الباحث وإلى رغبته الشخصية في إضفاء التاريخ معنى يختاره هو نفسه. لكن « أليست مفارقة هذه النتيجة (Ma non è paradossale questa conclusione?)» ـ يصرخ أحد المُفكّرين الإيطاليين ـ « أليست مفارقة أن نقدا للتاريخانية، وبالتحديد في أكمل أشكال تطوّرها التي يريد پوپر أن يعرضها، تؤول إلى واحدة من أكثر الأطروحات كلاسيكية للتاريخانية، أي النسبيّة المنهجية؟». 
3 ـ نقاط الإلتقاء بين الفيلسوفين: 
لقد أسقط پوپر نظرته العدمية هذه على مسار الفلسفة اليونانية، كما قلتُ سابقا، وقرأ تاريخيها على أساس أنه تراجع عن البذرة الأولى التي زرعها الفلاسفة السابقون لسقراط. وفي هذا المجال يلتقي هو وهايدغر في نقطة موحدة، أعني النظرة إلى تعاليم الفلسفة اللاحقة على أنها ديناميكية تقهقر، وانفصال عن مواقف كانت رائدة وسبّاقة في ابداع نظريات متقدمة؛ وهذه الحقيقة توصلا إليها هما (پوپر/هايدغر ) في القرن العشرين.
في كتاباته اللاحقة عمد إلى التلطّف نوعا ما بأفلاطون حينما اكتشف أن هذا الأخير في محاورة "طيماوس"، نفى اليقين العلمي عن المباحث الطبيعية واعتبر القوانين المستمدة منها، في أحسن الحالات، مُجرّد آراء شبه حقيقية، خالية من اليقين العلمي وغير معبرة عن حقيقة الأشياء في ذاتها.
لكن بعد سقراط وأفلاطون، لم يَبق من المدافعين عن حصون العقل، والمتفائلين بالعلم البرهاني وإمكانية التوصل إلى حقيقة ثابتة في ميدان البحث الطبيعي إلاّ أرسطو. لقد دَشن هذا الأخير قطيعة كبرى في المسار السّوي للفلسفة اليونانية، بحيث أنّ نظرته الابستيمولوجية تعكس، من الزاوية العلمية، صورة أفلاطون بالنسبة إلى سقراط، في الحقل السياسي. پوپر، بعجرفته المعهودة، يُصرّح بأنه لا يحبّ أرسطو، والسبب الأساسي هو أن أمير الفلاسفة « يَدّعي بأنه يعرف: يَعتقد بأنه مكتسب لعلمٍ، لمعرفة علمية قابلة للبرهان. هذا هو السبب الرئيسي الذي جعلني لا أحبّ أرسطو: ما كان بالنسبة لأفلاطون فرضية علمية أصبح عند أرسطو علما، معرفة برهانية. ومن ذلك الوقت غدا هذا التصور مُتَقاسَما من طرف أغلبية فلاسفة العلم الغربيين».
لكن بالنسبة لپوپر هذه أكبر خطيئة اقترفها أرسطو في حياته، أي ترويجه لفكرة أن الإنسان يستطيع الوصول إلى علم يقيني وبمقدوره، عن طريق ملكاته العقلانية والتجربة، أن يكتشف قوانين ثابتة ونهائية للطبيعة « لقد قطع أرسطو مع ذاك التراث المعقول الذي يرى أننا نعرف النزر القليل». هذه هي مساوئ فيلسوف العلم أرسطو، ولذلك فإن وصف الشاعر الإيطالي دانت (Dante) لأرسطو بأنه « مؤدب العارفين»، حتى وإن كان صحيحا، فهو لا يجعله يستأثر باعجابه « لأن المعرفة، بالمعنى الأرسطي، ليست في الواقع متاحة للإنسان». ما المتاح لنا إذن؟ أضغاث حقائق، مجرّد حثالة هزيلة من التخمينات القابلة للدحض والتكذيب في أي وقت؛ الرجل لا يملّ من تكرار هذه "الحقيقة العظيمة" التي عبّر عنها فلاسفة اليونان القدامى: « كسينوفان وسقراط (وأفلاطون أيضا، فيما يخص اشكاليات العلوم الطبيعية) هم على صواب حينما صرّحوا "بأننا لا نعرف؛ نحن نُخمّن فقط" ... أرسطو كان بالفعل أول دوغمائي حقيقي ـ وحتى أفلاطون، على الرغم من أنه كان دوغمائيا في السياسة، لم يكن كذلك في الابستيمولوجيا». الحل الأقوم، لتجاوز هذه الأزمة ـ وهو حل هايدغر أيضا ـ ضرورة العودة إلى فلاسفة ماقبل سقراط وإحياء عقلانيتهم النزيهة المتواضعة، على عكس عقلانية أرسطو المتعجرفة التي قضت على العلم النقدي الذي ساهم هو نفسه في تشييده.
غريب جدّا أن يتعامل المؤرخ الحديث أو أي مفكر ليبرالي مع الفلاسفة بمنطق الكره والمحبّة، أو أن يُقيّم أعمالهم بحسب قُربهم أو بُعدهم من نموذجه المعرفي. كان عليه أن يكتفي بمناقشة أرسطو على الأرضية الفلسفية البحتة وأن يترك مشاعره الشخصية، من كره ومحبّة، في قرارة نفسه. أعتَرفُ بعجزي عن هضم هذا الصنف من التفكير؛ إنه أمر مُخيّب للآمال أن يُصرّح هذا الرجل، دون الشعور بخطورة أحكامه المسبّقة، بكُرهه لأرسطو فقط لأن هذا الأخير اعتقد بإمكانية التوصّل إلى معرفة الكون. فهذا الحكم هو من النّشاز إلى حدّ أننا نستغرب من مأتاه، وفعلا لو لم يكن هذا الكلام صادرا من فيلسوف مثل بوبر لما توقفنا عنده، ولما ألزمنا أنفسنا عناء مناقشته ودحضه.
أرسطو على كلّ حال أنتج معرفة واكتشف حقائق علمية، ويكفي الاطلاع على أي مبحث من بحوثه العلمية، خصوصا البيولوجية منها، حتى يصيبنا الذهول من الدقة والصرامة التي تميزت بها أعماله. وما كان لأرسطو أن  يُقدِم على دراسة الطبيعة لو انطلق من فكرة أننا غير قادرين على معرفة الطبيعة، وأن النشاط العلمي لا يسمح بتراكم المعارف ولا يفيد في التوصّل إلى الحقيقة. التوجّه الابستيمولوجي لپوپر يسعى، في مقابل ذلك، إلى تحييد عامل التراكم المعرفي وإخراج الاستقراء من مجال البحث العلمي، لكن أرسطو، على الرغم من الوسائل البدائية التي اعتمدها، فإن جل اكتشافاته كانت نابعة من معاينة مباشرة للظواهر الطبيعية، ومن تطبيق للمنهج الاستقرائي. 
العالم الذي ينتهج منهج الاكتشاف على طريقة پوپر، أعني طريقة الفروض الاعتباطية، لا يتحقق في حياته من شيء، وبالتالي فإن النشاط العلمي لا يؤدي به إلى أي اكتشاف لحقيقة يمكن أن يركن أليها أو يُعلّمها للآخرين بصدق؛ كل شيء سراب ونحن مُتيقّنون فقط من لاعلمنا الدائم. أقول: لو كُتب لهذا الصنف من التفكير الرسوخ والثبات في التاريخ لما أنتجت الإنسانية علما ولما راودتها فكرة الانبهار أمام الظواهر الطبيعية، ولَهَوَت إلى حالة من البؤس الفكري لا مثيل لها. فعلا، لِمَ الكتابة والتنقيب والبحث، ونحن مضروبون في العمق بحالة من الجهل الدائم؟ ما الذي يرغمنا على التنظير العملي أو محاولة إصلاح الأوضاع الراهنة إن كانت السياسة تخضع، مثل العلم، إلى مبدأ الافتراض الاعتباطي؟  لن يتجرّأ أي أحد في هذا العالم أن يقول شيئا على يقين، أو حتى الالتفات إلى ظواهر الطبيعة لدراستها ومحاولة التعرّف على قوانينها.
أنا لا أكره هذا الرجل، ولا يعنيني منه إلاّ ما خَطّه من كتابات وما طرحه على الساحة الفلسفية من أفكار، أمّا العوامل الذاتية من سيرته فلا تهمّنا في ذاتها، ما عدا ذاك النزر القليل الذي استطاع تشريط منظوره وانتاجاته الفلسفية.
الليبرالي المتعصّب أدخل الاستياء في قلوب الليبراليين، لأنه نادى في آخر حياته بضرورة فرض المراقبة على البرامج التلفزية، وهو الأمر الذي ينافي إحدى الركائز الأساسية للنظام الليبرالي، ألا وهو حرية الصحافة ونزع فكرة الرقابة. الفلاسفة أيضا أصيبوا بخيبة أمل. لقد همّش الفلسفة: دخل في كلّ المعمعات الفكرية، من الابستيمولوجيا، إلى السياسة، فنظرية العقل، فالتاريخيانية، ثم أخيرا طلع عليهم بنظرية الحرب الدائمة، وضرورة نَشرِ الحرية والديمقراطية عن طريق القوة، والتي تلقفها منه تلاميذه الذين هم الآن يحكمون العالم.
 وأظنّ أن الرجل يَسخر من قرّائه، حينما يصف نفسه بهذه العبارات: « بما أنني واحد من آواخر المُتبقين من أتباع العقلانية والتنوير، فأنا أعتقد بالتحرّر الذاتي للإنسان عن طريق المعرفة». هذه صفعة أخرى في وجه القراء. أية معرفة هذه؟ وأية عقلانية؟ أرى أن مصطلحات پوپر لها معانيها الخاصة به هو وحده في تاريخ الفلسفة. فالتنوير الذي يقصده لا يعني التنوير المتعارف عليه؛ والمَعرفة التي يتبناها تختلف، إلى حدّ التناقض، مع المفهوم المتداول للمعرفة.
وحسب ما قدّمته سابقا، لا يمكن تفادي الرأي التالي، وهو أن پوپر لا تعزّ عليه المعرفة العلمية الكاشفة والمحرّرة، بل إن التصورات التي يروّج لها هي سحق للمعرفة في معناها الأكثر اجماعا بين المفكرين. وليس من الإجحاف في شيء القول بأن العقلانية التي يتبناها هذا الرجل هي مسخ للعقلانية: فهو يُعرّفها بطريقةٍ صحفية قائلا بأنها « ليست شيئا أكثر من القناعة بأننا نستطيع التعلّم من نقد أخطائنا وأغلاطنا، خصوصا، من النقد المُوجّه لنا من طرف الآخرين، وأخيرا، حتى من الذات». إنه خطاب غريب، هذا إن لم يكن هزيلا؛ أجرؤ القول، بأنه من صنف خطابات المقاهي، أو خطابات الهواة المبتدئين، لا يرقى إلى المستوى الفلسفي بتاتا. انظر إلى هذا التوضيح لمعنى العقلانية: « الموقف العقلاني يُمكن أن نقدّمه بالصيغة التالية: ربما أكون مُخطئا وأنت مُحقا، على كل حال كلانا يجب أن يتمنّى، بعد نقاشنا، رؤية الأشياء بأكثر وضوح مما كانت عليه من قبل، وعلى أية حال، كل واحد منا يمكن أن يتعلم من الآخر، فقط على شرط ألاّ ننسى أن الأهم ليس مَن لديه الحق، بل الوصول أقرب ما يمكن من الحقيقة».
رجل العلم لا يقبل بهذه العقلانية المتنكّرة لذاتها، ولا يعترف بهذا التواضع العدمي: حينما بعث العالم الإنجليزي ادنغتون (Eddington) في سنة 1919 إلى آينشتاين رسالة يُعلمه فيها بأن التجربة أكّدت ما كان قد تنبّأ به نظريا (انحناء أشعة النجوم في مجال جاذبية الشمس)، لم يَصطدم آينشتاين بهذا الخبر لأنه متيقّن من أن الظاهرة على ما وصفها هو. فلنتصوّر آينشتاين وعلمه وعقلانيته على الشكل الذي رواه پوپر: ربما أكون على خطأ وأنتَ محق، أو العكس، أليست هذه بالفعل كاريكاتور العقلانية العلمية؟
4 ـ من المعرفة إلى السياسة:
لا يخفى على أحد أن الصورة التي رسمها پوپر للعقلانية وللمعرفة الإنسانية ككلّ، تحمل في ذاتها سمات عدمية تشكيكية، ولكن إن بقيت مغروسة في مجال الابستيمولوجيا البحتة، لما استوقفتنا طويلا، لأنها رائجة ومعروفة في تاريخ الفلسفة. إلاّ أن خطرها الأكبر يكمن أساسا في تأثيرها السلبي على الحياة السياسية، وخصوصا على تصوّر مواصفات رجل السياسة والشروط اللازمة للمسك بزمام الحكم. لقد وصف الفيلسوف الإيطالي فاتيمو موقف پوپر من رجل السياسة دون أن يتفطّن إلى المخاطر الثاوية فيه، بل إنه عمل على تزكيته وتأهيله. لكن يكفي أن يُعمِل أحدنا حسّه النقدي حتى يحدس مدى خطورة تحاليله السياسية واستتباعاتها السلبية في المجال العملي والتي يمكن استمدادها من صريح أقواله المبثوثة في العديد من محاضراته حول العالم. في احداها التي ألقاه بإيطاليا، يقول: المستقبل مفتوح؛ المستقبل يعتمد علينا جميعا، اليوم وغدا وبعد غد. وكل ما نفعله يعتمد بدوره على أفكارنا، وتمنياتنا، ومخاوفنا، وبالجملة يَتوقّف على نظرتنا للعالم، وعلى كيفية تقييمنا للإمكانيات المتاحة لنا في المستقبل. كل هذا يعني أننا جميعا نواجه مسؤولية كبرى، وهذه المسؤولية تصبح أعظم كلما أدركنا « حقيقة أننا لا نعرف شيئا؛ أو نملك نزرا قليلا إلى درجة أننا مبرّرون في تعريف ذاك القليل بأنه "عدم". لأنه لا شيء بالمقارنة مع كل ما يجب علينا معرفته لكي نأخذ القرارات الصائبة».
أول من تفطن إلى هذه الحقيقة هو سقراط، الذي قال بأن السّياسي يجب أن يكون حكيما، ـ حكيما جدا إلى درجة وعيه التامّ بأنه جهول لا يعرف شيئا. لكن أفلاطون أدخل بدعة في السياسة، حينما قال بأنه يجب على رجل السياسة أن يكون حكيما، أي أن الملوك عليهم أن يصبحوا فلاسفة أو أن يذهبوا إلى مدرسة الفيلسوف، أي مدرسة أفلاطون لتعلّم الجدل الأفلاطوني. لقد خرج أفلاطون عن السبيل القويم الذي خطه سقراط: « القاعدة التي تقول: "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" بالنسبة لأفلاطون تعني أن الفلاسفة المتعلمين يجب أن يستأثروا بالسلطة السياسية ـ ومن هنا إدعاء الهيمنة السياسية من طرف العلماء، المثقفين، النخبة. وفي الطرف النقيض من أفلاطون، نفس هذه القاعدة "رجل السياسة يجب أن يكون حكيما" تعني عند سقراط أن رجل السياسة يجب أن يعرف القليل مما يعرف؛ وبالتالي يجب أن يكون على غاية التواضع في مطالبه ... هذا هو موقف سقراط، هذه هي حكمة سقراط "اعرف نفسك ، واعترف لِنفسك بجَهلك"».
أقول، دون أن أتجنى على أحد: هذا الحاكم الجاهل؛ هذا الحاكم الذي لم يدخل قط مدرسة الفلاسفة، لا يعرف التاريخ ولا الجغرافيا، ولا أبجديات السياسة؛ هذا الرجل الذي لا يملك من "فضيلة" إلاّ الجهل، موجود ومتمظهر أمامنا وهو الفاتق الناطق في العالم الآن، أعني جورج بوش. بعد أن تربّع هذا الرجل على سدّة الحكم، البشرية تجرّب الآن على كاهلها نموذج الحاكم الذي يطمح له پوپر. والجميع قادر على رؤية المنعرج الذي آلت إليه الأحداث العالمية في يد هذا الحاكم الجاهل، ومقدرته على التسبّب في كوارث قد تؤدي إلى فناء الإنسانية جمعاء.
البداهة السقراطية هي هذه: الجهل هو العدوّ الأكبر للإنسان، والمعرفة العلمية هي المخلص الأكبر للإنسان. أنا لا أعيب على پوپر آرائه العدمية هذه، بل أحاول مناقشتها وتعريتها، ولكنني أتساءل كيف يَنظمّ مفكر يساري مثل فاتيمو إلى هذه النظرة الرجعية؟ أتعجّب كيف يصادق على أطروحات من هذا القبيل دون أن يرى استتباعاتها، أو حتى يَستشعر مخاطرها العملية المباشرة.
كارل پوپر يلتقي مع هايدغر في نقطة أخرى، ألا وهي التمجيد المفرط للغرب، واستخدام عبارات نابعة من صلب القاموس الشوفيني. وأظنّ أن المُنظّر اليميني المتطرّف هانتغنتون، الذي طلع على الناس بفكرة صراع الحضارات وأصبحت الآن حصان طروادة في يد بوش وأتباعه، لم يأت بالشيء الجديد لأن پوپر كان قد سبقه إليها منذ سنين. فالرجل مقتنع أشد الاقتناع من أن « الحضارة الغربية...هي الأكثر تحررا، هي الأكثر عدلا، هي الأكثر إنسانية، هي الأفضل من بين كل ما عُرف من حضارات عبر تاريخ البشرية كلّه. إنها الأفضل لأنها الأكثر قابلية للتحسين». هذه القناعة متّصلة ودائبة عند پوپر ولم يتخلّ عنها اطلاقا، بل إنها زادت من حدّتها في سنواته الأخيرة خصوصا بعد تذوّقه نشوة انهيار الاتحاد السوفياتي، وبداية الهجمة على العراق ومنها على العالم العربي الاسلامي. ومَن اطّلع على نصوصه التمجيدية للغرب فكأنه يقرأ افتتاحية ماكس فيبر لكتابه "البروتستانتية وروح الرأسمالية". كل شيء نبع من الغرب وأفضل ما في هذا العالم، من قيم أخلاقية، ومن علوم وتنظيمات سياسية، صدرت منه وبقيت فيه. تلك هي الحال أيضا عند پوپر: « حضارتنا الغربية وحدها هي التي اعترفت على نحو واسع بالمطلب الأخلاقي للحرية الشخصية، بل وحقيقته إلى حدّ كبير، وبمطلب المساواة أمام القانون، وبمطلب الحرية، وبمطلب ألاّ تستخدم القوة إلاّ في أضيق الحدود. هذا هو السبب في أنني أعتبر أن حضارتنا الغربية هي الأفضل حتى الآن...إذا وضعنا كل شيء في الاعتبار، فإنها الحضارة الوحيدة التي يتعاون فيها كل الناس تقريبا لتحسينها، إلى أقصى مدى ممكن».
بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، (وأركّز على كلمة الشوفيني العنصري، لأن پوپر مرّة أخرى استبق، أو قد يكون قد فتح الباب أمام أرذل أنواع العنصرية التي رأتها أوروبا القرن الواحد والعشرين، كالتي نجدها مثلا عند الصحفية الإيطالية، أوريانا فالاتشي، التي سبّت المسلمين وقذفتهم بأفضع النعوت، وقالت مثل پوپر بأن الحضارة الغربية هي أرقى الحضارات في العالم)، بالاضافة إلى هذا التمجيد الشوفيني، فإن پوپر وجد أعداءه في الداخل من بين المثقفين اليساريين أو ذوي النزعة الكونية المعادية للاستعمار. وبخصوص هذه النقطة بالذات، فإن الرجل زاد من حدّة انتقاداته وتجاوز، حقا، حدود اللياقة الفكرية والذوق الأخلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

مناهج البحث العلمي وأسس الفكر الليبرالي عند كارل بوبر - محمد المزوغي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» لمنهج العلمي عند كارل بوبر
» الفكر المحظور: في التلقّي العربي لفلسفة كارل بوبر
» قراءة لفكر كارل بوبر الفلسفي السياسي بكيري محمد أمين
» إشكالية المنهج التاريخي من منظور كارل بوبر
» قراءة في كتاب بؤس الايديولوجيا – كارل بوبر ادارة الموقع

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: