2011-10-09 تجلّي المحدّد: قراءة في محدّدات العقل السياسي العربي برؤية الجابري
|
| |
يختلف
تناول الموضوعات المتعدّدة القابلة للبحث دون إعارة أدنى اهتمام إلى
موضوعة البحث داخل سياقاتها التّاريخية التي تتطلب الإلمام بتاريخية
الموضوع، لكن الأولى من ذلك هو تتبع تطوّر حركة الموضوع في التاريخ،
فتاريخية الموضوع تختلف اختلافا جذريا عن حركته في التاريخ.
عند هذه الإضاءة يتأسّس البحث في جوهر العلاقة المكانية في مكة المكرمة
بكافة عناصر حركتها مع الرّؤية التنقيبية والتفكيكية لمستوياتها الحركية
في الزّمن، وهو ما يتطلب من الباحث الاقتراب من المكان حتى يقف على حركة
تطوّره التاريخية التي تجعل التحليل الفكري يتأسّس كما هو الحال بالنّسبة
لمكة، وتلك أحسبها خصوصية مكية، عند عتبة التفاعل الوجداني والعقلي مع
المكان، فالفاعل الفكري في أحضان مكة يتحرّك ضمن خطاطة تاريخية تتشكل على
النسق التالي:
إستعادة التاريخ واستئناس ومعايشة له وتطلع مستقبلي.
قراءة في الرّؤية الجابرية وحركة الأفكار في التاريخ:
لعل بعض أفكار الرّاحل محمد عابد الجابري تتمحور حول موضوعة الابتعاد عن
قراءة المفاهيم التاريخية في إطار حركتها في التاريخ، حيث يتطلب ذلك
الحضور في المكان، من باب الشهادة على التطور الزّمني الذي تتشكل في غضونه
المفاهيم وفق حركتها في التاريخ، وهو ما تتجاوزه الدّراسات التي تعتمد
المادّة المكتوبة كعنصر جوهري في العملية الحفرية، وإن كان ذلك من أساسات
البحث، إلا أنّه لا يمثل إلا عنصرا من ضمن عناصر أخرى، وإغفال أنثربولوجية
البحث تُفقد الجانب المعرفي واقعيته المرتبطة بحركة الأشخاص والأفكار في
التّاريخ، فالأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس لم يكتف بالنظريات
الفلسفية المجرّدة والبعيدة عن الواقع الاجتماعي، بل سافر إلى البرازيل
ودرّس علم الإجتماع هناك وعاش بين السّكان الأصليين (الهنود)، فكان يرى
مظاهر الحركة في المكان (ثقافة، عادات، تقاليد، علاقات اجتماعية..) من
خلال حركة الهنود ذاتهم لكن تبعا لما تحرّره في ذهنه من نظريات وأفكار
ورؤى قابلة للإسقاط على الواقع الحركي في انبثاقاته التاريخية ذات الأبعاد
الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
وتبعا لذلك تمثلت العقيدة والغنيمة والقبيلة في فكر الجابري كعناصر منعزلة
عن حقيقة انبثاقها الأوّل السوسيوـ ثقافي، حيث تأسّست ضمن شروط تاريخية
معيّنة، تختلف اختلافا جذريا عن المفاهيم الحديثة التي دعا الجابري إلى
ضرورة تحوّل العناصر التراثية إليها، وهو ما يركِّز الاعتقاد في أنّ
النتائج البحثية كانت محسومة سلفا، لأنّه في المعيار النّقدي العلمي،
تُرتَّب المفاهيم وفق ظروفها التاريخية وحركتها في التاريخ، دون قياس معنى
المتقدّم على مبنى المتأخّر، وهو ما سقط فيه الجابري حيث قرّر سلبية
المفهوم التراثي بناء على إيجابية متداول المفهوم الحداثي، فالتحوّل الذي
يدعو اليه في مفاهيم العقيدة والقبيلة والغنيمة يكشف عن عملية لا واعية في
تمثّلات التداخل بين العرف التراثي والدّسترة الحديثة، فالمجتمع العربي
كان يحكمه العرف الذي استمر حتى أصبح مصدرا من مصادر التقنين في ما بعد،
وهو لا ينفك كونه عنصرا جوهريا تشتغل به وعليه القبيلة كنظام مجتمعي يجمع
سلبيات وإيجابيات حركته في التاريخ. لا يمكن أن نهمل ما بين العرف
والتّقنين من اختلاف في طبيعتهما التاريخية والثقافية لاختلاف هويتيهما
الحضارية، فالعقيدة والقبيلة والغنيمة، إلتقط الجابري ترسّباتهم السلبية
والمكرّسة في الوعي سواء العام أو الأكاديمي، كمفاهيم ارتبطت بمعاني قاصرة
في حدود بعض العلاقات الاجتماعية والثقافية التي نشأت في بداية المجتمع
العربي، فبالنسبة للجابري العقيدة كانت تمثل الأحادية الفكرية لذلك يجب أن
تتحوّل إلى مجرّد رأي واجتهاد، والقبيلة بما تمثله من تعصب وتحيّز يجب أن
تتحول إلى دولة، والغنيمة بما تمثله من تداخل اقتصادي غير واضح المعالم
يجب أن تتحول إلى مفاهيم اقتصادية حداثية، والحقيقة ان الوجود الجوهري
للمفاهيم يرفض القفز على تطبيقاتها الواقعية في حينها وفقا للظرف التاريخي
وعلى مراحل تطوّرها وحركتها في التاريخ، وهو ما يوجب دراستها بمعزل عن
تطوّرات المفاهيم التي تختلف عنها اختلافا جذريا، فما وصلت إليه المفاهيم
الحداثية لا يعني بالضرورة أنه يشكل النّهايات المحتومة للعقل فالعقل لا
نهائي بطبيعته.
الجابري محاولات الفهم للتاريخ / محدّدات للتجاوز:
يبرز الرّاحل محمد عابد الجابري في مساهماته الثرية لنقد العقل العربي،
كمحاولة للتخلص من عبء تراثي استقر في الذّهن كتمثلات نصية تدوينية، أو ما
يسمّيه بالمحدّدات، تعامل معها فكر الجابري على المستوى التنظيري المجرّد
بعيدا عن أيّ مقاربة للواقع الذي انطلقت منه واستمرت فيه وفي انتشاراته
الجغرافية والتاريخية، ولعلّني هنا أشير إلى مكة كبوتقة لتفجّر شرارة
الأثر التاريخي ومحدّد من محدّدات البداية الواقعية والمعنوية لحركة
الوجود الإسلامي، فعندما يؤسّس الجابري للاشعور السياسي (العربي) ـ كما
استعاره من دوبري، وبيَّئه، وهذه خصوصية جابرية، ـ الذي يشتغل وفق محدّدات
العقيدة والقبيلة والغنيمة في بنية العقل السياسي العربي، فمعنى ذلك أنّ
المفاهيم على المستوى الواقعي لا تمتّ بصلة إلى مظاهرها المستمرّة في
الوعي المدرك عبر الحركة في المكان والتي تكشف وحدها، أي الحركة في
المكان، تطوّر الواقع التاريخي بعناصره في الزّمن وحركته في التاريخ، وهو
ما يؤدّي بنا إلى استنتاج التطبيق السلبي والمسبق لمحدّدات الفعل السياسي
الإسلامي، بينما تحديد هذه العناصر (العقيدة، القبيلة والغنيمة) كأنساق
سوسيوـ ثقافية يصاحبه اشتمالها على مجموعة من القيم التي تنبني وفق معايير
السلب والإيجاب وهو ما لم يتطرق إليه تجريب الحفر الجابري في النسق
السوسيو ثقافي العربي.
محدّد العقيدة / مركّب الدّافعية:
تشتغل العقيدة بجهازها المفاهيمي الدّافع على الفعل من منطلق الإيمان
بمنظومة حياتية لها خصوصياتها ومقتضياتها، فالعقيدة ليست منتَجا وضعيا كي
نستنتج ضرورة التحوّل في طبيعتها، كما يذهب إلى ذلك الرّاحل محمد عابد
الجابري حينما يرى تحويل العقيدة إلى مجرد رأي وصولا إلى حرّية الفكر
والنّقد والاجتهاد، فالعقيدة تمنح من ذاتها مركبا دافعيا يحمل صاحب
العقيدة على الامتثال لمتطلباتها، فمجال مكة الجبلي ذو التضاريس الوعرة
والذي شهد تغيرات عميقة في طبيعته عبر عصور الإسلام المتعاقبة يقف شاهدا
على كيف ان العقيدة حفرت في وجدان وعقل حاملها ذلك الاغتناء بالمبادئ
والإصرار على ترتيب أفضلية المكان كما ترجمتها العقيدة، لكن وفق قناعة
تعطي أولوية للواجب على الحق، فقضية الوقف من الأجهزة المفاهيمية التي
أثّرت في العقل والسلوك الإسلاميين ومنحت التّغيير مفهوما حركيا يستلهم من
العقيدة ويحايث الذات في حركتها التغييرية، ولعل مكة تمثل النّموذج الأرقى
لحركة العقيدة في التاريخ وتمثلاتها الإيجابية، فآخر ما أنجز بها كان
'مركز أبراج البيت التجاري' وهو مجمع ضخم جدا يجمع إلى جانب برج السّاعة
العملاق الذي فاق 'بيغ بن'، محلات تجارية وغيرها، وهو يمثل أرقى ما توصل
اليه العقل التحديثي، ويقع في مواجهة الحرم المكي، والمخطط الذي يتمثله
العقل الفاحص هو تقابلات التراث والحداثة لكن عبر جسور العقيدة، فالمجمّع
هو وقف الملك عبد العزيز للحرم، مما يمنح التقارب بين الحداثة والتراث
معناه الإيجابي، من حيث ان أقدس مكان على وجه الأرض والذي يعتبر محلا
يستقبل فيه الله جل جلاله ضيوفه من المؤمنين، قضت إرادته أن يكون متمثلا
آخر ما تتوصل إليه الحضارة في نظمها العقارية أو التقنية أو غيرها، ولو
كان المسلم غير مشارك في إنجاز منتجاتها، وهو ما نؤسس له عبر ما شهدته مكة
والمسجد الحرام على الخصوص من عمليات التوسعة والإنجاز العمراني والتقني،
والإتقان الذي يحكم نظام وحركة المرافق ومظاهر الحركة التي يستشعرها
الفاعل الإجتماعي على مستوى المكان عبر هذه العصور المتواصلة إلى لحظتنا
الراهنة، والذي لا يقع بالضرورة في دائرة التكديس والإستهلاك، لأن منطق
العقيدة له محدّداته الإدراكية التي تتجاوز منطق الواقع إلى مفعِّلاته
الكامنة في العلاقة الرّوحية بين الذات والأشياء، ممّا يحرّك آليات جديدة
من ذات البيئة الفاحصة والمتمثلة لمبادئ العقيدة، تتتبع مكوّنات العقل
السياسي الإسلامي في مختلف تمظهراته الشورية، ومفاعيل البناء السياسي
المتمثل في الدربة النبوية على استشعار أهمية المشاركة في استنبات
المفاهيم وتجذيرها ذهنيا وواقعيا، فمواساة النبي لعمار بن ياسر لا ترتب
فقط ذلك الجانب الوجداني الذي يتصل بالعقيدة، وإنما تؤسس لمنطق العقيدة
الذي يتجاوز بفعل التضحية كينونته الضريبية الى كينونة إنجازية تجتمع فيها
التجربة الى تشاركية الواقع لاستنتاج التصور المستقبلي للفعل السياسي
المحكوم بحركة الواقع ذاته، ومنها كانت الهجرة لما اشتد الإضطهاد على
عناصر النواة الأولى للتجمع الإسلامي.
ولعلّ المنظور الثابت للمفاهيم يعرقل حركة العقل الإسلامي من حيث عدم
مساهمته في إنتاج منظومة مفاهيمه الخاصة، فالوقف، يمكن ترحيل مفهومه من
حقل الفقه إلى الحقل المعرفي السياسي، وبالتالي تنتقل حركة الوقف من
العقار إلى الفكر، ويصبح وقفا سياسيا، وأعني بالوقف السياسي، وقف كل مقدرة
عقلية على الاستيعاب والتحليل والاستنتاج لصالح الجماعة الاجتماعية
الإسلامية، فتتحوّل العقيدة من مجرد إحساس وجداني إلى فعالية تنظيمية
فكرية يتعالق فيها الوجداني والعقلي والعملي.
القبيلة / مفاعيل النّهوض:
تأسست في الجزيرة العربية حتى قبل الإسلام إيجابية القبيلة في حركتها نحو
أداء الواجب في جانبه السلوكي الإنساني والعقدي، حيث تبنّت قريش ببطونها
في مكة عملية استقبال الحجيج والعناية بهم كضيوف للكعبة وكضيوف لله في ما
بعد الإسلام، وللكعبة في الكيان العربي والإسلامي مقامها الدّيني، فكانت
المناصب التي تعني مهمة محدّدة يؤدّيها كل بطن من بطون قريش، والتي بلغت
حسب بعض المصادر خمسة عشر منصبا، وكان أهمّها على الإطلاق السّدانة أو
الحجابة، فصاحبها يحجب الكعبة وبيده مفتاحها يفتح الباب للنّاس ويغلقه،
أما السّقاية وهي المنصب الثاني فلم تكن سهلة لقلّة المياه في مكة، فكان
من يضطلع بهذا المنصب ينشئ حياضا قرب الكعبة ويجلب إليها المياه العذبة،
وكانت السّقاية في بني هاشم بن عبد مناف، والمنصب الثالث هو الرّفادة، حيث
كانت قريش تجلب المال من بعض وجوهها، ليتمكن صاحب المنصب بإعداد الطعام
لفقراء المسلمين باعتبارهم ضيوف الكعبة وأصبحت الرّفادة في بني نوفل ثم في
بني هاشم، ومن المناصب ذات الأهمية التي تتعلق بالحج والكعبة، العمارة،
التي تعني ألا يتكلم أحد في المسجد الحرام برفث ولا صخب.
فالقبيلة بهذا الوجه من وجوه التنظيم، وهذه العلاقة التأسيسية إنما تروم
إحداث نوع من التوازن بين بطون قريش حتى يسود السلم والأمان في مكة
لاستقبال الحجيج، وحتى تستمر الدورات الحجيجية كل موسم دون انقطاع أو
تقليص في العدد، لأن قريش كانت ترى في الحجيج ضيوفا للكعبة ومصدرا من
مصادر رزقها، وهو مجمل مفهوم المنفعة الذي ذكره القرآن الكريم في سياق
عملية الحج.
الحضور في مكة يستعيد هذه اللحظة الفاعلة في تاريخية الجماعة الإجتماعية
العربية، حيث استحضار القبيلة ككيان اجتماعي تاريخي والوقوف على مدى تطور
البنية القبلية في الزمن واستمرار وتطور أدائها الإجتماعي، ولأن العقل
الإسلامي لا يتحرك في التاريخ فإنّه يتغافل عن حركة الكيانات التاريخية في
التاريخ ورصد إيجابياتها في مجرى الزمن، وبالتالي لا تصبح القبيلة محدّدا
سلبيا في حركة الفعل السياسي الإسلامي، فهي لا تعني على سبيل الحصر كما
أورده الجابري تلك القرابة 'ذات الشحنة العصبية مثل الإنتماء إلى مدينة أو
جهة أو طائفة أو حزب، حين يكون هذا الإنتماء هو وحده الذي يتعين به '
الأنا ' و ' الآخر ' في ميدان الحكم والسياسة '، لأنّ فضاء حركة القبيلة
أوسع من أن يتحدّد بمفهوم واحد، وإدراك الجانب السلبي لا يرتب في العقل
امكانيات التحليل التي تفكك الإمكان القبلي إلى عناصره الأولى ومحاولة
التأسيس على الإيجابي منه طبقا لما تتوصل إليه المتابعات الميدانية والتي
تتطلب الحضور في المكان، ومن هذه الزاوية تكون الرّؤى النظرية التي توصّلت
إليها تحليلات الجابري وأركون ونصر حامد أبي زيد على سبيل المثال هي مجرد
قراءات عابرة للتاريخ بعيدا عن أي محاولة لقراءة التاريخ من داخله، من
خلال الوعي بالمكان (أنثربولوجية البحث)، وأيضا من خلال حركته الواقعية
الكامنة في تطور الموضوعات عبر الزّمن وحركتها في التاريخ .
الغنيمة والإرادة الفاعلة:
تتحدّد الغنيمة في سياق رؤية الجابري كمرتب تاريخي يتحرّك في خضوعه لعملية
تحويلية، 'تحويل (الغنيمة) إلى اقتصاد (ضريبة)، وبعبارة أخرى تحويل
الإقتصاد الرّيعي إلى اقتصاد إنتاجي'، وهذه الإلتفاتة نحو نقد اقتصاد
الغنيمة قد تفيد في التنبيه الى مستويات أخرى تدمج العلاقة الإقتصادية في
جوهر الإنطلاق من عتبات حداثية لممارسة اقتصادية تستجيب لمنطق العصر
وأدواته، إلا أن الرّؤية الجابرية كما بعض الرؤى الأخرى تبقى قاصرة عندما
لا تأخذ في عين الاعتبار الحركة العضوية للمفهوم في التاريخ، فالغنيمة
ليست على الدّوام تلك الظاهرة السلبية التي تعتبر عنصرا من عناصر التراجع
الاقتصادي، لأنّها تأسّست ضمن ظرف تاريخي مميز، ووفق ثقافة قبلية تتحكم في
إواليات وعناصر ذلك المفهوم الإقتصادي، فالحرب في بداية الدّعوة وبعدها أي
في مراحل توسع الدّعوة الإسلامية وقيامها بحركة الفتوحات، كانت تمثل مصدر
دخل بالنّسبة للجماعة الإسلامية التي سوف تؤسّس في ما بعد الدولة، وطبيعي
أن الغنيمة كانت تعبر عن مظهر تقسيم الثروة طبقا للرؤية والمنطق التي
تتحصل به، ويحفظ التاريخ للغنيمة إنها كانت تقسَّم بالعدل الذي كان شاهدا
ومؤسسا لمضمونه الرّسول (ص)، ثم بعد ذلك تطوّر المفهوم حسب تطور المجتمع
الإسلامي الفكري، والثابت في فكرة الغنيمة إنها تخضع لعنصري الإرادة
والرّغبة، اللذين يستشفان من حركتها في التاريخ الإقتصادي العربي
الإسلامي، في تفريعاته المابعد غنيمية، كما أورد ذلك أبي يوسف في كتابه
'الخراج'، والوقوف على المنجز المادّي العمراني والإقتصادي في مكة يحيل
على أنّ المال وحده لا يمكن أن يكون دافعا إلى إحداث عملية التغيير
التّنموية، فكثير من البلدان الإسلامية تملك المال لكن بنياتها التحتية ما
زالت هشّة وبدائية، فالإرادة لدى الفاعل الإجتماعي والسياسي في مكة تُمثل
الفارق الأساس في عملية التنمية، إلا أن الإرادة وطبقا لمظاهر التنمية
هناك تكشف عن عنصر تابع لها وهو تنفيذ الإرادة، وهو العنصر التي تفتقده
عملية التنمية، إذ الذي يقوم بتنفيذ الإرادة هو الفاعل الإقتصادي الأجنبي،
وهو ما قد يعيق عملية التنمية لحين، إلا أن الرغبة في تحقيق عملية التغيير
التنموي توازن أطراف المعادلة الاقتصادية الناتجة عن الوفرة في الثروة
البترولية، فمعادلة الإرادة وتنفيذ الإرادة والرغبة، تستكمل أطرافها
بالمقدرة المالية التي تمثل محصول الغنيمة المرَشَّد يالمفهوم الإقتصادي
التراثي، والذي تنفق إيراداته في ميادين تمثل أولوية بالنّسبة للمكان الذي
يمثل قلب العالم الإسلامي النابض بمحددات العقيدة، ولذلك اختلفت الرّؤية
للمال وتعيّنت بدقة مجالات صرفه.
إن مركب الإرادة وتنفيذ الإرادة والرّغبة هو الذي يمنح مفهوم الغنيمة معنى
موضوعيا وحقيقيا بعيدا عن أي تمييع مفاهيمي أو تسطيح اصطلاحي، ولهذا لما
استعمله الرّوائي الجزائري للتعبير عن امتلاك ناصية اللغة الفرنسية على
أساس انها 'غنيمة حرب'، لم يحصر المعنى في الاتجاه السّلبي، بل راح ينظر
للحظة المنتصرة التي اكتسبت لغة قاومت بها الإستعمار ذاته والتي هي لغته
في الأساس، إلا إنها كانت من بين عوامل التحرّر الذاتي من هيمنة الإحتلال،
فتوظيف مفهوم الغنيمة كان مرتفقا بعناصر حركته في التاريخ، فدلالة الغنيمة
اللغوية بمفهوم كاتب ياسين ترتبط بعناصرها المصاحبة والمتمثلة في حسن
التخطيط وحسن الإدارة للحرب والتي هي مجال انبثاق الغنيمة المعبِّرة عن
فعالية انتصار، حيث الهوية النّهائية للمفهوم (الغنيمة) تُوِّجت
بالاستقلال، ولو نظر إليه كاتب ياسين من ناحية المحدِّد السلبي في تاريخية
الفعل السياسي أو الثقافي الإسلامي لتجاوزه إلى معنى من مكوّنات حضارة
الغالب. فالذي جعل مفهوم الغنيمة ابتداء كما أنجز في مرحلة البداية يمتلك
مصداقية الوجود هو إرادة التغيير والرّغبة في تنفيذ هذه الإرادة مع بساطة
الحياة التي جعلت تنفيذ الإرادة بيد الفاعل الحركي الإسلامي على كل
المستويات، فالتغيير في مجال مكة مع ما تمثله من تضاريس جبلية ومناخ جاف
وحار والمساحة القاحلة والطبيعة الجرداء يفسّر طبيعة وعظمة الجيل الأول
الذي قاد عملية التغيير ليس على مستوى البنيات التحتية وإنّما على مستوى
نظام الحياة الذي يختلف اختلافا جذريا عن ما كان سائدا، مع العلم أن ما
كانوا يمتلكونه من منجز مادي لم يكن بتلك الدرجة التي توفر لهم القدرة على
نشر مبادئ الدين الجديد ليس داخل الجزيرة وحسب بل يتجاوزون به حدودها إلى
اقتحام دوائر حضارية تفوقهم في العدة والعدد وتفضلهم في طبيعة المكان،
ولهذا لا يمكن أن نقارب المفاهيم دون أن نمنحها فرصة تلقيها من خلال
حركتها في التاريخ وقراءتها من خلال الحضور في المكان.
رؤية استنتاجية:
إن الرّؤية الجابرية لمحدّدات الفعل السّياسي الإسلامي القائمة على أساس
التحوّلية في المفهوم، عزلت مفاهيم العقيدة والقبيلة والغنيمة عن
سوسيولوجية المكان وحركة التاريخ لانفقاد عنصر الحضور في المكان، وهذا لا
يعدم فيها الرؤية السباقة الى تحريك مفاعيل العناصر الدالة على حركة العقل
السياسي العربي، ومن ثم نقد سلبياتها، لكن وإن كانت هذه الرّؤية تحتكم إلى
المنطق العلمي، إلا إنها تقفز على عامل جوهري يتمثل في حركة المفاهيم
بتحققاتها الواقعية في التاريخ، لأنّ تاريخية المفهوم شيء وحركته في
التاريخ شيء آخر، فلا يمكن أن نهمل بالنسبة للقبيلة سياسيا عناصر المبايعة
والشورى التي يمكن أن تفضي إلى عنصر وليد يزاحم المفاهيم السياسية
الحداثية، لأنّ الحركة في التاريخ عملية حيوية تشترك في ترتيبها عناصر
المتابعة والنقد والاحتفاظ بما يثبت جدواه في حركة الحاضر