2014-10-24 بؤس العقل السياسي العربي
|
| |
إن مجموعة المشكلات التي تواجه العالم العربي اليوم ليست وليدة اللحظة الزمنية الراهنة،الناتجة عن التصدعات الاجتماعية لما عرف بالربيع العربي ، وما صاحبه من انقسامات طائفية ومذهبية ، ولكنها نتاج تراكمات تاريخية واجتماعية وسياسية في اللاوعي الجمعي للذات العربية وجدت الفرصة والمتنفس للظهور ،فحالة الجمود السياسي التي طبعت المنطقة طيلة العقود الماضية لم تكن إلا عملية ركود عبر عنها بحالة استقرار كاذبة .
فالاختلافات العميقة بين مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية جذرية ومتأصلة في الذات العربية منذ أمد بعيد لمنطقة لم تعرف عملية انتقال حقيقية من مجتمع القبيلة وحالته البدوية ،إلى مجتمع الدولة المدنية الحديثة، ولم تقم فيه حركة فكرية ومعرفية فاصلة للتخلص من جميع الحواجز والعوائق التي تحول دون الوصول إلى عقد اجتماعي وأرضية صلبة للعيش المشترك بين مختلف المكونات الاثنية والطائفية والعرقية ،ولم تحدث فيه أيضا عملية فصل حقيقية بين مفهوم الدولة ككيان جامع غير قابل للتنازل وحدود الطائفة والقبلية كجزء من التركيبة الاجتماعية تتمايز بين القوة والضعف من منطقة إلى أخري ، وبقيت نقاط ضعفنا مستترة بجلباب الاستقرار الخادع لردح من الزمن ،فكانت هذه الاختلافات اللغم الدائم المستعد للانفجار في وجه كل عملية حراك سياسي واجتماعي حقيقية ، إذ مع بداية الألفية الثالثة كان خوف جل المفكرين العرب من العولمة الجارفة التي تجرف ما تبقى من أخلاق العرب وتراثهم وأصالتهم ، ومن الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي الذي سيكون وبالا وخبالا على الشعوب العربية ، الذي يجعل العرب يتخلون عن قيمهم الأصيلة ويسحبون إلى الحداثة الوافدة مكرهين لا طائعين بكل ما فيها من تحرر وفتن ونشوز عن النظام العام الرسمي العربي وحذر الجميع من غزو أعياد الميلاد وأعياد )الفالنتين (و)هالويين (ومن جميع القيم الغربية المنافية لأخلاق الأسر العربية ولكن المعضلة الفكرية الحقيقية جاءت من الداخل وبالذات من القراءة السطحية والمرضية للتراث وعودة المكبوت ،وأثبت مرة أخرى أن مشكلة العالم العربي داخلية بالأساس وعميقة عمق الأزمة السياسية ومتجذرة تجذر أنثروبولوجيا الاستبداد بالذات العربية ولصيقة التصاق الدين بالسياسة ، وأن من بؤس العقل العربي انه بـقي حبيس ما حدث في معركة صفين ومنها تستمد الشرعية السياسية و الدينية والتاريخية في المنطقة بأسرها ،على هذا الأساس تكـون معضلة الشعوب العربية فكرية ومعرفية بالدرجة الأولى يحملونها في عقولهم وفي سوء قراءتهم لتراثهم وتاريخهم ، قبل أن تكون سياسية ،إذ هكذا فجأة اكتشفنا التكنولوجيا ورحنا نفتش في التراث عن ما يفرق بين مختلف الطوائف والملل والنحل، وكم هي الاختلافات كبيرة بين ملل الشرق - لو أردناها - ومتعددة تعدد الرسالات السماوية والمذاهب والدول التي مرت على الشرق الأوسط وتعدد أهداف السياسيين ومصالحهم واملائتهم حيث فتحت الفضائيات هكذا على مصراعيها بدون رقيب ولا حسيب أمام المفتونين بالاختلاف فضائيات للسحر والشعوذة ، وأخرى لفتح أرشيف الماضي بما فيه من غث وسمين ،ما صدق من التاريخ وما كذب ،وبدا ما كان خفيا في الظهور إذ يكفي الاعتداء على إحدى المقامات الدينية أو التعرض لضريح احد الصالحين من قبل مجموعة من المتعصبين لتحترق المنطقة بأكملها ،هكذا ببساطة اختفت المرجعيات الدينية التقليدية المعتدلة وظهرت مرجعيات جديدة على استعجال تم الترويج لها بسرعة في وسائل الإعلام والوسائط الالكترونية ،تخوض في مسائل الحقوق والحريات ومسائل الدولة والنظام السياسي والحرب والسلم ،مسائل لو عرضت على الإمام مالك لأحجم عن الإجابة عنها خوفا من العاقبة في الدين والدنيا ،شوهت الرموز القومية وقزمت المشاريع الوحدوية الكبرى وهمش حلم الأجيال في الوحدة والحياة الكريمة وقيادة العالم الثالث إلى نظام عالمي جديد ، شجعت الانقسامات المذهبية والطائفية المقيتة ،وتـم تجاوز الأهداف الإستراتجية القومية لصالح أهداف سياسية آنية رخيصة ،وتحول الشباب العربي إلى وقود لحروب دامية يخطط لها في المخابر الأجنبية وتديرها الاستخبارات الغربية ويتم إخراجها بفتاوى دينية وبلسان عربي مبين عبر الفضائيات ومواقع الانترنت ،إن الذين يستميتون في الدفاع عن السنة أو الشيعة اليوم هم أنفسهم الذين سيقسمون المذهب الواحد إلى أجزاء متناثرة ، فاليوم السنة والشيعة النواصب والروافض ،والمالكية والاباضية ،وغدا الأخوان والسلفية والصوفية والسلفية، وبين العلوية والدروز ،إنها الحالقة لمنطقة عاشت لقرون متعددة المذاهب والأعراق والطوائف ، إذ كيف يعقل أن ينعم الصابئة اليزيديون والشبك والمسيحيون في العراق بالأمان أيام البعث العربي الحزب الشعوبي العروبي الغير ديمقراطي ،ويذبحون ويهجرون أيام الديمقراطية الأمريكية وقيم الخصوصية الفردية الغربية ، قد تكون حالنا اليوم أشبه بحالة أوروبا في سنواتها المظلمة وحروبها الدينية في القرنين السادس والسابع عشر ، ولكن الفرق الجوهري الوحيد أن حروب أوروبا الدينية أدت إلى ميلاد الدولة القومية بعد معاهدة وستفاليا 1648 ، بينما حروبنا نحن ستقود حتما إلى تفكيك الدولة الوطنية ،وخروج العالم العربي من الخارطة السياسية للعالم ، إذا ما استمرت اللامبالاة العجيبة للنخب الثقافية والدينية في المنطقة ،ولن نصحوا من ظلماتنا إلا بعد فوات الأوان و تفتيت الأوطان عندها ندعو للحوار والتسامح وتأسيس أرضية صلبة للتعايش المشترك ، وإرساء قواعد للتسامح بين الأديان ومختلف الملل والنحل ، ولكن ولات حين مناص لم تنفع ملوك الطوائف توبتهم ولا ندمهم بعد أن أضاعوا الفردوس المفقود .