من نقد العقل العربي إلى عقلنة النقد العربي إدريس هاني على هامش رحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري
*
يتعلق
الحديث هنا بمشروع فكري اختطه علم من أعلام الفكر العربي رحل عنّا بشكل
فاجأ الجميع بمن فيهم ذوي القربى. إنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري
الذي قرن اسمه طيلة ثلاثة عقود بأعمال ارتقت إلى الروائع الكلاسيكية في
الفكر العربي منذ «نحن والتراث» حتى نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة
بدءاً من تكوين العقل العربي وانتهاء بالنظام الأخلاقي العربي. وإن كنت من
نقاده -وربما الأكثر قسوة على نصوصه - إلا أنني أحتفظ لشخصه باحترام خاص
ولسيرته النضالية بشيء من التقدير. يحدث ذلك متى ميّزنا بين الكاتب
والمكتوب، بين النصوص والشخوص. وهو صنيع قلّما نُحسنه. وحيث لسنا بصدد
إقامة مجلس عزاء على الشخص وإنما نحن بصدد تقييم لآثاره الفكرية تمسكاً
باستمرارية الحياة الفكرية، باعتبار أن الراحل خلّف وراءه تراثاً فكريًّا
كبيراً لا يزال يتمتع بالحياة والاستمرارية، فإننا نسعى إلى اختزال جولة
تقييمة لأهم ما أثار نُقَّاده في مشروع دنا منه البعض فتدلّى ونفر منه
البعض ففارق. فالجابري الذي تشظّى تحت قدميه التراث معرفيًّا على طريقة
مؤرخي الملل والنحل وديدنهم في التقطيع، هو في جانب الممارسة، داعية كتلة
تاريخية على طريقة غرامشي وديدنه في التوفيق. وكلما دعا سياسيًّا إلى
تأليف هذه الجبهة عمل معرفيًّا على هدم تلك الجسور بتقطيع حبال التواصل
المعرفي بينها. ما يعطيه سياسيًّا يأخذه معرفيًّا. يد تبني ويد تهدم:
تنافر بين الفكر والعمل. والجابري صاحب المشروع المعرفي الاستئصالي كما
يبدو لكل من وجد تراثه محل قسوة ونبذ من ناقد العقل العربي، هو أبعد عن
الاستئصال في الخطاب السياسي اليومي، فهل وجب القول: إن الجابري خارج
مشروعه هو أولى للفكر العربي من الجابري صاحب المشروع المعرفي و من هو يا
ترى حقيق بالتمجيد، فكره السياسي أم تقطيعه المعرفي؟! إنه كاتب مناضل له
تجربة في المشاركة وعايش فترات سياسية عصيبة وشاهد على منعطفات دقيقة في
العمل الوطني داخل حزب الاستقلال فالاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي
للقوات الشعبية. ساهم في نشاطات سياسية ونقابية فاعلاً ومؤسساً ومنظّراً.
عرف السجن ولو قليلاً؛ ففي يوليو 1963م، تعرّض للاعتقال ضمن قيادات
الاتحاد الاشتراكي. ظل مدة شهرين في الاعتقال، إذ كان الصراع بين الدولة
والاتحاديين يومئذ على أشده قبل أن يتم إطلاق صراحه لفراغ الملف. كما عرف
الممارسة النضالية على خلاف من نشأ خارج مجال الصراع وعانق المعرفة من
موقع التجريد. وخلافاً لكثير من مثقفينا، عرف فنّ التزهد في طلب المراكز
والسلطة. على الأقل نحن المغاربة ندرك أنه علّق عضويته في الاتحاد
الاشتراكي احتراماً وعشقاً للمعرفة وانضباطاً يفرضه سمت المثقف واستقامته.
فلقد زهد في وزارة الثقافة كما تضامن مع رفيقه عبد الرحيم بوعبيد حينما
رفض عضوية أكاديمية المملكة، كما رفض جوائز كثيرة؛ لقد اعتذر أواخر
الثمانينات عن الترشح لجائزة الرئيس صدام حسين (100 ألف دولار)، كما اعتذر
عن جائزة الشارقة في 2001م ـ المانح اليونسكو ـ (25 ألف دولار)، كما اعتذر
في السنة الموالية لها عن جائزة العقيد القذافي لحقوق الإنسان (32 ألف
دولار)، وكذا جوائز أخرى كجائزة المغرب. بدأ شعوره ينحاز بعيداً عن كل ما
هو رسمي. اختار الجابري أن يحافظ على سمته المناضل ورأسماله الرمزي بعد أن
أصبح له جمهور يمنحه سلطة المثقف العضوي. والجابري مثقف عضوي بالمشاركة
النظرية وبإطلالاته الثقافية والتنظيرية التي غطّت كل القضايا الوطنية
والإقليمية والدولية. فقد غاب شخصيًّا عن الأنظار لكن مساهماته لم تبرح
المشهد. ظل مثقفاً حاضراً من خلال أنطولوجيا الكتابة. ومن هنا نفهم سياسة
الاعتذار والرفض للجوائز المذكورة، لأنه يخشى أن تنقص من رأسماله الرمزي.
وإلّا ما معنى أن نرفض الجوائز في الوقت الذي نحرص فيه على تسجيل هذا
الرفض ضمن السيرة الذاتية باعتباره مكسباً؛ ما الفرق في تقدير السير بين
القبول والرفض، إن لم يكن الحديث عن الرفض يضفي على الجائزة قيمتين: قيمة
الاستحقاق وقيمة الرفض معاً. وبالفعل كان الجابري قد كسب أكثر من كل تلك
الجوائز عندما اعتذر منها اعتذار مثقف يتزاهد طهرانيًّا. ولا أدري ما سبب
حديث البعض عن أنه مفكر لم ينله اهتمام من هنا أو هناك. فلقد عرضت عليه
الوزارة معززاً مكرماً، كما أكمل مشروعه قبل أن تتوفاه المنية. لم ينكسر
قلمه قبل أن ينهي مشروع نقد العقل العربي. كما أنه عرض عليه ما لم يعرض
على غيره من الجوائز. لقد عاش الجابري مدللاً ومحترماً ومعتذراً من كل
تكريم: إنني أخشى أن يتحدث البعض يوماً عن محنة الجابري محاكاة لمحنة ابن
رشد ومحنة ابن حنبل كما تحدث الراحل عنها طويلاً في مشروع نقد العقل
العربي. وهي مناسبة لتصحيح بعض أشكال المرثيات الخاطئة التي استمعنا إليها
من قبل بعض من نعاه بالطريقة الخطأ ظنّا أنه قضى في محنة أو إهمال.
* المعلم
تدرج
الجابري في سلك التعليم من أدناه إلى عاليه. درّس الأطفال وأدار مدارس
وثانويات ثم درّس الطلاب والباحثين. إنه شاهد على كل أطوار النظام
التربوي. لقد كان في الأصل معلّماً. ولكنه ظلّ معلماً لجيل كامل من
المغاربة عبر ما كان له من إسهام في المقررات. ويبدو أن قدرنا في المغرب
إن كنا طلاباً أن نتعرف على الجابري في مراحل مبكرة حينما شكّلت دروسه
الفلسفية البرنامج المقرر لأقسام الباكالوريا. فقد قام منذ 1966م بمعية كل
من أحمد السطاتي ومصطفى العمري بإعداد كتاب «دروس الفلسفة» لطلاب
الباكالوريا. شمل الجزء الأول منه موضوع الأخلاق والميتافيزقا، كما شمل
الجزء الثاني موضوع مناهج العلوم وعلم الاجتماع وعلم النفس. وفي 1967م ألف
في إطار البرنامج نفسه كتاب الفكر الإسلامي ودراسة المؤلفات. إنه بالنسبة
لهذه المرحلة يبدو المعلم الأول للمغاربة من جيلنا. كما أن قدر المغاربة
إن كانوا متسيسين أن يتعرفوا عليه من خلال أدبيات أكبر الأحزاب وأكثرها
نفوذاً وصيتاً خلال ستينات وسبعينات وثمانينات القرن السابق. وقد طالعت
التقرير الأيديولوجي لحزب الاتحاد الاشتراكي قبل أزيد من عقدين ونصف -وهو
تقرير ارتقى بأدبيات الحزب المذكور إلى قامة كبرى الأحزاب العالمثالثية
تنظيراً وممارسة- قبل أن يخطر ببالي أن كاتب هذا التقرير لم يكن سوى
الجابري نفسه على رأس بعض المناضلين من الحزب المذكور. تأكد لي أن مدخلي
إلى الفكر الفلسفي والفكر السياسي وأدبيات النضال الوطني هو الجابري نفسه
الذي سيكون فيما بعد موقفي منه نقدي بامتياز. هذا هو سرّ أن تكون ناقداً
ومعجباً بالشخص نفسه. إنه تاريخ مركب لنا معه في المغرب حالات قلّما
يستشعرها غيرنا. لكن ما هو حقيق بالتقدير في هذه الشخصية كونها أميل ما
تكون للعزلة والاكتفاء بإطلالات كتابية دون الخوض في النزاعات، سواء
الحزبية منها أو الثقافية. إنه لم يكلف نفسه حتى أن يردّ على نقاده وإن
رأى فيها بعضهم تحسيساً بالإهمال. لم يدخل في خصومات مشهودة أو ردود فعل
حادة أو أصرّ على ملاحقة خصومه. وإن عرفنا من تلك الردود ما كان سريعاً
واعتباطيًّا وسريعاً فإنها لم تكن إلّا في تلك الحدود لم تتعداها إسرافاً.
وقد
عبت عليه -فضلاً عمَّا سنبينه في صميم مشروعه الفكري- سياسيًّا انبهاره
بموقف العراق عند احتلال الكويت دون أي اكتراث لمآلات الموقف على مصلحة
العراق، ولا اكتراث للوضعية التي تعرّض لها شعب عربي شقيق على يد جيش
زُجَّ به مرغماً على احتلال دولة عربية والفتك بشعبها، تحت طائلة شعارات
ما كان لسياسي مخضرم مثل الجابري أن يخطئها، كما يظهر من موقفه المتأخر
الذي اكتفى فيه بالصمت ولم يخض بعدها فيه مع الخائضين. كان قد تفرغ يومها
عبر زاوية ثابتة في جريدة الاتحاد الاشتراكي لتقديم سيرة عن صدام حسين
تصوره كبطل قومي أسطوري؛ بدا لي الجابري يومها يعكس أحلام جمهور مأخوذ
بميثولوجيا البطل القومي. وفي تلك الأثناء عزّز ذلك ما كان يُشاع في
الصحافة نفسها من نبوءات سياسية توحي بأن صدام هو المهدي المنتظر المشار
إليه في الأحاديث. تماهى ناقد ميثولوجيا الإمامة في نقد العقل السياسي
العربي في موجة التمجيد والأسطرة للبطل القومي على الرغم من أن الجابري
يدرك أن الأمر لا يرقى حتى إلى الحلم الناصري. قبل أن يبوح فيما بعد بأنه
إنما تلقى كتاباً من أمين إسكندر يحكي فيه هذا الأخير عن سيرة صدام. وقد
استشكل الجابري كيفية نزول مثقف كبير إلى مستوى التمدّح بالسلطان. في
الحقيقة كانت تلك المشاهد التي سطّرها الراحل على الجريدة كلها نقول مما
كتب أمين إسكندر. ولا يهم هذا بالنسبة للمشهد المغربي الذي مرد على تمجيد
كل من يرفع التحدي ضد إسرائيل حتى لو كان ديكتاتوراً حبشيًّا ويستهينون
بكل من سلّم لها ولو كان ديمقراطيًّا إسكندنافيًّا. يكفي قذف بضعة صواريخ
فارغة على عروشها على إسرائيل، لكنها محملة برؤوس شعاراتية عربية تعكس
ذهان العقل العربي في نوبات استبداده العاري، الذي قضى الراحل جزءاً من
حياته مهمًّا في تفكيكه ونقده، لتتحول أيًّا كان فصلك، بفعل خيمياء العقل
العربي، إلى بطل قومي. على أن البطل القومي المفترض يتعين أن يكون بطلاً
ولو حارب بقطع الخشب لكنه يظل كبيراً في تقدير واحترام الأمة وحقن دمائها.
هناك جانب سيكولوجي لا بد من تقديره في هذا المجال. لا يهم إن كان هذا
الأخير لم يلبِّ مطلباً تاريخيًّا ناضل الجابري في سبيله ألا وهو
الديمقراطية. فهذا من مفارقات المثقف العربي والمغربي تحديداً أنه يطلب في
بلده ما يستكثره على الآخرين. لا أتحدث عن الاحتلال قبّحه الله، بل أتحدث
عن موقف قديم واستثنائي من الديكتاتورية في العراق حتى في الوقت الذي كانت
فيه حليفة للاحتلال وجزءاً من لعبة شرق أوسطية مشهودة. المسافة هنا بين
الصحيح والغلط في ذهن المناضل العربي والمغربي خصوصاً هي مسافة جغرافية
ليس إلَّا. هكذا تباكى بعض مناضلينا سنوات الرصاص المغربية لكنهم في الوقت
ذاته مجّدوا ليل العراق . وهنا لا يحتاج المرء أن يلامس الحقائق بل يكفي
الدخول في دورات من التحليل الرومانسي الذي يبدو فيه الديكتاتور مكللا
بالزهور. لم يلتفت أحد إلى هذا الخطأ حتى وهو يبرره بعد سنوات بمخاطر
الاحتلال ـ بينما الموقف كان قبل الاحتلال، لقد عززت تلك الازدواجية أو
لنقل الانتهازية في مفهومها السياسي الأخلاقي موقفا سلبيا عند العراقيين؛
من أن العرب باعوهم للديكتاتور لقاء كوبونات معدودة. مع أن المسألة تتعلق
أحيانا بما يفوق موضوع الكوبونات. فالجابري الذي رفض الكثير من الجوائز
بما فيها جائزة صدام قال فيه ما لم يقله هيكل في ناصر. النتيجة هو
الاحتلال والإحساس الكبير بخيبة الأمل من المناضلين العرب الذين تجاهلوا
حتى الآن الحاجة إلى الحرية وغضوا الطرف عن خطر الاستبداد. ربما البعد
الجغرافي هنا يمنح مجالاً للتجاهل والنسيان: البعيد عن العين بعيد عن
القلب. لكن كيف نتجاوز ذلك نحن الذين قرأنا المحنتين وعرفنا أن وجهها
العراقي كان أقسى من كل ألوان سنوات الرصاص. ولا نفاضل ها هنا في أوضاع
البؤس وقتل الإنسان، لأنه لا مفاضلة تقوم هاهنا في الشرع -{مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا}- أو في معقول المستبد -يتحدث ستالين عن أن قتل الواحد
أو قتل ملايين هي مسألة حسابية-. لا يوجد فرق في جوهر القتل لكن ثمة فرق
عرضي في وجود ممكنات الانفراج. وهناك دائماً فرق بين مجال غير ديمقراطي أو
شبه ديمقراطي لكنه ليس مستبداً ومجال مستبد وغير ديمقراطي في الوقت نفسه.
أحياناً يلعب الأمل عاملاً في التمييز بين الحالتين حدّ الإحساس بالتخوم.
كثيراً ما كان الاحتلال هو الحتمية التاريخية للاستبداد. القائد يحرر
الأرض بالأحرار. العبيد الخارجون من طقس مصارعة الأسود لا يحررون أرضاً
محتلة. فالمحتل بما هو خبير بنفسيات المستبد يطلب مزيداً من الاستبداد لكي
يرهن الأوطان للسياسة الاستعمارية. وبقدر استثنائية الاستبداد العراقي
كانت استثنائية الاحتلال الأمريكي. ذاك استبداد عارٍ وهذا استعمار فاضح.
من المسؤول إذن؟ سنكون بسطاء إذن كلما اعتبرنا أن الاحتلال في عهد هولاكو
لبغداد أو الاحتلال الأمريكي في عهد بوش هما ناتجان عن مؤامرة شخصية لابن
العلقمي أو جلبي. هناك خلل في التحليل وخلل في القياس وخلل في استيعاب
الأزمة. إن كان نقاد العقل العربي يمارسون هذا النسيان، فهذا دليل إضافي
على أن لا أمان أن يكون العقل الناقد في مرتبة واحدة من النكوص مع العقل
المنقود. ومشكلة العالم العربي أنه حدّي التقويم ومزدوج الأحكام. إذا كنا
سنفكر كقطريين وبانتقائية، فَلِمَ نتحدث عن النضال القومي العربي؟! ومع
ذلك أحب أن أذكّر بأن الجابري رفض الحج إلى عراق صدام في الأطوار
المتأخرة. لقد كان له حدس سياسي وموقف غير معلن من الاستبداد خشية أن يمس
بذلك سمعة مثقف انحاز إلى الديمقراطية ضد القمع: وحده ما يفسر استشكاله
المذكور على مؤلف أمين إسكندر عن صدام، بالإضافة إلى رفضه جائزة صدام. وهو
ما لم يزهد فيه زملاء له مجدّوا الاستبداد وغرقوا في كوبوناته حتى الركبة.
* موت الكاتب وبقاء المكتوب
برحيل
محمد عابد الجابري يكون العالم العربي قد ودّع أحد أبرز مفكريه الذين
شغلوا المشهد الثقافي والفكري العربي منذ ثمانينات القرن الميلادي
المنصرم. ومع أن الموت كان قد تخطّف ناقد العقل العربي بشكل فاجأ مريديه
ونقاده على السواء، إلّا أن الجابري كان قد أنجز مشروعه بالتمام والكمال
حتى أنه لم يعد يجد من متممات له ما يغري بالضرورة، بل لقد سعى بطرق غير
مباشرة لانتهاك الكثير من مسلمات نقد العقل العربي كما رأينا في مجمل
النشاط الفكري الذي ضمّنه أعماله الأخيرة، حيث كان آخرها «مدخل إلى القرآن
الكريم». وإن كان الحديث قد جرى عن أن أمراً ما ظل حبيس الرجاء، ألا وهو
تخميس نقد العقل العربي بعمل حول نقد العقل العلمي العربي؛ فلا أعتقد أن
الضرورة كانت تقضي بهذه الإضافة فضلاً عن أن هذا أمر يصعب اقتحامه نظراً
لخطورة الموضوع ودقته بالنسبة لمختص في علوم الإنسان لن يفيده اختصاص مبكر
ومبتسر بالعلوم والرياضيات، لأن الأمر -وإن تعلّق بعلوم الأوائل التي مرد
النظام التربوي الحديث أن يجعلها مستوعبة في المراحل الأولى للتحصيل
العلمي- يتعلق بمقاربة إبستيمولوجيا دقيقة وعميقة وتخصصية فائقة ما فتئت
تتنامى وتتطور باستمرار. لا أجد مانعاً موضوعيًّا لكتابة نقد العقل العلمي
العربي إن كان ذلك ضروريًّا لاستكمال مشروع نقد العقل العربي. فلو كان
الأمر ضروريًّا لكان يعني هذا أننا أمام مشروع مبتسر. غير أن المانع في
نظري أن مغامرة التنقيب على البنى الخالصة والافتراضية على مستوى التجريد
وفي إطار الفكر الفلسفي والميتافيزيقي يمكنه أن يخفي عوار النهج التقطيعي
للجابري. بينما ستكون تلك مأساة لو تمت في مجال العقل العلمي، لأن الأمر
سيبدو أكثر فضائحية. فما تتحمله العلوم الإنسانية من مفارقات يصعب تمريره
في مجال العلوم البحتة. هذا بالإضافة إلى أن النقاد المتوقّعين لنقد العقل
العلمي سيكونون من طينة أخرى ومراس آخر ربما لن تمنعهم آصرة الأبوة في
شعبة الآداب من ممارسة النقد الجذري للمحاولة. وفي اعتقادي -لو أننا
استثنينا محاولات معدودة على رؤوس الأصابع- أن إحدى مقاتل مشروع الجابري
هو الإطراء المبالغ فيه لنتائج مشروعه أو النقد الذي جرى على استحياء
لنصوصه بما فيها الأكثر مدعاة للنقد الجذري. وقد كان بالإمكان حدوث ذلك
لما كان داعية الوضعية المنطقية والأيديولوجيا العلموية زكي نجيب محمود
وحده يسرح ويمرح في نشر دعواه، لكن اليوم، حض الباحثين في فلسفة العلم
كثيرون؛ أصبح تراث زكي نجيب محمود إزاءه بمثابة كلاسيكيات علموية متجاوزة.
إن مشكلتنا في العالم العربي وتحديداً في المغرب، أن المنبرين للنقد
الإبستيمولوجي هم من اختصاصات العلوم الإنسانية غير الكافية لاستيعاب
مدارك العلم وفلسفته. وبخلاف فلاسفة العلم الغربيين -الذين لهم تخصصات
أيضاً في الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا...- ليس لهم خبرة في العلوم
البحتة. وبعد أن يكون مبعث الاهتمام بالعلوم الاجتماعية هروباً من وطأة
العلوم البحتة في مراحل التكوين الدنيا، يعود بعضهم إلى التحرش بالعلم من
زاوية الإبستيمولوجيا ونقد العلم في المراحل المتقدمة. وهذا عوار يقابله
عزوف المتمرسين في العلوم البحتة عن الفلسفة. وكل ما يبدو أمامنا هي مسائل
محفوظة في الدرس الإبستيمولوجي بمقدار ما تفيده بعض نتائج العلوم في عملية
الاستشكال الفلسفي. أي أننا أمام نقد للعلوم لا يمكن أن يفيد العلم أو
يحرز شرف الإبداع في مجال نقد العلم. فأكثر المعاقرين للإبستيمولوجيا
والمنطق ونقد العلم في مجالنا لا يفعلون أكثر من استحضار محفوظات وشواهد
مدرسانية مقررة ومبحوثة؛ أي تحصيل حاصل. وحيث لا زلنا لم نظفر كما في
الغرب بعينات جامعة للمهارتين، يظل نقد العلوم أمراً في غاية الضعف. وهنا
أقول: لا تكفي مهارة مبتدئة للجابري في العلوم والرياضيات قصاراها أن
تمنحه ثقافة الحد الأدنى من معرفة بعض القواعد العلمية. ولكنها غير كافية
في حساب الاختصاص كما يدركه أهل العلوم البحتة لا أهل علوم الإنسان في
مدائحهم ومراثيهم غير الموضوعية عن الراحل.
لقد شغلت أعمال الجابري -لا
سيما زبدة أعماله في نقد العقل العربي- نقاداً من مختلف المنازع والتخصصات
والميول. وهم وإن التقوا عند ملاحظات مشتركة وتوافقوا على مذهب واحد في
النقد، ألا وهو المأزق المفاهيمي لكثير من تخريجات نهجه القطائعي، إلا أن
الباحث استمر مصمماً على استكمال نهجه؛ لم يلتفت إلى أي من تلك النقود قبل
أن يختم ملحمة نقد العقل العربي بالنظام الأخلاقي العربي الذي ليس إلَّا
نقداً للعقل الأخلاقي ومنظومة القيم العربية. لقد ترك الراحل خلفه تراثاً
فكريًّا هائلاً، لا يزال ولا ينبغي أن يتوقف حوله النقد. فرحيل الكاتب لا
يوقف النقد لمكتوبه.
* في مسألة الإبداع
لم يفت الراحل مناسبة لم
يُعرْ فيها اهتماماً بمسألة الإبداع وتبيئة المفاهيم المستوردة وإعادة
استنباتها داخل مجال ارتأى فيه من الخصوصية ما يؤهله لتجربة استشكالية
خاصة. وربما ظلت مسألة الإبداع على ما تمتلئ به من بريق من كبرى الخدع
المضللة في الممارسة النقدية لكثير من المثقفين والنقاد العرب. وقد اعتبرت
أعماله عند البعض، على الرغم من كل هذا الحرص على التبييء والخصوصية،
خارجة عن الممارسة الإبداعية، وأنها من وحي المنقول الذي لعبت فيه الترجمة
الخاطئة لعبتها الخطيرة . وقد أسند إليه بعضهم بتسامح زائد فضل إبداع بعض
المفاهيم والمصطلحات مثل العقل المستقيل وغيرها من المصطلحات. وأمام هذا
النوع من الإسناد الخاطئ وجب القول تحقيقاً أن الأمر لا يتعلق بإبداع
مفاهيم وإنما باستعمال مفاهيم وتكثيف دلالاتها التفسيرية على النصوص
المحلية. وهنا وجب الحديث عن مسألتين:
- ما شكل الإبداع الممارس هنا؟
- ما حقيقة ما أسند إلى الراحل من إبداع؟
1- ما شكل الإبداع الممارس هنا؟
من
خلال تتبع سريع لأغلب ما أنتجه المغاربة منذ نهاية العصر الوسيط في شتى
حقول المعرفة الشرعية والعلمية والفلسفية، نقف على أعمال كلاسيكية فاقت
غيرها بما فيها أعمال المؤسسين. وبين ما هو شائع معروف عند المشارقة العرب
وغير المعروف عندهم توجد أعمال تغطي كل التخصصات القديمة -يكفي إطلالة على
فهرس المخطوطات العامة بالمكتبة الوطنية الذي أنجزه الفقيه المانوني-
تحتفظ بميزة واحدة ذات سمة خاصة ومشتركة لدى العلماء والمفكرين المغاربة،
ألا وهي ميزة حسن التنسيق وإحكامه لا إبداع المقولات والمفاهيم بالمعنى
الحرفي للكلمة. ونحن ندرك كما هو مدرك اليوم بيسر، أن المدار في تطور
النظم المعرفية هو في التحولات التي تصيب الأنساق وليس في انتقال المفاهيم
التي يمكن أن تتكامل وتتطور داخل النسق الواحد. والمعول عليه في تقدم
العلوم وتطورها هو في جودة وتطور التنسيق لا في إبداع المفاهيم التي توجد
دائماً وفيَّة لأنساق ما أو شاردة عنها، وعادة ما تكتسب كمالاتها من
اندماجها داخل الأنساق المختلفة. إن مفهوم التشييء أو الاستِلاب هو مثلاً
من المفاهيم الرائجة في كثير من الفلسفات الحديثة، غير أنه يؤدي وظائف
مختلفة داخل كل نسق على حدة. فالوجودي يتحدث عن التشييء وكذا الماركسي؛
الحداثي وما بعد الحداثي، العقلاني والرومانسي كلاهما يوظف المفهوم ذاته
لكن ضمن أنساق مختلفة. وهكذا حينما ألَّف ابن خلدون المقدمة كان قد أحسن
تنسيق وتأليف أفضل ما أنتجه العقل الإنساني والإسلامي في موضوع العصبية
وقوانين العمران البشري، حتى أن أحد الكتاب المعاصرين -محمود إسماعيل-
استكثر عليه الإبداع واعتبر أن آراءه مسروقة من إخوان الصفا. والحق، إن
التنسيق ليس مُعطىً سهلاً لكل من أراد ممارسة الفكر والعلم. فالإبداع يكمن
في جودة التنسيق الناجع لا في اجتراح المفاهيم الباردة. وهذا أيضاً يضع
مقولة فليكس أتاري حول كون الفلسفة ما هي إلا إبداع المفاهيم موضع تأمل.
يتعين أخذ هذه المقولة في سياقها المجازي والدلالي، باعتبار المحذوف من
قيودها، أي المفاهيم الناجعة المساهمة في مخرجات ومدخلات الاستشكال
الفلسفي. فالمفاهيم موجودة لا يخلو منها زمان ومكان، ولكنَّ مشكلة
المفاهيم في مدى خضوعها للتطور والتجدد المستدامين. لكل مفهوم سياقه وزمنه
المحدد لفعاليته. فالفلسفة بهذا المعنى، هي في الحقيقة تطوير المفاهيم لا
إبداعها. وتطويرها يأتي من الممارسة التنسيقية. صحيح أن ابن خلدون لم يبدع
فكرة قوانين العمران البشري ولا مفهوم العصبية ولا غيرها من المقولات التي
وسمت فكرته العامة عن المجتمع والتاريخ في المقدمة، ولكنه تمكن من تنسيق
كل هذه الآراء ضمن نسق معرفي متكامل أكسبه قدرة تفسيرية عامة. والأمر نفسه
بالنسبة لنظرية المقاصد عند الشاطبي في كتاب الموافقات؛ فهي مما لم يخلُ
منها سفر من أسفار أهل الفقه والدراية قديماً وحديثاً، لكن براعته كمنت في
تنسيقها وإكسابها تكاملية وإمكانية تفسيرية عامة. وهكذا دواليك بالنسبة
لابن حزم وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وغيرهم ممن كان لهم شأن خاص عند
الراحل كما برز في مشروع نقد العقل العربي. وجب إذن أن نستدخل مفهوم
«البيتخصصية» أو الـ«العبر مناهجية» كي ندرك أن الأمر لا يتعلق بتقليد
محض. ومن هنا سندرك أن خلالاً ما ستعاني منه كل المواقف التي حاولت أن
تجعل من آراء الجابري آراء مبتكرة ليس لها أصل فيما سبق أو تلك المواقف
التي حاولت أن تسلب منه كل إبداعية إما بحجج بيبليوغرافية كما فعل طرابيشي
أو بحجج «حجاجية» ومنطقانية كما فعل طه عبد الرحمن. هذا وإن أصابا منه
مقتلاً في جوانب كثيرة لكنهم لم يحجبا كونه مشروعاً أثار من الأسئلة وفكك
من المركبات وبنى من القضايا ما كان له فضل على من انتقده بالمشاريع
النقدية الطولى. وقد سعى الجابري إلى تركيب مشروع نقدي متعدد المنظورات؛
فالأيديولوجيا التي مارسها هي، رغم منطقها النقدي أحياناً تبدو وفيَّة
لأصولها الإصلاحية والسلفية الوطنية. لقد أدرك أهمية الأيديولوجيا كمناضل
سياسي، لكنه عرف واجب أخذ مسافة موضوعية من غوايتها في ممارسته
الإبستيمولوجية. لكن وبما أنه أدرك استحالة التجرد منها كما أدرك جانبها
النهضوي، فهو مارسها بتحكم وتوجيه دون أن يبالي بمن ينتقده في ضوئها أو
ينتقده عليها. فالأوائل مغلوبون، لأن أهل المعرفة لم يعودوا يمنحون أهمية
للنقد حينما يكون ذا غايات أيديولوجية. والثواني مغلوبون، لأن لا أحد من
متنوريهم يملك أن يسلب الأيديولوجيا وظيفتها الاجتماعية ويقول بنقاء
الممارسة المعرفية خارج تسلط الأيديولوجيا ولو في الحد الأدنى من شبحيتها.
وتماماً مثل عبد العروي، لم يلتفت الجابري إلى نقاده واستمر في صمت كما لو
كان يقول: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وقد تجاهل الجابري أن النقد
لا يكون بالضرورة باجتراح مشروع حتى يتبين إن كان نُقَّاده سيقعون في
أخطاء أم لا. فالأمر يتعلق بمزاج ثقافوي يرقى أحياناً بالممارسة الثقافية
إلى نوع من الحرابة: أليس للثقافة سلطتها.. أليس صمت المثقف ممارسة أخرى
للردع؟!
2- ما حقيقة ما أسند إلى الراحل من إبداع؟
قبل سنوات حاولت
وضع رسم بياني لأهم المفاهيم والمصطلحات التي استند إليها الراحل في
مشروعه الكبير. وفي هذا السياق سعيت إلى رسم بياني لجينيالوجيا منقولات
محمد عابد الجابري والتي شكلت مفاهيم مفتاحية في مشروع نقد العقل العربي.
ولا تزعم شجرة نسب آراء ومفاهيم محمد عابد الجابري أنها نهائية واستقرائية
بل هي نموذجية. كما أنها لا تزعم أن الاستناد إليها كان استناداً فجًّا
تقليديًّا لا ينفع، بل قد تم توظيفها بحيوية يصعب ضبط أخطائها متى أخطأت
إلا بأدوات سبر معرفية كبيرة وعميقة. إن الدربة التعليمية للجابري تجعله
قادراً على تطويع المفاهيم حتى لو أساء إليها في عملية التطويع هذه.
فالجابري هو ممارس لفكر سعى باجتهاد إلى تنزيل مفاهيم فلسفية مشهودة على
واقع العرب، موجداً لها مصاديق في التاريخ والاجتماع العربيين. هكذا نجده
يقارب ظاهرة تذرير الذهنية العربية وانفصالها بأسلوب ماكدونالد وربط ظاهرة
التأخر باستقالة العقل بوحي من ماكس ويبر وربط الحضارة الإسلامية بالفقه
على طريقة هاملتون جيب وهرمسية التشيع كما عند هنري كوربان وفكرة المعقول
العقلي بوحي من فيستيوجر والمعقول الديني من درودس واللامفكر فيه والخطاب
التاريخي عند فوكو والقطيعة المعرفية عند باشلار والتوسير واللاشعور
النفسي عند فرويد واللاشعور المعرفي عند بياجي وبنية القرابة عند شتراوس
والعقل السياسي عند دوبراي والعقل المنظّم والمنتظم عند لالاند وهكذا
دواليك. إن الجابري هو مدين مباشرة لكل هؤلاء ولتلك المفاهيم/المفاتيح
التي شكَّلت عامل قوة ووسيلة تفكيك وبناء داخل مشروع أجاد تبسيطه كما لو
كان في سبيل عرض مدرسي يتغيّا به تجريب كل هذه المفاهيم وتنزيلها على مادة
التراث والواقع العربيين. وإذا كان العروي قبل ذلك قد أعاد أزمة الفلسفة
في الجامعة المغربية إلى ظاهرة نفوذ بعض المعلمين وأساتذة الثانويات الذين
خلطوا بين الفلسفة والأيديولوجيا، فإن ما يبدو إيجابيًّا هنا أن اقتحام
المعلم الممارس لحرم الدرس الفلسفي العالي يكمن في دربته على التوصيل
والتسهيل ومراعات متلقي هو دائماً عند هؤلاء مفترض في المستويات الدنيا من
الاستيعاب. هكذا إذا كان أغيار الجابري، أمكنهم تغذية المشهد بأسئلة كبيرة
ومشاريع حلول عميقة، فإن الجابري خلق تياراً داخل جمهور أدرك من خلال
مشروع الجابري فن التساؤل الفلسفي. إن جمهور الجابري هم الطلبة وأنصاف
المثقفين بالدرجة الأولى. لقد أنزل الجابري الفلسفة من كبريائها إلى
التداول العام؛ وهذا محسوب له أيديولوجيًّا ومحسوب عليه علميًّا. لا يوجد
مغربي أدرك مقرر دروس الفلسفة لأقسام الباكالوريا لم يقف عند هذا الأثر
الذي خلَّفه الجابري والذي استطاع انتزاع أول دكتوراه فلسفة في المغرب
-الذين درسوا الفلسفة من المغاربة درسوها خارج المغرب أو كان لديهم تخصصات
أخرى-. لقد حاول الجابري أن يسوس كل هذه المفاهيم المعروضة بنوع فائق من
الانتقاء لغايات أيديولوجية محض. فلو قورن بغيره من الأيديولوجيين لبدا
أكثر كياسة منهم في التفكيك والبناء. ولو قورن بأهل النقد المعرفي فسيظهر
أنه أيديولوجي بامتياز. غير أن ما يشفع له أنه يملك مشروعاً فيما هم لا
يملكون مشروعاً. أي أن الجابري سيُزايد عليهم بأنه يمارس المعرفة لغايات
إصلاحية وليس للمعرفة المحض.
* كيف نقرأ الجابري؟
1- السياق التاريخي لمشروع نقد العقل العربي
يحسب
للجابري أنه استعاد إشكالية النهضة إلى حضنها التاريخي في امتداده الذي
يستحضر الاستمرارية نفسها لفكر النهضة العربية في القرن التاسع عشر. وهو
ما حاول العروي أن يقطعه ضمن مشروع قطيعة، كنا نعتناه بالقطيعة الكبرى .
ومشروع الجابري كما تدين له الكثير من المحاولات النقدية العربية في أصل
وجودها وشرعيتها فإن نقد العقل العربي هو مدين لهذه المحاولة العروية
التاريخانية التي جاءت لتضع حدًّا لسلطة التراث على العقل العربي المعاصر.
وخارج هذا التسلسل المنطقي لمشروع نقد العقل العربي، سنكون قد أخطأنا
القراءة الموضوعية والتاريخية له، باعتبار أن الغايات التي ساهمت في نشأته
وتداعياته لها أهمية في استيعاب المشروع. وفي اعتقادي فإن قراءة العروي
ضرورية لاستيعاب الجابري. ليس الأمر له علاقة بفهم نصوص، بل بفهم سياقات.
بل إن الأمر يتطلب قراءة التجربة السياسية المغربية لا سيما الوسيطة منها
والحديثة، لفهم الذهنيات التي لا تستحضر مباشرة في بناء الأحكام الأكثر
صرامة على التراث السياسي والفكري. ويعزى الأمر إلى العروي المؤرخ الذي
كان يبني أحكامه انطلاقاً من وقائع وتوصيف دقيق تجاوز التاريخ من حيث هو
علم إلى التاريخ من حيث هو فلسفة. وكلاهما، العروي والجابري مدين لإعجاب
خاص بابن خلدون؛ يكتب الجابري أطروحته حول العصبية، كما لا يكفّ العروي عن
الوقوف عند أكثر نظريات ابن خلدون العملية ويجعل أكثر محاور مفهوم العقل
حول ابن خلدون. والإعجاب هنا نفسه له خصوصيته. فالجابري مغرم بالخلدونية
بينما العروي معجب بابن خلدون. والفرق واضح؛ إن العروي لا يمنح للقدامى أي
سلطة معرفية على الحاضر. إن إعجابه بالكائنات التراثية يمر عبر استيعاب
لمقولات الحداثة. وهذا هو الفارق الأساسي بين الجابري والعروي. فالأول
يبحث عن مؤانسة التراث بينما العروي رجل يراهن على القطيعة الثورية مع
التراث من دون شروط، مع السلفية عموماً ومع فكرة الانتقاء خصوصاً. إن
الجابري قبل أن يخوض في التراث ونقد العقل العربي عموماً، فهو ابن هذه
التجربة من الاستقلال وبناء الدولة والتنمية والمسار الديمقراطي المغربي
وأطوار النضال السياسي بعد الاستقلال؛ مخاض عاشه الجابري في البداية
كممارسة نضالية كما مارسه العروي كقلق فكري ووجودي. إنه المناضل داخل
الاستقلال والاتحاد الوطني والاتحاد الاشتراكي وأحد أبرز قياداته وكاتب
المشروع الأيديولوجي للحزب. هذه تجارب ثلاث لأحزاب انشقت من بعضها لتضعنا
أمام تجربة حزب المثقفين الذين ظلَّت لهم القوة النافذة داخل الجماهير
الشعبية إلى حدود مشروع التناوب التوافقي. سعى العروي منذ الأيديولوجيا
العربية المعاصرة والعرب والفكر التاريخي إلى الأصول الاجتماعية والثقافية
للحركة الوطنية المغربية إلى الربط بين التأخر وهيمنة الفكر السلفي.
والسلفية عند العروي هي عامة تستوعب كافة الدعوات التي تقول بإحياء الماضي
أو البحث عن نموذج نقي في الماضي يصلح لحاضرنا ومستقبلنا. فالجابري يبدو
سلفيًّا بالمعايير العروية للسلفية. ومع أن العروي نفسه يهجو طرائق
الانتقاء سواء من التراث أو الحداثة، إلا أنه في كل حجاجاته ينتقي أسوأ
شواهده من التراث. ومهما بدت هذه الدعوى في مقام التنظير أكثر عقلانية
وواقعية وعملية، إلا أنها تبدو في حقيقتها طوباوية؛ فالتاريخانية العروية
هي تنزيل تعسفي على الواقع العربي، كما أن الحديث عن وجود قطيعة يجب
الاعتراف بها بموجب هذه التاريخانية الكاسحة فجّر سؤال: نحن والتراث عند
الجابري لتكون أولى مبادرات الانقلاب على هذا التنظير التاريخاني لصاحب
الأيديولوجيا العربية المعاصرة. ولتبدأ مسيرة الثنائي الذي غطّى أو كاد
يغطي على المشهد.
2- من التقطيع الإجرائي إلى القطيعة الأنطولوجية