الجابري.. مدرسة العقل المفتوحة على المستقبل
|
| |
بفضل رجال الفكر والفلسفة الذين ينتصرون ببعد نظرهم النقدي لقيم الحداثة والعقلانية والديمقراطية، ظلت المعرفة العربية بما فيها المعرفة الإسلامية بتشعباتها النظرية والنقدية مجالا خصبا لإنتاج أسئلة التناقض المعرفي لفهم صيرورة المجتمعات العربية، التي تخلفت لقرون عن مسايرة الركب الحضاري، محمد عابد الجابري أحد أركان السؤال المعرفي والحضاري.
محمد عابد الجابري، المفكر العقلاني، والفيلسوف الرصين، ومربي الأجيال على أهمية المعرفة والفلسفة في حياة الناس وتجارب الشعوب، الذي حفر بمعول السؤال المعرفي أتربة الحقل الفكري العربي، ترك بلا شك-ساعة غيابه- فراغا كبيرا، في دائرة إعمال العقل العربي التي مافتئ مفكرون كبار من أمثال المهدي عامل، حسين مروة، محمد أركون، الطيب التيزيني، حسن حنفي ، ناصر حامد أبو زيد، عبد الله العروي، صادق جلال العظم، فيصل دراج، الطاهر لبيب، هشام جعيط. وغيرهم يحفرون بمعول الإصرار المعرفي، لكن دائما بمفاهيم جديدة مستمدة من قدرتهم المتجددة النابعة من الوعي النقدي، لفهم أسباب العطب الذي جعل هذا التأخر معطى موضوعيا، يعرقل كل إمكانية للدخول إلى روح العصر بمفاتيح العلم والمعرفة والفكر.
الفكر الذي تجاوز الحدود
محمد عابد الجابري المفكر والفيلسوف والمنظر والإنسان الذي اتخذ من مسار حياته المعرفية مجالا رحبا لفهم العقل العربي، وسبر مغاوير تكوينه، وتشريح بنياته، وسياسته، وأخلاقه، ونقده نقدا يرمي لبنائه في أفق تفاعله وتقاطعه المادي والجدلي مع المستقبل وآفاقه الرحبة التي تنشد الغد الأفضل والعيش الكريم للإنسان العربي أنى كان وأنى وجد، وهو أيضا المثقف العضوي بكل ما يحمله المعنى الغرامشي من دلالات للمفهوم، خصوصا أنه انخرط في صيرورة النضال الوطني ضد الاستبداد الكولونيالي في سن مبكرة، وبعد حصول المغرب على استقلاله واصل نضاله على واجهات متعددة، الحزبية منها والتعليمية والتربوية والجامعية والمجتمعية، إضافة إلى اجتهاداته النظرية والفكرية والإيديولوجية، باعتباره المنظر الأساسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو الذي صاغ تقريره الإيديولوجي الذي قدم في مؤتمر الحزب الاستثنائي سنة 1975.
مرة قال محمد عابد الجابري في أحد الحوارات معه موصفا حالة العرب وكأننا به يستبق واقع الحال ويستشرف المستقبل:
العرب، كسواهم من الشعوب، يحاولون الإنجاز، يحاولون العمل. هنالك الصين والهند والباكستان، وهنالك أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وهنالك روسيا؛ وهي، في شكل أو في آخر، في مثل وضعنا. لسنا وحدنا: هنالك الغرب وتناقضاته، وهناك غير الغرب. والغرب متعدد، ويعاني المشكلات نفسها التي نعانيها، وفق خصوصيات معينة، ومطلوب منه العمل، ويعمل. أما القول "نحن العرب... ونحن العرب..."، فلا طائل تحته! نحن واحد من "نحن" كبيرة جدًّا هي العالم الذي يسمَّى الآن "جنوبًا".
بعد رحيله انتبه جزء من المغاربة إلى ابن جلدتهم الذي شمل تأثيره العالم العربي جملة وتفصيلا، حتى قال المفكر المصري حسن حنفي : لا يوجد مفكر عربي إلا وتأثر بالجابري إيجاباً أو سلباً· ولا يستطيع واحد منهم أن يملأ فراغه بعد رحيله· وهو الفرق بين الكوكب والنجوم· أصبح يمثل الفكر العربي المعاصر· يشار إليه داخل الوطن العربي وخارجه، في العالم الإسلامي وفي العالم الغربي·
الجابري بين العقل والقلب
عُرف الجابري بمشروعه النقدي الثلاثي ''نقد العقل العربي'' وللمرة الأولى يُستعمل لفظ ''نقد'' كما استعمله ''كانط'' في القرن الثامن عشر بعد قرنين من النهضة، السادس عشر ونزعته الإنسانية، والسابع عشر ونزعته العقلانية· وأول مرة يُستعمل لفظ ''العقل'' كما استعمله الأنثروبولوجيون الفرنسيون مثل ليفي بريل· ووصفه بالعربي ومضمونه إسلامي·
تجمع ثلاثيته بين كانط وهيجل معاً، العقل النقدي، والعقل التاريخي· فالعقل النقدي هو تراث الأمة وإنتاجها الفكري، أي تاريخ وعيها كما فعل هيجل في ''ظاهريات الروح''· التكوين يسبق البنية، والبنية نتاج التكوين·
المفكر السوري جورج طرابيشي قاوم على مدى أزيد من عقدين، اكتساح الجابري للحفر في العقل العربي والتراث الإسلامي، وتصدى له في أكثر من مؤلف، لكنه عندما يعود بذاكرته إلى الوراء ويتذكر منشأ العلاقة بينه وبين الجابري يقول لنا: "كنا زميلين ولم نكن صديقين· ثم صرنا صديقين بدون أن نكفّ عن أن نكون زميلين، وهذا قبل أن تتطوّر بيننا تلك العلاقة الغريبة التي تمثّلت بزهاء ربع قرن من الحوار اللاحواريّ، منذ شرعت بالإعداد للجزء الآوّل من مشروع ''نقد نقد العقل العربي'' ردّاً على مشروعه الرائد في ''نقد العقل العربي''·ذلك أنّي التقيته، أوّل ما التقيته، على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق، قسم اللغة العربية· كان ذلك سنة 1959 يوم كان كلانا طالباً يجمعنا درس مشترك هو ذاك الذي يعطيه كبير أساتذة اللغة العربية الذي كأنه سعيد الأفغاني· لا أذكر أنّه في سنوات الدراسة تلك وقع بيننا أيّ صدام، ولا كذلك أيّ تفاهم· كنّا زميلين، ولم نكن صديقين· وكان بيننا ضرب من تنافس مكتوم، أو على الأقلّ هذا ما صارحني به يوم صرنا صديقين : تنافس لا على الأولوية في الصفّ، فقد كنّا كلانا من المتفوّقين، بل على الشعبية لدى البنات في الصفّ: فقد كان خجولاً بقدر ما كنت أميل بالأحرى إلى الجرأة..".
من شهادات استقيناها عن الرجل كان هناك إجماع كبير حول تواضعه وكثافة إصغائه، المفكر عبد السلام بنعبد العالي يقول عنه، "لم يكن ليشعرك على الإطلاق أن لديه علماً يريد أن ينقله إليك، وإنما أنه على استعداد دائم لأن يتعلم معك. كان يشعرنا أن الأرض مازالت خلاء، وأن علينا أن نؤسس الأمور من جذورها. بهذا المعنى يمكن أن نقول إن الفلسفة وتدريسها وتعريبها في المغرب أمور قامت على أكتافه.
ظل المفكر محمد عابد الجابري وفيا لفعل الكتابة النقدية، وظل ينشر إسهاماته في تطوير وبلورة المعرفة الإنسانية في العديد من المنابر العربية، بالإضافة إلى مواصلة سلسلته مواقف التي كان آخرها العدد 79، وهي في شكل كتيب للجيب مساهمة منه في تقريب الكتاب من أنامل المتلقي، والتي كان عبرها يناقش مواضيع الساعة في شكل مقالات. ظل وعي محمد عابد الجابري النقدي متدفقا بتعدد الأسئلة الفلسفية والمعرفية القلقة إلى أن وافته المنية في 3 من ماي سنة 2010 في مدينة الدار البيضاء عن سن تناهز 75 سنة .
آخر ما كتب الجابري
آخر مقال له حمل عنوان "الاعتزال": وهوية الدولة الأولى في المغرب، والذي نشر بزاويته الأسبوعية في ملحق ''وجهات نظر'' لـجريدة ''الاتحاد'' الإماراتية يوم الثلاثاء 4 ماي 2010، والذي نقتطف منه هذه الفقرة:
معلوم أن نظريات ابن خلدون التي عرضها في مقدمته الشهيرة تتركز، كما أكد هو نفسه، على أسباب قيام الدول وسقوطها وما يحدث فيها من العمران؛ ومعلوم كذلك أن آراءه في هذا الموضوع قد استخلصها أساساً من استنطاق تجربته السياسية في أقطار المغرب العربي، ومن تجارب الأمم السابقة، والتجربة الحضارية العربية الإسلامية بالتحديد· أما المحور الأساسي التي تدور حوله نظرياته تلك فهو العصبية والدولة في علاقتهما بالدعوة الدينية· وهذه العلاقة تتحدد عنده كما يلي:
1- ''العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه''، وفي مقدمة ''ما في معناه'' المصاهرة·
2- ''الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك''·
3- ''الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم''·
4- ''أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها''·
إذا نظرنا إلى هذه التحديدات من زاوية الموضوع الذي يشغلنا في هذا المقال والمقالات السابقة، موضوع الهوية الوطنية وتشكلها، فإنه بالإمكان الربط بين سؤال ابن خلدون: ''كيف تتكون الدول؟··'' وبين سؤالنا: كيف تتشكل الهويات، باعتبار أن ''الدولة الوطنية'' و''الهوية الوطنية'' هما بمثابة سفحي جبل واحد· ومن هنا يمكن النظر إلى ما دعاه ابن خلدون بـ ''الدعوة الدينية'' وبعبارة أوسع الثقافة (ولم يكن هناك فرق كبير بينهما في زمنه)، وما أطلق عليه اسم العصبية (وهي عنده قد تتسع لتشمل مجموعات من التحالفات القبلية وأماكن ''أوطانها'' ومصادر عيشها وأسلوب حياتها··· الخ، أقول يمكن النظر إلى هذين العنصرين بوصفهما يشكلان في ترابطهما ليس فقط ''البنية الكلية'' لـ ''الدولة'' بل أيضا لـ ''الهوية الوطنية