منذ القدم والإنسان يبحث عن تحقيق حاجاته الروحية وإحساسه بالتوازن النفسي ، بالإضافة إلى الحاجة إلى تفسير ومعالجة الوجود بما فيه من حياة وموت وظواهر طبيعية فكان الدين الطريق الذي يشبع تلك الحاجات النفسية والعقلية .وتعدّدتْ الاتجاهات والأشكال التي يعبدها الإنسان من العبادة الطوطمية القديمة التي تتخذ حيواناً ضخماً يعبده أولئك البسطاء ثم يقيمون وليمة بعد قتله وهي محاولة تعويضية ورمزية لقتل الأب والتخلص من سلطته كما يشير إلى ذلك (فرويد ) في نظرية التحليل النفسي .
وسارتْ على مر التاريخ ديانات متعدّدة تؤمن بتعدّد الآلهة كما تخبرنا الآثار السومرية والبابلية والسورية والمصرية القديمة والإغريقية والرومانية ،و يقوم فيها كل إله من تلك الآلهة بمهمة محدّدة ،وتحدّثت تلك الديانات – أيضاً – عن نشأة الكون وفسّرت ما يحدث في الطبيعة نتيجة القوى الميتافيزيقية بأوامر إلهية .
وجاءت الديانات الإبراهيمية المتمثلة في اليهودية والمسيحية والإسلام بفكرة التوحيد ولن نستطرد في هذا الموضوع إلا أنّنا سنركز على ارتباط الدين بالفقراء ؛ إذ نشأت الديانات وكان المتحمسون لها من الفقراء والمستضعفين بالدرجة الأولى لرغبتهم في الخروج من حالة الفقر والضعف والاستعباد ،فكان الفرعون المصري مثلاً ابناً للإله والواسطة بين الشعب والرب بالإضافة إلى كونه حاكماً وبهذا فقد جمع السلطة السياسية والسلطة الدينية ممّا أدّى إلى الاستقرار في الحكم وثباته في تلك الفترة التي كان يحكم فيها الفراعنة .
واليهود حينما جاءهم النبي موسى بشريعته تبعه كثير من الفقراء والمستضعفين وكان الأثرياء ضد ما يقول ويحكم لذا ورد في القرآن عن قارون الذي كان وزيراً للفرعون والذي كان فاحش الثراء : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) وفي سفر الخروج يقول الرب لموسى : ( أنا جعلتك إلهاً لفرعون ) وجاء في القرآن أيضاً : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) وجاء قوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) وكذلك ورد في القرآن قوله : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، وفي سفر الخروج يُذكر أن النبي موسى أرسله الإله لإنقاذ بني إسرائيل من العبودية والاضطهاد وقد واجه النبي موسى وأخوه هارون الفرعون ليحرّرا بني إسرائيل من الظلم لكنه أبى وزاد في قسوته عليهم فخرجوا إلى جبل سيناء ووضع لهم هنالك الوصايا العشر وهكذا خرج معه المستضعفون أما الأثرياء فكانوا في عداء مع النبي الذي جاء بعقيدة يبشر فيها بدينه .ويعدّ سفر الخروج الأهم من بين الأسفار اليهودية ولا نعجب أن يكون قد ورد فيه ما يكون عوناً للضعفاء من سن الصلوات والحج والصوم والأعياد بالإضافة إلى الصدقات وضريبة خيمة الاجتماع،وهيكل سليمان والوعد الإلهي بأرض فلسطين التي ستكون مكافأة لهذا الشعب المضطهد.
وبالنسبة للمسيحية التي ظهرت في فلسطين المليئة باليهود فإننا نرى النبي (عيسى ) أو ما يطلق عليه ( المسيح) قد قام بدعوته ولم يستمر طويلاً حيث مات مصلوباً في الرواية المسيحية ثم رفع إلى الله بينما عند المسلمين لم يصلب بل رفع إلى الله ،وقام بالتبشير للدعوة المسيحية بعده اثنا عشر رسولاً وقد تعرّضوا للمشقة والطرد والقتل ويُذكر في سفر لوقا:(قالت حكمة الله إنى أرسل إليهم أنبياء ورسلاً فيقتلون منهم ويطردون) .وقد طُرد النبي عيسى مع أتباعه وأطلقوا على أنفسهم الغرباء واهتموا في دعوتهم بالفقراء والضعفاء والعبيد لذا لا نعجب بعد هذا من طلب أتباع المسيح بأن ينزل عليهم مائدة من السماء في سورة من القرآن سميت كذلك بسورة المائدة حيث جاء فيها : ( إِذْ قالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبُنا ونعلمَ أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى بن مريم اللهمَّ ربَّنا أنْزِل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ) .
وبالنسبة للإسلام فقد كان أكثر من آمن بالنبي محمد من الفقراء والعبيد والمستضعفين لذا كان يعيره الأثرياء من أشراف مكة وقد طلبوا منه أن يتنازل عن دينه وأن يعطوه المال والجاه فلم يوافق وقد جاء كما روى البخاري أن قريشاً طلبت ْمن أبي طالب أن يثني النبي محمداً عن دعوته لأنه آذاهم فقال النبي : ( لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )
وقد جاء في القرآن عن نوح مع قومه: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ﴾ وهذه تعد تعزية لحال المسلمين ،لذلك جاء ذم للأثرياء في القرآن بقوله : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) وتعاطف نبي الإسلام مع الفقراء والضعفاء وتذكر ذلك الآية التي تقول : (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) والآية التي تقول : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) وأمر النبي بالصدقات والزكاة وتبعه كثير من الفقراء والعبيد .
وهنا سأذكر شيئاً وأرجو أن يكون حديثي مفهوماً بشكله الصحيح الذي أرتضيه وهو ما يتعلق بالفتوحات الإسلامية وما يحدث فيها من غنائم وسبايا وهو أمر كان طبيعياً ولكنّ بعض الفقراء ممّن لم يتغلغل الإيمان في قلوبهم ولم يكن لهم من همٍّ سوى الخروج من الفقر والعبودية فإنهم جعلوا من تلك المكاسب غايتهم في الفتوحات فإن مات فهو سينعم بحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون وإن لم يمت فسيحظى بالغنائم وسينعم بما يحصل من نساء بعد السبي وهذا ما يكرر فيه التاريخ نفسه ممّن لم يجد من الإيمان سوى الغنائم والسبي والحور العين بل تشدّدوا في رفض الدنيا وكرهوا أن يكونوا عاملين فيها أو منتمين إليها وهذا ما دفعهم إلى الموت عبر مشروع الاستشهاد الذي لم يكن لهم من مطمع فيه سوى أن يحظوا بالحوريات فكانت الحياة الأخرى هي مصدر متعتهم والموت بالنسبة لهم أفضل وسيلة لتحقيق تلك المتعة لذلك لا نعجب من المحتسبين الذين قاموا بإهداء الأكفان للمرضى في المستشفيات السعودية لتذكيرهم بالموت والآخرة وهم يحتسبون الأجر في عملهم هذا وقد استنكرت ذلك وزارة الصحة معتبرة أنه انتهاك لحقوق المرضى ولكن يجب ألا يغيب عنّا أن من يعيش في دائرة الآخرة دون أن يرى الدنيا فلن يجد سوى الموت ولا يعنيه بعد ذلك ما جاء في القرآن بقوله:( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ).
وإن خرجنا بعد هذا إلى الديانة البوذية لنجد بوذا (سد هارتا غوتاما) الذي خرج من قصره ونعيمه ليرى أمامه الفقر والعجز والمرض والموت ممّا جعله يهجر لذة الدنيا وهجر معها زوجته طالباً الوصول إلى الحقيقة التي توصّل إليها في تأمله وهي قطع العلاقة بالدنيا والزهد فيها والتقشف ليصل بعد ذلك إلى صفاء روحي أطلق عليه (النيرفانا) وقد تبعه في ذلك كثير ممن لا يملك شيئاً ؛ليكون الزهد والتقشف ملائماً لهم فاقتصروا على الأكل النباتي وعاش رهبانهم حالة تسوّل بآنية يضع لهم فيها الناس ما تجود به أيديهم ومثل ذلك ما كان عند الهندوسية التي سبقتها من خلال الزهد والتقشّف وتسوّل الرهبان واعتمادهم على العطايا بالإضافة إلى الطبقية التي أسستها هذه الديانة وعجزَ عن إلغائها المهاتما غاندي والتي تجعل الغني يرضى بغناه لأنه ينتمي لتلك الطبقة بينما يرضى الفقير بفقره لأنه ينتمي لطبقة العبيد .وتتفق البوذية مع الهندوسية في عدم أكل اللحوم وقد يقول لي أحدهم : إن عدم أكل اللحوم جاء بسبب الاعتقاد بالتناسخ ولكنني أقول إنّ الأصل في نشأة فكرة التناسخ كانت قائمة على دافع ماديّ تجعل من الفقراء يتعفّفون عن أكل لحوم الحيوانات التي تكون فيها روح بعض البشر في عملية (السامسارا) أي (التناسخ ) ،ممّا يجعلهم ذلك ينفرون من أكلها ليقتصروا على أكل لا يكلفهم الشيء الكثير.
وفي الشيوعية التي أعتبرها ديناً جاء به (كارل ماركس) فإنها كانت تصب في مصلحة الفقراء من خلال إلغاء الطبقية الاقتصادية وتحقيق العدالة والمساواة بالإضافة إلى تبشيرها بثورة (البروليتاريا) وهي الطبقة الكادحة ممّا جعل الفقراء أول المتحمّسين لها بينما فضّل الأغنياء أن يكونوا (رأسماليين) لتتضاعف ثرواتهم فكانت الشيوعية العدو اللدود للنظام الرأسمالي .
من خلال كل هذا الاستعراض يمكنني القول بأن الإنسان يحتاج لدين أو معتقد أو فلسفة ليحقق من خلاله توازناً نفسياً بيقين يستند إليه ويفسر من خلاله الحقائق لحل أزمته الوجودية وكان أكثر المتحمسين للأديان هم من الفقراء والطبقة الكادحة وبالتالي فالعامل الماديّ له حضوره القوي في الديانات والمعتقدات ويمكننا أن نقول في تعريف الدين بلا تردّد: ( هو ما آمن به الفقراء ) .
• سلمان عبد الله الحبيب