مصارع الحكام
عزت القمحاوي
2012-12-28
الموت في اللغة:
يموت
الجندي في حرب لم يخطط لها وربما لا يؤمن بعدالتها، يموت في الوحل أو فوق
الرمال، يموت بالجوع أو بالعطش أو بالخوف، يموت برصاصة يطلقها من الجهة
الأخرى جندي آخر لا يعرفه ولا يكرهه بشكل شخصي، وربما يموت برصاص زميل له،
لأن أحدهما ظهر رغمًا عنه في اللحظة أو المكان الخطأ.
الحاكم أيضًا
يموت، لكنه يموت بقراره الشخصي، يموت عندما يحن إلى الموت، عندما يقرر
بنفسه الوقوف في المكان أو الزمان الخطأ، لكنه لا يموت في المستنقعات
الزلقة أو فوق الرمال الساخنة قليلة الرحمة، بل على منصات الكلام. يموت
الحاكم في اللغة التي يستخرجها من الكتب الصفراء ليخاطب بها شعبًا متجددًا.
يموت بصورة قاطعة في الخطب، بعد ذلك يصبح العثور عليه في حفرة (مثل صدام
أو القذافي) أو في قصر (مثل مبارك وزين العابدين) تحصيل حاصل، ويأتي الموت
الطبيعي بعد ذلك تافهًا، أكثر تفاهة من موت جندي أو ذبابة، برصاصة في
الرأس أو بعصا في الدبر أو تلاشيًا على سرير المرض.
الفاتحة على روح الأمل:
لست
الوحيد الذي قرأ الفــــــاتحة وترحم وتوقف عن التلفــظ بصفة 'الرئيس' عند
ذكر السيد محمد مرسي، كثير من الكتاب والمتكلمين المصريين فعلوا ذلك في
الفترة الأخيرة من دون اتفاق أو تنسيق.
لم نفعل ذلك بسبب قوة ذاكرة
تحتفظ بسخونة الدم الذي سال بعد 25 يناير على مقربة من برلمان الإخوان،
الدم الذي أنكره الإخوان علنًا مجاملة للعسكر. ولم نفعل ذلك بسبب الدم
الجديد الذي أسالته ميلشيات الجماعة أمام بوابة قصر الرئاسة، وليس بسبب
يقين الفشل في وقف زحف البلاد إلى قعر هاوية اقتصادية محققة.
إسالة
قطرة دم، تهشم شرعية الحاكم، هذا مؤكد، لكن الشك في حدود مسئوليته عن
الجريمة، والأمل في يقظة ضمير تجلب القصاص يبقيان ورقة الشرعية مشدودة إلى
غصنها بخيط رفيع واه. وللأسف لا تمنح خطابات السيد مرسي لا تمنح أية فرصة
للأمل.
قرر الرجل بشكل حاسم التواجد في المكان والزمان الخطأ، والتحدث بلغة تشبه لغات كل الحكام الذين اتخذوا، بشجاعة خرقاء، قرار رحيلهم.
قرار من؟
لا
يكون التواجد في المكان والزمان الخطأ دائما قرار الحاكم، أو المعلن
حاكمًا. والثابت أن السيد مرسي لم يقرر بنفسه التواجد في هذا المكان، بل
جماعته التي وعدت بعدم ترشيح رئيس ثم رشحت خيرت الشاطر وعدلت إلى مرسي بعد
فشلها في رفع العزل السياسي عن الشاطر.
وهذه ليست المرة الأولى التي
يكون فيها الأضعف حاكمًا، واجهة لشخص أو جماعة. في مصر على الأقل ، وفي
تاريخها المعاصر على الأقل ـ حتى لا تتكاثر الوقائع وتضيع الفكرة ـ كان
الأضعف واجهة للأقوى. كان الرضيع أحمد فؤاد ملكًا واجهة لجمهورية سرعان ما
أسفرت عن نفسها، وكان محمد نجيب رئيسًا واجهة لزعيم سرعان ما أسفر عن
نفسه، وكان السادات واجهة لمجموعة من الأقوياء سرعان ما غلبهم بالحيلة، ثم
كرر ما فعله ناصر باختيار مبارك، الأضعف بين الجميع. ولعل مرسي الأشبه
بمبارك، في كون كل منهما واجهة تخفي خلفها وهمًا.
وجه الشبه لا يقف عند
حدود القوة والضعف؛ فالحكم في مصر الآن ـ أيًا كان اسم من يصدر الأوامرـ
ينتمي إلى نسق قديم، بل موغل في القدم؛ نسق يكافح من أجل ربط مشروعه
بالأزلي (بالله) احتل مكان نسق أقل إيغالاً في القدم.
كان مبارك من
سلالة العسكر الذين أسسوا شرعيتهم على النصر الوطني؛ فهو العسكري الأخير.
وصفه الإعلام الغربي الأرعن بـ 'الفرعون الأخير' بينما استند الفراعين
دائمًا على الدين وسيطروا بقوة الكهنة مع قوة السلاح، وهذا ما يجري اليوم
بخبال شديد، لكي يصبح محمد مرسي الفرعون المصري الأول بعد دولة العسكر،
لكنه لن يكون.
الأصيل والمستعار:
تحدث السيد محمد مرسي بعد
إقرار الدستور، عن النزاهة التي تمت بها العملية، عن تجاوزات طفيفة يدعو
إلى الحوار حولها، عن الرغبة في البناء، عن موقعه كخادم للوطن وليس سيدًا.
من
قبل كان الرجل قد فاز بالكرسي، وتحدث هو وجماعته عن الاحتكام إلى الصندوق
الذي صار عندهم عجلًا يضلون به فريقًا، مع أن الصندوق جزء من سلسلة تسبقه
وتعقبه. وقد سبقه خلط أوراق شديد وتبعته تعهدات لم يتم الوفاء بها وقسم تم
الحنث به.
كل هذا لم يمنع الخطاب من التغني بـ 'عرس ديمقراطي' ورئيس
خادم للوطن ومستقبل باهر. من أجل المستقبل تحدث عن الحب، لا التفكير أو
العمل، عن التكافل لا الحقوق. وبعد تمرير الوثيقة المسماة دستورًا دارت
اسطوانة الحب مجددًا والدعوة إلى حوار، على الرغم من أن الوقائع كلها تصف
عملية اغتصاب.
الطريقة تكشف عن نسق، وكأن من يحكم مصر ـ أيًا كان اسمه أو رسمه ـ تسلم القصر بحرسه وأثاثه وأدوات المائدة والخطاب الزلق.
بعد كل كسب للأرض يجري الحديث عن حوار، حول ماذا لا يهم. وزلاقة الخطاب
تحول البلاد إلى أرض زلقة لا تصلح مكانًا للعيش. لهذا توقف الكثيرون عن
وصف الرجل بـ 'الرئيس'. وقرأوا الفاتحة على روح الأمل.
الحب وتبعاته:
في
روايته 'رحلة في آخر الليل' يقول كاتب فرنسا المسكوت عنه كفضيحة؛ لويس
فردينان سلين: 'الحب هو اللامتناهي، وقد وضع في متناول الكلاب الصغيرة،
وأنا لي كرامتي'*.
على من يقدسون الحب أن يتفهموا قسوة سلين، هو قاس
حقًا؛ فكون الحب في متناول الكلاب، لا ينفي أهميته في حياتنا، مع ذلك
فالحب الذي يعنيه في الرواية كان حب الوطن القائم على علاقة الجندي
بالقائد وبالوطن نفسه. وهذا النوع من الحب لا يجب أن يكون زلقًا كما يبدو
في خطابات السيد مرسي.
ولم أكن لأتبين رخاوة الوحل البارد ـ التي
ربما يراها البعض رخاوة الرمل الملتهب ـ في خطابات مرسي لولا الكوميدي
الشنيع باسم يوسف الذي جمع في برنامجه 'البرنامج' المقاطع التي أسرف فيها
مرسي في الكلام عن الحب. لكن باسم لم يفته توثيق عبارة مرسي عن الردع
بالقانون، وقد جاءت مثل رصاصة طاشت واستقرت في زلق الوحل أو هشاشة الرمل.
لم تخف أحدًا، لكنها أعادت التذكير بديمقراطية السادات ذات الأنياب
والمخالب، وأكدت أن للحب تبعات لا يقدر عليها غير المحبين.
' ترجم رواية سلين إلى العربية أحمد علي بدوي